انتقلت الضبابية التي تلفّ مفهوم الإلحاد لدى الجمهور، إلى شاشات السينما المصرية. الأفلام القليلة التي تناولت شخصية الملحد تناولته كشخص منحل أخلاقياً أو مجنون أو شخص مادي بلا قيم أخلاقية أو عواطف إنسانية، دون مناقشة حقيقية للأفكار التي يتبناها، وكثيراً ما ينتهي الفيلم بتوبة الملحد إلى الله.
وتُعتبر قضية الإلحاد من القضايا الفكرية والاجتماعية الشائكة في المجتمعات العربية، ولم تأخذ حقها الكافي من الدراسة والعرض، الأمر الذي يجعل منها مُبهمة معرفياً، فلا يُفرّق كثيرون بين الملحد والشيوعي والعلماني...
من المجتمع إلى السينما
انفتحت مصر في النصف الأول من القرن العشرين على أفكار الليبرالية الاجتماعية والتعددية الفكرية، وتعددت التيارات السياسية والاجتماعية والفكرية التي انتشرت فيها، ما كفل حرية الفكر والتعبير لدى المصريين.
ظهرت الحرية الفكرية في عدة مواطن إبان الحقبة الليبرالية، فقد نُشرت عدة أعمال تخالف الثقافة السائدة، وسط ردود أفعال متباينة، منها ما نشره طه حسين عن الشعر الجاهلي وعلي عبد الرازق عن الخلافة الإسلامية وعبد العزيز فهمي عن وضع المرأة في المجتمعات العربية...
وبخصوص قضية الإلحاد، نشر الكاتب إسماعيل أدهم كتابه "لماذا أنا ملحد؟" عام 1937، مثيراً ردود أفعال واسعة تجسدت في نشر الكاتب الإسلامي محمد فريد وجدي كتابه "لماذا هو ملحد؟" ونشر آخرين "لماذا أنا مؤمن؟"، وسط مناخ اجتماعي يسع جميع التيارات الفكرية.
يشير الكاتب والناقد السينمائي محمود قاسم إلى أن "مسألة الإلحاد في المجتمع المصري انتشرت مع شيوع تيارات اليسار السياسي التي لعبت دوراً كبيراً في تعريف المصريين بشخصية المثقف الشيوعي المتمرد الذي يرفض العادات والتقاليد البالية، ويستنكر الوصاية الدينية".
ويضيف لرصيف22 أن "المجتمع المصري مُتشبع بالتعاليم الدينية فهو كما يقولون ‘شعب متدين بطبعه’، ومن الصعب ظهور أو نمو التيارات المادية التي تشكك في وجود الإله والأديان... لذلك فإن المصري لا يريد أن يدفع ثمن تذكرة سينما ليشاهد شخصاً ملحداً يشكك في وجود الله".
متشكك أم ملحد؟
تعددت الأفلام السينمائية التي جسّدت شخصية الملحد. يفرّق الروائي المصري وعضو الجمعية المصرية لكتّاب ونقاد السينما روبير الفارس بين الإلحاد ونقد الفكر الديني، ويقول لرصيف22: "الأفلام التي تتعرض للفكر الديني عُرضت وتقبّلها المصريون في إطار كوميدي، بينما لم تحظَ الأفلام التى عرضت شخصية الملحد بالاهتمام الكافي، لعدم ميل المصريين إلى هذه النوعية من الأفلام".
من أول هذه الأفلام فيلم "الشحات" المأخوذ من رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم. أنتج الفيلم عام 1973، وهو من بطولة الفنان محمود مرسي، ويتحدث عن المحامي "عمر الحمزاوي" الذي ينتمي إلى الطبقة الغنية ويساوره قلق وجودي حول مغزى الحياة البشرية وسر الكون والإيمان بالله، فينغمس في الملذات الجسدية كالخمور والنساء ليبحث عن معنى في حياته.
يصل الأمر بالحمزاوي إلى أن يقايض عشيقته وردة مع صاحب الكبارية الذي كانت تعمل فيه، مقابل أن يجيبه عن سؤاله: هل يؤمن بالله أم لا؟
يرفض "الخواجة" الحوار ليبقى عمر الحمزاوي تائهاً لا يجد إجابة عن سؤاله. وفي نهاية المطاف لا يجد الإجابة التي ينشدها في الملذات الجسدية، فيقرر العزلة والتصوف ليجد الراحة والطمأنينة الإلهية التي تعيده إلى أسرته وحياته الاجتماعية مجدداً.
يقول الفارس إن "فيلم الشحات يُعتبر من أول الأفلام التي تعرضت لمناقشة قضية الوجود الإلهي في السينما المصرية، ويتضح منه أن عمر الحمزاوي ليس ملحداً وأنما يبحث عن المعنى والمغزى الإلهي من الحياة، فهو لم يصل بعد إلى إنكار وجود إله، وهو ما يميّز بينه وبين شخصية الملحد الذي حسم قضية الوجود بتبني أفكار نظرية وحجج علمية، بغض النظر عن صحتها أو بطلانها، تُنكر وجود الخالق، وهي الشخصية التي لم تظهر في أي من الأعمال السينمائية، عدا ‘الرقص مع الشيطان’، وبصورة جزئية".
بطل الإلحاد على الشاشة
الفنان نور الشريف (1946-2015) هو أحد ألمع الوجوه السينمائية في تاريخ السينما المصرية والعربية، إذ قدّم العديد من الأدوار السينمائية والتلفزيونية التي مثّلت علامة بارزة في ذاكرة السينما والدراما.
الأفلام القليلة التي تناولت شخصية الملحد تناولته كشخص منحل أخلاقياً أو مجنون أو شخص مادي بلا قيم أخلاقية أو عواطف إنسانية، دون مناقشة حقيقية للأفكار التي يتبناها، وكثيراً ما ينتهي الفيلم بتوبة الملحد إلى الله
يشير محمود قاسم إلى أن "نور الشريف من الممثلين المثقفين أصحاب وجهات النظر، فقد كان يسارياً وعضواً في حزب التجمع، وهو حالة متطورة من الوجود الشيوعي في مصر، بالإضافة إلى كونه ممثلاً مطلوباً في الربع الأخير من القرن العشرين، نظراً إلى تعدد مواهبه وإجادته كل الأدوار، فهو باختصار مُمثل ناضج".
حصد نور الشريف نصيب الأسد من الأفلام التي عرضت شخصية الملحد أو المتشكك العقلاني على شاشة السينما. فقد ظهر في "السكرية" (1973) وهو الجزء الأخير من "ثلاثية القاهرة" لنجيب محفوظ، في شخصية كمال عبد الجواد، الأستاذ المثقف والكاتب الصحافي الذي يتميز بالحيرة والشكوكية ويرعى ابن أخته الكاتب الصحافي الشيوعي، ثم ظهر في "الأخوة الأعداء" (1974) في شخصية شوقي الأرماني، المثقف الملحد الذي يجاهر بإنكار الوجود الإلهي.
بعدها، ظهر في "لقاء هناك" (1976) في شخصية عباس سلطان، الشاب الذي يرفض وصاية والده الدينية ليصل إلى رفض الوصاية الإلهية، ثم في "أصدقاء الشيطان" (1988) مجسّداً شخصية جلال، الشاب الذي تُقتل حبيبته في ليلة زفافه فيرفض الموت ويسعى إلى الخلود، وأخيراً في "الرقص مع الشيطان" (1993) في شخصية أستاذ جامعي عائد من بعثة دراسية من الاتحاد السوفياتي محملاً بالأفكار المادية والإلحادية.
من بين هذه الأعمال الخمسة، تميّزت ثلاثة، ظهر فيها نور الشريف كشخص ملحد صراحة، ولا يعترف بالوجود الإلهي أو بالأديان السماوية، وهي "الإخوة الأعداء" و"لقاء هناك" ثم "الرقص مع الشيطان".
"الإخوة الأعداء" هو فيلم شارك فيه كوكبة من النجوم المصريين من إخراج حسام الدين مصطفى، ومأخوذ عن رواية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي "الإخوة كرامازوف"، ويحكي عن أب سكير يعشق مُغنية شعبية ويعيش مع أبنائه في علاقة متوترة بسبب الاختلاف السلوكي بينه وبين أولاده.
أحد هؤلاء الأبناء هو شوقي الأرماني والذي جسد شخصيته الفنان نور الشريف، وهو شاب مثقف ملحد لا يعترف بالله أو بالأخلاق والواجبات، وتُلهم أفكاره الإلحادية أحد إخوته فيقوم بقتل أبيهم.
ـ بره وصلو للقمر وحنا لسه غرقانين في الجهل
ـ أيوا بس العلم عمره ما سيطر على الموت
ـ شوفي يا هند في يوم من الأيام العلم هيسيطر على كل شيء، حتى على مصايرنا
ـ بإرادة ربنا
ـ إحنا أصحاب الإرادة
(حوار بين نور الشريف وصباح السالم في فيلم "الرقص مع الشيطان")
يقول محمود قاسم إن "الفيلم حدث فيه تحريف للرواية الروسية ليُناسب الثقافة المصرية المحافظة، فإيفان كرامازوف لم يعد إلى الله كما عاد شوقي الأرماني صارخاً في قاعة المحكمة أن ‘الله موجود’ في نهاية الفيلم".
أما فيلم "لقاء هناك" فهو من أكثر الأفلام السينمائية التي تعرضت لقضية الإلحاد بشكل اجتماعي ظاهر، وهو من مأخوذ من رواية "لقاء هناك" للكاتب عزيز أباظة، من بطولة نور الشريف وسهير رمزي.
يقول الكاتب والناقد السينمائي مصطفى بيومي لرصيف22 إن فيلم "لقاء هناك" هو "حالة متقدمة عن الرواية التي كتبها عزيز أباظة، والتي تتحدث عن شاب عانى في طفولته من الوصاية الأبوية ليصل إلى رفض الوصاية الإلهية في الفيلم، لأن الدين يمنعه من الرتباط بفتاة مسيحية أحبها.
في الفيلم، نرى "عباس" يحاجج بحريته وإلحاده طوال الوقت، ونتيجة لتدهور حالة زوجته الصحية في مخاضها يتضرع إلى الله طالباً منه السماح والمغفرة، لتنجو زوجته ويصل المولود إلى الدنيا بسلام.
آخر الأعمال السينمائية التي جسّد فيها نور الشريف شخصية الملحد هو فيلم "الرقص مع الشيطان"، وهو من أفلام الخيال العلمي القليلة في السينما المصرية، ويحكي عن أستاذ جامعي عائد لتوه من بعثة دراسية لدراسة الدكتوراة في الاتحاد السوفياتي، ولا يؤمن إلا بالمادة والعلم التجريبي.
يدور حوار بين "الدكتور واصل" وبين حبيبته عن العلم والدين في المجتمعات العربية، فيقول: "بره وصلو للقمر واحنا لسه غرقانين في الجهل"، فترد هند: "أيوا بس العلم عمره ما سيطر على الموت ولا اتحكّم في الرزق"، فيعلّق الدكتور: "شوفي يا هند في يوم من الأيام العلم هيسيطر على كل شيء، حتى على مصايرنا"، فتجيبه: "بإرادة ربنا"، فيقاطعها بقوله: "إحنا أصحاب الإرادة".
يعتبر الفارس أن حوار واصل وهند الذي يدور بين لدقيقتين 11 و12 من الفيلم، "هو أحد الحوارات النادرة التي تعرضت لإيدولوجيا الإلحاد في السينما المصرية".
المُلحد بعد ثورة يناير 2011
أحدثت ثورة 25 يناير 2011 تغييرات سياسية واجتماعية عميقة في المجتمع المصري، لم تنعكس على السينما المصرية بشكل كبير، فمع انتشار الأفلام الاجتماعية التي تناقش قضايا الفقر والإرهاب والجريمة، لم يظهر إلا فيلم مصري واحد يناقش ظاهرة الإلحاد رغم الضجة التي أحدثها ظهور المُلحدين على القنوات الفضائية وفي المجال العام مع تصاعد التيارات الاسلامية عامي 2012 و2013.
إنه فيلم "المُلحد" من تأليف وإخراج نادر سيف الدين، وتمثيل ممثلين شباب يخوضون التجربة لأول مرة، ظهر عام 2014، بعد أربع سنوات من العمل عليه، وتدور قصته حول ابن لأحد الدعاة الإسلاميين المشهورين يتجه نحو الإلحاد، ما يُثير غضب أسرته والمقربين منه، نظراً إلى خلفيته الدينية.
لم ترحب دور العرض بـ"الملحد"، فقد عُرض في 14 دار عرض فقط من أصل أكثر من 100. ويرى روبير الفارس "أن الفشل الذريع الذي واجهه الفيلم لا يرجع إلى حساسية قضيته بقدر ما يرجع إلى ضعف الفيلم درامياً وإنتاجياً".
ويقول: "لم يقدّم أي أفكار نظرية عن ماهية الإلحاد، ولم يقدّم أيضاً حبكة درامية متماسكة تُمتع المشاهد، ولم تتوفر فيه أي من عناصر التشويق والإثارة".
ويعتقد الفارس أن "السينما المصرية لن تستطيع إنتاج أي فيلم جاد عن هذه القضية، بسبب الضبابية التي تحيط بها لقلة الدراسات العلمية والميدانية التي ترصد الإلحاد والملحدين في المجتمع المصري".
ثيمة متكررة ونهايات واحدة
يرى بيومي أن "قضية الإلحاد لم تُناقش أصلاً على شاشة السينما المصرية أو العربية، وذلك لكون الثقافة العربية تمنع منعاً باتاً أن تظهر شخصية تنكر الخالق وتُمنح لها مساحة كافية لتعبّر عن أفكارها، فخلال 90 عاماُ وهو تاريخ السينما في مصر ومن بين 4000 آلاف فيلم مصري، لم يناقش فيلم مصري واحد قضية الإلحاد بشكل حقيقي".
ويضيف: "الثقافة تلعب دوراً رئيسياً في ما يعرض على شاشة السينما، ففي حين أنتجت السينما الأوروبية والأمريكية عشرات الأفلام حول هذه القضية سواءً بالنقد أو التأييد، وذلك لوجود مناخ ديمقراطي ليبرالي حر، لا يجرؤ أي كاتب مصري أو عربي على صياغة سيناريو يتعرّض لإيديولوجيا الإلحاد بشكل صريح".
ويشير بيومي إلى أن "الرقابة تحيط بالمؤلف من كل مكان، فهناك الرقابة الداخلية التي تأتي من شعوره وهواجسه حول كيفية استقبال الجمهور لما يُكتَب أو يُؤلَف إذا كتب في مناطق مُحرمة، وهناك الرقابة الخارجية المتمثلة في رقابة الدولة والسلطة الدينية والاجتماعية حول ما يتم إنتاجه مكتوباً أو ممثلاً على الشاشة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...