شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
اعتقال طبيب بتهمة

اعتقال طبيب بتهمة "نشر الإلحاد"... شهادات حول اللادينية في العراق كـ"ظاهرة تتمدد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 12 مايو 202005:53 م

في 11 أيار/مايو، اعتقل جهاز الأمن الوطني في محافظة الديوانية العراقية طبيباً بتهم "الدعوة إلى الإلحاد والتهجم على النبي محمد وعرضه وآل بيته من خلال صفحات وهمية في موقع فيسبوك"، وسط مؤشرات إلى أن الحكم عليه سيصل إلى السجن عامين وفق المادة 372 من قانون العقوبات العراقي، مع إشارة إلى "اعتراف المتهم وعدم شعوره بالذنب".

وقبل نحو أسبوع، تداول ناشطون عراقيون مقاطع فيديو لأُسر وعناصر من ميليشيات "سرايا الإسلام" يهينون شباباً قيل إنهم انتقدوا أو أساءوا إلى الزعيم الشيعي مقتدى الصدر.

وفي 13 نيسان/أبريل الماضي، طلب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني من القضاء العفو عن شخص محكوم بالسجن عامين منذ كانون الأول/ديسمبر عام 2019 "لنشره ما يسيء إلى سمعة المرجع على صفحته الشخصية".

حوادث متتالية تكشف عن القمع المتزايد لكل من يمس "المقدسات والرموز الدينية" في البلاد، وسط مؤشرات حول اتساع ظاهرة "اللا دينية" في أوساط الشباب العراقيين.

يعلّق عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق علي البياتي في حديثه لرصيف22 بالقول: "بينما لا ينكر أحد حق كل شخص في اعتناق ما يراه من معتقدات، من دون إجباره على التخلي عنها أو الإضرار بحريته في ممارسة هذه المعتقدات، نرفض الإساءة الفجة للمقدسات الدينية باعتبارها تجاوزاً لآفاق حريات الإنسان وحقوقه وليست من قبيل الحرية".

ويضيف: "القانون العراقي واضح في هذا الإطار، ونفترض أن تكون النخبة المثقفة أكثر وعياً والتزاماً بنصوص القانون".

تهديد "مرتد" بالإرسال إلى سوريا

مصطفى علي (لا ديني عراقي، 18 عاماً) يقول لرصيف22: "في العراق يُعاقب جميع أصحاب الرأي المعارِض، سواء للحكومة أو الدين أو رجاله"، مستطرداً "تركت العراق في نهاية عام 2018، وكنت قبلذاك قد تركت الإسلام بين عامي 2015 و2016، إذ كان عمري نحو الـ15 عاماً".

يُلمح علي إلى أن "عدم توفر الأمان وحماية الحريات" كانا من أبرز أسباب انتقاله وعائلته إلى تركيا. لم يكن يومذاك قد أطلع أسرته على تخليه عن الإسلام، لأن "من يجاهر بذلك أو يمس الدين الإسلامي، وإن كان من أسرة مسلمة، يُقتل على أيدي أفراد عشيرته أو عائلته وجيرانه، وغالباً على يد الميليشيات التي هي فوق القانون"، بحسب قوله.

ولد علي لأب مسلم شيعي وأم مسلمة سنية، وترسخت المعتقدات الإسلامية فيه منذ الصغر. إلا أن فضوله دفعه، وهو في الحادية عشرة من العمر، للتساؤل عن النياندرتال (الإنسان البدائي) ولماذا لم يرسل إليه الله أنبياء، و"إذا كان الجميع يدين بدين أهله، فلمَ أعتبر ديني هو الحق؟"، وفق قوله.

خلال رحلة تساؤلاته، تنقّل علي بين الإسلام الشيعي والإسلام السني، حتى دخل في نقاش علمي ديني مع أحد أصدقائه، تمسك خلاله بالأسباب الدينية.

عندما تمكن صديقه من دحض حجته الدينية، كانت تلك "القشة التي قصمت ظهر البعير"، يقول علي. انتهى الأمر بتركه الإسلام، واعتناق المسيحية مدة من الزمن فتركها ثم التنقل من الربوبية إلى الإلحاد واللاأدرية فإلى "محاولة بناء فلسفتي الخاصة من دون اللجوء للتصنيفات"، بحسب قوله.

اعتُقل طبيب عراقي بتهم "الدعوة إلى الإلحاد والتهجم على النبي"، بينما جرى التركيز على "اعتراف المتهم وعدم شعوره بالذنب"... حوادث تعيد النقاش حول الإلحاد واللادينية في العراق والتعامل معهما، وأكاديمي يفصّل أسباب "الظاهرة" وتطورها التاريخي

لم يقوَ علي على إبلاغ والديه بذلك في العراق، "لأسباب كثيرة، أبرزها المشاكل التي كانوا سيسببونها لي. لم أستبعد أن يقوم أحد أعمامي بذبحي من دون الحاجة للمليشيات، فمنهم من يعملون مع المليشيات".

راهن علي على أن العيش في المجتمع التركي العلماني سيغير طريقة تفكير والده لكن هذا لم يحدث.

في أحد الأيام، سمع علي والده يقول عبر اتصال هاتفي مع أحدهم في العراق إن المشكلة الوحيدة في تركيا هي "حرية المرأة"، معبراً عن اعتقاده بأن "المرأة إذا ما تركت الحجاب أصبحت رجلاً".

جادله الشاب معترضاً على هذا الفكر، وحين أخذ الأب يناقش مستشهداً بآيات قرآنية، رد علي: "دينك باطل". هاتان الكلمتان فجرتا رحلة صراع دامت حوالى سنة، وتسببتا بضرب الابن وطرده من المنزل مع تهديدات بالقتل وإرساله إلى سوريا.

وثّق علي قصة تهديده عبر وسم #SaveMustafaAli، مثبتاً في تسجيل صوتي دعم والدته فكرة قتله كـ"عقوبة للارتداد عن ديننا"، حتى تصالحه مع والده الذي لم يجد في النهاية "خياراً آخر سوى تقبل الواقع".

"أمنيات بسيطة"

ليس علي وحيداً في بلد يبدو أن اصطدام تشدد الآباء بأفكار الأبناء المغايرة يأتي بنتائج شديدة، وهو يؤكد: "أعدادنا كبيرة لكن لا حول لنا ولا قوة، فلا القانون ينصفنا ولا المجتمع يتقبلنا".

ويسرد لنا قصص "شاب لا ديني من النجف لا يستطيع الإعلان عن هويته ويضطر إلى التمثيل أنه مسلم بعدما تعرض للتهديد بالقتل من المليشيات، وصديقة ملحدة، كما والدها، أجبرت على مغادرة العراق لانتقادها إحدى المرجعيات الدينية، وملحدة ثالثة هربت من أسرتها وتحيا مهددة".

حلا سعيد (اسم مستعار، 29 عاماً) عراقية تركت الإسلام وهربت من العراق في العام الماضي. لأن أسرتها متشددة دينياً. لم يكن مسموحاً لها نزع الحجاب أو التوقف عن ارتداء العباءة أو تعلم السباحة، وهذا ما تصفه بـ"أمنياتي البسيطة". لكن، "اللي تنزع الحجاب يعتبروها عاهرة ويقتلوها، لأن كلشي ممنوع على البنت ومسموح للرجال"، كما تقول حلا لرصيف22.

"اللا دينية ظاهرة والإلحاد محدود"

أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة بغداد علي طاهر الحمود يفصّل لرصيف22 المسألة. ويقول: "الإلحاد (إنكار وجود إله) موقف فلسفي من الوجود بأكمله. يتطلب هذا مستويات عالية من الإطلاع والتثقيف. لذا يوجد بحدود ضيقة جداً بين المثقفين والأكاديميين (العراقيين). لكن المنتشر اجتماعياً هو ‘اللا دينية‘ ورفض أشكال التدين"، مبرزاً أن "التعامل القانوني محصور في الحالات التي تثير الرأي العام".

وأضاف: "معدلات الاتهام القضائي بالتجديف أو إهانة المقدسات والرموز هي صفر. أولى الحالات التي سمعت فيها عن أحكام مشابهة كانت حالة المتهم بالإساءة إلى السيد السيستاني قبل العفو عنه، ومن بعده طبيب الديوانية"، مستطرداً "في أي مقهى شعبي يمكن سماع الكثير من التجديف والكفر وسب الذات الإلهية والنبي وأهل البيت، خاصةً بين الشباب".

"فضولي دفعني لتساؤلات وجودية وضعف الحجج الدينية جعلني أتخلى عن الإسلام"، "أمنياتي بسيطة؛ السباحة والتخلص من الحجاب والعباءة"... لادينيون عراقيون يتحدثون لرصيف22 عن أسباب تركهم الإسلام وهروبهم من بلدهم

ويلفت الأكاديمي العراقي إلى أن "ظاهرة اللا تدين تتسع بفعل سيطرة الإسلام السياسي على الدولة وأدائه الركيك، وتعدد الخيارات أمام الشباب عولمياً وتطلعهم إلى أنماط أخرى من الحياة يكون فيها الدين على الهامش، فضلاً عن الانفتاح الاقتصادي النسبي بعد عام 2003".

ويتابع: "الفقير أكثر ميلاً إلى التدين وممارسة الطقوس الدينية كوسيلة لمواصلة الحياة والحصول على بعض السلام الداخلي وطمأنة النفس بالتعويض الربوبي في الآخرة"، مشيراً إلى أن التحسن الاقتصادي الكبير لم يواكب الزيادة السكانية الضخمة من جهة والفساد الذي يتيح للقلة الحاكمة الاستئثار بالنصيب الأكبر من ناحية أخرى. وهذا ما دفع العراقيين إلى الثورة مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

يقول: "عقب عام 1990 (غزو صدام حسين للكويت) والحصار الدولي الشديد للعراق، حصلت موجات تدين ظهر فيها التيار الصدري شيعياً، والحركات الوهابية والسلفية سنياً. وبعد غزو أمريكا للعراق تبدل الوضع وأصبح الكثير من المتشددين ‘معتدلين‘ ونشأ الشباب الذين لم يعاصروا تلك الفترة بعيدين عن التدين".

ويدلّل على زيادة اللا دينيين بالأعداد "المحدودة" من الشباب الذين يشاركون في الصلوات بالمساجد والحسينيات والسفر لأغراض الحج والعمرة.

ما دور المليشيات؟

فيما يفترض الحمود أن سياسات المليشيات ساهمت في نشر اللا دينية، يستبعد أنها تعارض انتشار هذه الأفكار. قال: "لم نسمع خلال السنوات الماضية بتولي المليشيات معاقبة الخائضين في موضوع الذات الإلهية وهو أمر غريب. في المقابل، نجد أنها حساسة تجاه ظواهر عدة مثل المثلية الجنسية والإيمو، وتتحرك بقوة ضد من يمس الرموز الدينية أو السياسيين".

"بسبب الفساد المستشري في منظومة الدولة العراقية، فإن من يرغب في حفظ مصالحه مضطر للانتماء إلى إحدى جماعات الإسلام السياسي بشكل أو بآخر". 

يتابع: "في زمن صدام، في تسعينيات القرن الماضي، حصلت موجة اسمها ‘الحملة الإيمانية‘ قادها صدام حسين لفرض مظاهر التدين. حينذاك وقعت اعتقالات ومحاكمات وحالات إعدام بحق المجدفين والمتعرضين للرموز الدينية والمتهمين بالتحريض الطائفي وما إلى ذلك. لكن بعد عام 2003 لم يحدث هذا. وهو ما يدل على أن الحريات لا حدود لها في ما يتعلق بالأديان إلا أنها تصطدم بجدار صلب لدى المساس بالمليشيات وجماعات الإسلام السياسي، إذ ذاك يتعرض أصحابها للملاحقات القانونية أو للعقوبات المليشياوية".

بموازاة ذلك، ينبه الحمود إلى الفرق بين "حالات ‘العقاب المجتمعي‘ لمن يهينون أو يمسون الرموز الدينية، وتلك التي لا تصل إلى المحاكم بسبب تشدد كبار السن، كنهج مجتمعي لا قانوني".

وعن الأعداد الضخمة من الشباب المنتمين للميليشيات الدينية، يوضح: "بسبب الفساد المستشري في منظومة الدولة العراقية، فإن من يرغب في حفظ مصالحه مضطر للانتماء إلى إحدى جماعات الإسلام السياسي بشكل أو بآخر. لهذا أقول إن عدو هذه الفصائل ليس وجود تيارات أيديولوجية مناهضة بل مسائل أخرى مثل اقتصاد السوق وتحسن الوضع الاقتصادي والشفافية ومواجهة الفساد".

ويعقّب لافتاً إلى دراسةً أجراها "وجدت أن الفصائل الحسنة السمعة في البصرة لم تكتسب سمعتها من قناعة المنضوين فيها، بل لقدرتها على كسب انتماء الشباب بحفظ مصالحهم وتوفير فرص العمل والتعيينات الحكومية وغيرها من الميزات".

بالعودة إلى قصة علي، فهو يحلم بأن "تترسخ القيم العلمانية في المجتمع العراقي، ويتغير القانون"، بينما يعكف حالياً على الإعداد لـ"منتدى علماني عراقي بعنوان ‘آمارجي‘ (كلمة سومرية تعني الحرية) في تركيا عقب انتهاء أزمة كورونا". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image