ازداد الحديث في المدة الأخيرة عن اتجاه الكثير من الشباب العربي نحو الإلحاد نتيجة عدة دوافع اجتماعية ونفسية. شخصياً، أرى أن الردة عن الدين بصورته التقليدية يجب أن لا تدفع نحو الانجرار وراء معرفة يقينية أخرى. بل يجب أن تدفع بالإنسان للسعي والبحث والنقد والمعاينة بدلًا من اتخاذ الإلحاد أو الموقف اللاديني عقيدة جديدة تشابه بتزمتها ولانقديتها الدين. الواقع أننا لا نعلم يقينًا أن لا وجود لخالق ولقوى ميتافيزيقية غير مُدرَكة. لكن ما يجب نقده وتفنيده هو النزعة الدينية التي تتخذ الإيمان بوجود الإله دافعًا ومبررًا لصياغة منظومة أيديولوجية غير قابلة للنقد وتطلب من مريديها الطاعة العمياء وتدّعي لنفسها القدرة على تفسير كل شيء.
يجب أن لا يكون الخيار الوحيد لتاركي الدين هو الارتماء في حضن المادية أو الاستسلام للاجدوى واللامعنى. معنى الحياة يتأتى من التجربة ورحلة الاستكشاف ذاتها وليس من الإجابات الجاهزة التي تقدمها الأديان والأيديولوجيات الشاملة أو حتى النظريات العلمية التي يرغب البعض في منحها قدرات تفسيرية تتجاوز مجالاتها. فبين الإلحاد والتدين التقليدي يبقى حيز للتفكير والبحث وحتى للاعتقاد.
توظيف العلم في صراع الإلحاد والتدين
رغم العداء الظاهر بين المتدينين والملحدين فإن المشتركات بينهم كثيرة، أهمها اليقين والثقة بوجود أو عدم وجود خالق وسبب وغاية للوجود. يتصدر عالم الأحياء المعروف ريتشارد دوكنز قائمة الملحدين التبشيريين. نجح دوكنز في تأسيس تيار فكري، أدعوه الدوكنزية، من خلال عقد الكثير من المحاضرات وإصدار منشورات وتسجيلات وأيضًا من خلال فعاليات برعاية مؤسسة ريتشارد دوكنز للعقل والعلم التي انضمت في نهاية عام 2016 لمركز الاستقصاء. أبرز ما يميز هذا التيار هو الاعتقاد بأنالداروينية تثبت تهافت فرضية الخلق، فانشغل دوكنز وأنصاره باستثمار الداروينية في حربهم الخطابية مع المتدينين.
إذاً هل من إجابة بديلة عن سؤال الخلق؟
تاريخيًا، ليس دوكنز الوحيد الذي سعى لتجيير العلم. على سبيل المثال، صاغ النازيون نظريتهم الجيوسياسية (المجال الحيوي Lebensraum) ونظرية تفوق العرق الآري أيضًا بالاعتماد على مبدأ التطور حتى يبرروا عنصريتهم ونزعتهم التوسعية في محيطهم الأوروبي. بالطبع ليست الغاية هنا المقارنة بين أفكار دوكنز والنازية، إنما الإشارة إلى مخاطر إخراج النظريات العلمية من سياقها.
تشترك الدوكنزية مع التديّن التقليدي في نزعتها التبسيطية، وفي سعيها لدفع الناس للاختيار بين بديلين لا ثالث لهما: الدين أو الإلحاد. تقوم الدوكنزية كما أفهمها على: أولًا، الإيمان بأن نظرية التطور تقود بالضرورة للإلحاد، وأن التطور الذاتي للأحياء ينفي وجود خالق. ثانيًا، رفض القول بمحدودية المعرفة الحسية وقصور الإدراك العقلي عند الإنسان. ثالثًا، حصر فرضيات الخلق ضمن إطار الأديان التقليدية المعروفة.
يتساءل دوكنز: إن كان هنالك خالق فلماذا يتحمل عناء التخفي ويبقي في نفوس البشر الحيرة والشك؟ فقط لغاية الجدل، لنفترض أن الله استجاب لتساؤل الدوكنزيين فقرر أن يظهر في بث مباشر على فيسبوك، أو أن يحدد موعدًا للقاء جماهيري في ملعب او ساحة عامة، بحيث يقطع شك ضعيفي الإيمان باليقين. هل لك أن تتخيلي مسار الأحداث بعد أن اكتشف البشر أن الله موجود، وهو حقًا من أرسل الأنبياء وأوحى لهم؟ بقليل من التخيل والتفكير نجد أنه في اللحظة التي يتجلى بها الله تصبح الحياة بلا معنى. ستصبح الحياة مجرد سباق مع الذات على العبادة والطاعة والتقوى. منطقيًا، هل لعاقلة أن تختار البقاء لحظة واحدة في هذه الحياة الفانية في حين أن الجنة بملذاتها وديمومتها بانتظارها؟ هل لعاقلة حينها أن تنشغل بتجارة أو صناعة أو أي نشاط اجتماعي وتترك أداء الفرائض والنوافل وقيام الليل وصيد الحسنات؟ فالجائزة عظيمة وطريقها واضح، والعقاب أليم واجتنابه لازم، وللبشر عقول والاختيار سهل.
يضيف دوكنز تساؤلاً آخر حول أي نسخة من الرب يجب اعتمادها. هل هو رب المسلمين والمسيحيين واليهود، أم إله الشرق القديم بعل، أم آلهة البوذيين؟ لكن باعتقادي وراء ذلك التساؤل المحق سؤال أكثر أهمية: ما الذي يدفع الصيني والعربي والهندي الأحمر للاهتمام بفكرة الخلق وصياغة منظومات فكرية وطقوسية تدور حول ذات الفكرة رغم التباعد الزمني والجغرافي؟ من الصعب بت مسألة كهذه، لكن باعتقادي البحث عن الخالق أو المسبب هو المعنى الأسمى والأكثر عمقًا في التجربة الإنسانية. وليس من مصلحة أحد، ولا من مصلحة العلم ذاته، أن يوضع المنهج العلمي كنقيض لفكرة الخلق. بل إن البحث العلمي هو واحد من طرق كثيرة للبحث عن معنى الوجود، الإنساني وغير الإنساني. الصور التي تصدر عن وكالات الفضاء بشكل شبه يومي لا تفسر سوى القليل ولكنها في نفس الوقت تضيف المزيد من الأدلة على تعقيد الكون/الأكوان واتساع الفضاء وتنوّع الأجرام السماوية وتفتح المجال للتفكير باحتمال وجود أشكال أخرى من الحياة قد تكون أبسط أو أعقد من تجربتنا على كوكب الأرض. كمجموعة بشرية، خبرتنا التاريخية وقدرتنا الإدراكية ليست معزولة عن العدد المحدود من المعادن والموارد الطبيعية التي وجدناها على الكوكب، وإدراكنا مرتبط بما لدينا من قوانين فيزيائية وحاجات غريزية. أشكالنا وقدراتنا الفكرية والفيزيولوجية هي نتاج سياق معيّن سابق لوجودنا.
بالنسبة للأديان، فإن مشكلتها ليست في تبنّيها سيناريوهات محددة لقصة الخلق، إنما في جمودها وادعائها القطعية وتكبيل مريديها بمجموعة من الطقوس والسلوكيات الفردية والجماعية، أي بالمختصر تحولها من فكرة فلسفية إلى هُويّة. والثابت أنه كلما ابتعدت الأديان زمنيًا عن لحظتها التأسيسية زادت المسافة بينها وبين الفلسفة وفقدت فكرة الخلق حيويتها، فتتحول الأديان تدريجيًا لمزيج من الروايات الفولكلورية والأساطير الجامدة غير القابلة للنقاش.
التطور مقابل فرضية الخلق
من المستغرب المقابلة بين التطور والخلق وتصويرهما كنقيضين. التطور ليس نظرية شاملة بحيث تقارن بالخلق. التطور عبارة عن مبدأ في علم الأحياء ولا يتجاوز كونه قانوناً طبيعياً، كقانون الجاذبية والنظرية النسبية مثلًا. أما فرضية الخلق فهي أعم وأشمل، وتعالج تلك القوانين مجتمعة وأسباب وجودها. التطور إذاً قد يكون جزءاً من فرضية الخلق دون أن يتعارض معها. ولا ينبغي المقابلة بينهما كما يرغب التبشيريون من الملحدين والمتدينين.
يجب أن لا يكون الخيار الوحيد لتاركي الدين هو الارتماء في حضن المادية أو الاستسلام للاجدوى واللامعنى. معنى الحياة يتأتى من التجربة ورحلة الاستكشاف ذاتها وليس من الإجابات الجاهزة التي تقدمها الأديان والأيديولوجيات الشاملة أو حتى النظريات العلمية.
بالنسبة للأديان، فإن مشكلتها ليست في تبنّيها سيناريوهات محددة لقصة الخلق، إنما في جمودها وادعائها القطعية وتكبيل مريديها بمجموعة من الطقوس والسلوكيات الفردية والجماعية، أي بالمختصر تحولها من فكرة فلسفية إلى هُويّة.
قد لا يستطيع الإنسان بقدراته المحدودة أن يصل لتلك العوالم الماورائية، لكن يبقى احتمال وجودها قائم. والتطور بحد ذاته لا ينفي ذلك. لا بل قد يضيف سببًا آخر للاعتقاد بسببية الخلق ولاعشوائيته وانتظامه وفق أنساق وقوانين مصممة مسبقًا.
اللاأدرية كفلسفة أكثر توازنًا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...