وحش ذو قرون وحوافر، بوجه عنزة أحياناً، وأحياناً أخرى ظلام على شكل سحابة سوداء تسير بخفة تخترق الأجساد لتتحكم بأصحابها وتجبرهم على فعل مالا يرغبون بفعله. هذه فقط صور قليلة للشيطان الذي يتخذ أشكالاً وأسماء مختلفة، حسب موقعك الثقافي والديني، وسواء أكنت مهتماً بالدين أم لا، تعزى الخطايا جميعها لعبث الشيطان وألاعيبه، أبي الأكاذيب والغواية والخطيئة الأولى.
الولد السيء
بالرغم من أن صورة الشيطان بأغلبها مصنوعة من الأدب، أي من التصورات الخيالية الممزوجة بالإيمان اللاهوتي، لم يفشل الشيطان بأن يكون مصدر وحي لا ينضب.
سواء أكنا نؤمن بوجود الكيان المجسّد للشرّ الروحي أم لا، لكننا نبدي اهتماماً شديداً بصورته الأدبية والواقعية أيضاً، ونستخدمها على نحو متكرر: الطفل الذي يرنّ الجرس ويهرب، عشر مرت في اليوم الواحد، ناظر المدرسة الذي يضرب على أضابع التلاميذ في الشتاء، ساعي البريد الذي تسقط منه الرسائل سهواً، الأخ الأكبر، الوالد المدمن على الكحول، الشرطي الفاسد، رجل السلطة الساعي للحرب، كلها صور تنتاب البشر في لحظات ما ويصنعون من خلالها شخصية خيالية كاملة للشيطان، وبدون هذه الشخصية لن يعود هناك أدب على الإطلاق، إذ ستفقد اللغة نصف مفرداتها على الأقل، وتصبح "معقمة".
لم يذكر العهد القديم الشيطان سوى بصورة غامضة، كان تابعاً ليهوه وكان دوره هو اختبار إيمان البشر، كمساعد سري للرب، لكن العهد الجديد هو من أعطاه دور البطولة، وسمح له بإخضاع الناس للـ "تجربة"
لم يذكر العهد القديم الشيطان سوى بصورة غامضة، كان تابعاً ليهوه وكان دوره هو اختبار إيمان البشر، كمساعد سري للرب، لكن العهد الجديد هو من أعطاه دور البطولة، وسمح له بإخضاع الناس للـ "تجربة"، وكان مسؤولاً عن العديد من الأوبئة، ثم أصبح حاكم العالم لمدة 1000 عام قبل ولادة المخلّص يسوع.
ثم جاء الإسلام ليروي القصّة المعروفة عن عصيانه لأمر الله بالسجود لآدم، وليعتبره مسؤولاً عن الخطيئة الأولى، التهام تفاحة المعرفة التي حرم الله أكلها، والتي تفرعت عنها كل الشرور والخطايا اللاحقة، وهذا ما سنتكلم عنه لاحقاً.
لكن في العهدين القديم والجديد يظهر الشيطان كبطل ملحمي ورمز للتمرّد، وهذا ما جعل الأدباء يتخذونه مثالاً لما يمكن أن يكون عليه الشخص الفوضوي، المنتهك، الذي لا يخضع للقوانين السائدة ولا يلتزم بأخلاق، بغضّ النظر عن القيمة الحقيقية للتمرد المقصود هذا، كما عند الشاعر الإنكليزي وليم بليك، حيث خفف هذا الحضور التراجيدي لبطل من هذا النوع من "آثام البشرية"، إذ أعفي البشر، وخصوصاً السلطات، من تبعات آثامهم بإلقائها على الشيطان الذي يوسوس ويعقد اتفاقات شيطانية ويشتري أرواح الناس مقابل وهم بالخلود أو النجاح أو الفرار من أزمة.
وكان، في مرحلة ما، رمزاً ثورياً للخلاص من الملكية والإيمان بقيم الجمهورية، إذ رأى جون ميلتون (1608-1674)، الشاعر والكاتب الإنجليزي، فيه متمرداً على التفاوت الكبير في الرتب والقيمة لصالح الرب، على عكس دانته، الذي حمّله عيوب المجتمع كاملة، ويكاد ميلتون أن يعتبره شهيد مواجهة الاستبداد وعدم الخضوع، فتحمّل عذابه السرمدي بصبر، إذ "حمل صليبه" كما يجدر بنبي شجاع.
يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبرى التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية إلى إبليس ويجعله مسؤولاً عنها، فيحوله إلى فيلسوف كبير ومتكلم قدير
كما يُظهر الشيطان عند ميلتون في ملحمته الشعرية "الفردوس المفقود"، الفشل الذريع لفكرة الرب عن العالم، أو على الأقل هذه النسخة رديئة الصنع منه، إذ إن وجود الفجوة الهائلة المتمثلة بالشيطان تظهر فشل خطة الرب المثالية، واستحالة الخير الأبدي، ولا يمنح الإيمان بالله الخلاص ببساطة، لاستحالته.
يقول الرب ذلك بوضوح إذا أحضرنا ما صنعته يداه إلى طاولة التشريح وتساءلنا عن جدوى "صنعه"، في وقت كان بإمكانه الخلاص من كل الشرور والآثام دفعة واحدة.
هذه الفجوة المتمثلة بفشل "مشروع الرب" في العهدين القديم والجديد، وجد لها الإسلام حلاً وهو ما ناقشه الدكتور صادق جلال العظم في كتابه "نقد الفكر الديني"، في الفصل المعنون بـ "مأساة إبليس".
مأساة إبليس
في كل منظومة سلطوية، معرفية أو سياسية، ثمة نظرية "الشخص الثاني"، أو الرجل الواجهة، الذي يمثل الوجه القبيح لهذه السلطة، والاثنان معاً يقومان بلعب أدوار مخطط لها ومدروسة مسبقاً، كلعبة "الشرطي السيء والشرطي الجيد" التي تظهر في الأفلام الأميركية. أحدهما يمثل الوجه القبيح الذي مهمته تحطيم أعصابك وسحقك، ليأتي الآخر ويقدم لك صداقته مقابل اعترافك بجرمك، وهذه اللعبة على المستوى السياسي نجدها كثيراً في الأنظمة الفردية المتسلطة، حيث تروج فكرة أن الرئيس شخص جيد لكن المحيطين به لا ينفذون تعاليمه كما يملي عليهم.
على مستوى الأساطير الدينية لعب الشيطان هذا الدور، دور رجل السلطة السيء الذي يدفعك إلى المعصية والخطيئة، بينما ينتظرك الرب، هناك، تحت شجرة التوبة الوارفة، لتعلن ولاءك له والتبرّؤ من الشيطان الذي يظهر هنا كعدو للرب، بينما هو موظف لا غير.
هذه الفكرة نفسها، يقدمها المفكر صادق جلال العظم في "مأساة إبليس" التي جعلته بطلاً تراجيدياً مخلصاً لخالقه لكنه مكروه من عباد خالقه، فهو وقع في تناقض فرضه التعارض بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية، كما يشرح العظم، فعصيانه محسوب بدقة، وإلا ما كانت الخليقة أصلاً ولانتفت الحاجة إلى الأنبياء والرسل والكتب المقدسة، ولفقدت "خطة" الرب جدواها ومعناها أيضاً.
يسمي الدكتور العظم التناقض الذي وجد إبليس نفسه فيه بالـ "غربة"، ويورد مقطعاً للقطب الصوفي الحلاج، على لسان إبليس، يصف فيه عذاباته: "أفردني، أوحدني، حيّرني، طردني لئلا أختلط مع المخلصين، مانعني عن الأغيار لغيرتي، غيرني لحيرتي، حيرني لغربتي، حرمني لصحبتي، قبحني لمدحتي، أحرمني لهجرتي، هجرني لمكاشفتي، كشفني لوصلتي...".
في هذا المقطع الذي يبدو كنوع من عتاب المحبين أكثر من تمرد الأشرار وكرسالة عاشق متبتل أكثر من زعيم للشرّ المطلق، نجد الحلّ الذي فشلت المسيحية واليهودية في سد فجوته: الشيطان عبد مخلص، بل هو أكثر إخلاصاً من باقي الملائكة والرسل، وقام بتضحية عظيمة خضوعاً لمشيئة الرب وهو يعلم أن عاقبتها وخيمة وأبدية، ولهذا يطلق عليها لقب تراجيدي خاص بمأساة فريدة لعاشق فريد.
إذن، كما استخلص الدكتور العظم، الأمر ليس بالبساطة التي ذكرتها النصوص القرآنية من "عصيان" الأمر الإلهي، والتبجّح بتفوق عنصر النار على الطين، ولا حتى بالنزول إلى المستوى الثاني من التأويل كصراع بين الخير والشر، بل هي محنة مكتملة واختيار مصير أبدي بعينين مفتوحتين، واسترضاء للخالق الذي أمر بشيء وشاء بعكسه، وأيضاً هي اعتراف بقدرة الله على الخلق، إذ إن الله هو من صنع هذه التراتبية بأفضلية عنصر على آخر، ومن يكون الشيطان البائس، ليعكس هذه الحقيقة؟
يذكر الدكتور صادق العظم، إن الصفات التي أسبغت على إبليس أعطته، من حيث لا تدري، قوى خلاقة ومبدعة تثير الإعجاب. أعطاه الرب ملكوت الأرض والسماح بممارسة هوايته المحببة بإغواء البشر وتقديمهم قرابين للرضا الإلهي، لتلميع صورته كرب رحيم يقبل التوبة
هل انتهت القصة بطرد الله لآدم وحواء ومن الجنة وطرد إبليس نتيجة عصيانه؟ لا، إذ يبدو العقاب الإلهي المطبق على إبليس نوعاً من المكافأة المغطاة بثوب العقاب، مكافأة على ولائه الذي لا تشوبه شائبة ومأساته التي تحمّلها بشجاعة المخلصين.
أعطاه الرب ملكوت الأرض والسماح بممارسة هوايته المحببة بإغواء البشر وتقديمهم قرابين للرضا الإلهي، لتلميع صورته كرب رحيم يقبل التوبة أو كرب غاضب لا يسامح على معصية، وفي هذا نوع من المكافأة الخفية وليس العقوبة القاسية.
بل كما يذكر الدكتور العظم، إن الصفات التي أسبغت على إبليس أعطته، من حيث لا تدري، قوى خلاقة ومبدعة تثير الإعجاب: "فعلى سبيل المثال يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبرى التي قامت في تاريخ الحضارة الإسلامية إلى إبليس ويجعله مسؤولاً عنها، فيحوله إلى فيلسوف كبير ومتكلم قدير"، حسب ما جاء في كتاب "تلبيس إبليس"، كما أن وجوده المتعدد عبر نسله الذي لا يحصى ولا يمكن أن يفنى يضفي عليه المزيد من القدرة الخارقة، رغم الصور المشوّهة التي أوردها الفقهاء حول طريقة تناسله وكيفية دخوله لأجساد البشر.
الولاء والعودة
قانون المحنة المسيحي والإسلامي يعمل على نحو مأساوي في حالة إبليس وحالة المسيح أيضاً، فالمحنة والاختبار هنا ضرورة ميتافيزيقية لا يمكن التهرّب منها دون أن تنفي نفسك، وتدمّر إيمانك، المأساة هنا أننا لا تستطيع التفريق بين الإلهي والشيطاني، بل يندمجان معاً، ما يجعل الإنسان ضحية معاناة مستمرة، بينما أعان الله محمداً على "شيطانه" عبر نزع "البذرة السوداء" من قلب النبي، من قبل جبريل في المرة الأولى، ثم عبر إجباره على اعتناق الإسلام، كما ورد في الحديث.
كان إبليس رفيقاً أزلياً للرب، كان يعرف أكثر من أي ملاك آخر مقاصده وخططه وطبيعة قراراته، وارتضى، بما يشبه التواطؤ عير المعلن، الصورة القبيحة التي منحت له لإنفاذ مشيئة الرب، ليبقى وجه الرب نقياً كما يجدر به أن يكون، وهنا تكمن مأساته الأزلية
ويمكن النظر إلى المأساوي ككائن محكوم بالتدمير أو الكائن الذي يهدده التدمير في كل لحظة، لذلك لا يستطيع إبليس الذي تغير اسمه إلى الشيطان، بنوع من التلطيف اللغوي إلى حد ما، أن يكف عن القتال للحظة واحدة، أن يتوقف ويقول: لم أعد أستسيغ هذه التراجيديا المملة، أريد أن أذهب إلى البيت... لا يستطيع أن يكون سلبياً، أو حتى أن يتوب ويتحول إلى فعل الأشياء الخيرة، هو محكوم بالاستفزاز المستمر والمعاناة الدائمة، ولا يستطيع فكاكاً من وعده بالولاء ولا بالكفّ عن "التمثيل" والتحول إلى ملاك عادي، يسبح بحمد خالقه ويشكره.
كان إبليس رفيقاً أزلياً للرب، كان يعرف أكثر من أي ملاك آخر مقاصده وخططه وطبيعة قراراته، وارتضى، بما يشبه التواطؤ عير المعلن، الصورة القبيحة التي منحت له لإنفاذ مشيئة الرب، ليبقى وجه الرب نقياً كما يجدر به أن يكون، وهنا تكمن مأساته الأزلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...