"أرجوكم ادعموا حقوق المعنّفات… إحنا بدنا نعيش"، هذا ما قالته لي سارة (اسم مستعار)، إحدى النساء اللواتي التقيتهن، بالإضافة إلى عبير ورنا، للحديث عن معاناتهن كنساء معنّفات، وذلك بعد جريمة هزت الشارع الأردني قبل يومين، عندما قتل أب ابنته الأربعينية "أحلام" بأداة حادة على الرأس، خلخلت الدماغ وحطمت عظام الجمجمة. تحدثت الأخبار غير المؤكدة أن الابنة هربت بعد ذلك إلى خارج عتبة الدار وسقطت ودماؤها تسيل، على وقع أصوات الجيران: "حرام عليك".
وقد نشرت "الأردنية.نت" تغريدة، جاء فيها: "ما تزال جثة الشابة أحلام، التي قتلت على يد والدها بطريقة مروعة الأربعاء، في مركز الطب الشرعي، حيث لم يتسلمها أحد، رغم الانتهاء من تشريحها وإعلان سبب وفاتها وحيثيات مقتلها الذي هز الشارعين الأردني والعربي.". وقد عمم المدعي العام قراراً، يوم الأحد 19 تموز/ يوليو يحظّر نشر أي خبر يتصل بالقضية.
تأثراً بما حصل لأحلام، وبجريمة قتلها على يد أقرب الناس إليها، كشفت نساء كثيرات في الأردن والمنطقة العربية، عن أنهن يعشن كوابيس يومية وسيناريوهات بشعة في بيوتهن، التي من المفترض أن تكون "آمنة"، وهذه حقيقة أشارت لها أبحاث عديدة تفيد أن معظم حالات العنف ضد النساء تُمارس على يد أقرب الناس إليهن.
قصص تتقاطع مع قصة "أحلام"
وبالتالي، قررت أن أتواصل مع نساء تعرضن لعنف أسري، وتقاطعت قصصهن بزوايا مشابهة مع قصة أحلام، لكنها اختلفت عند الخاتمة لكون الأخيرة قد ماتت بسبب قتلها، بيد أنهن كن أكثر حظاً وكسبن أرواحهن، مثل عبير (اسم مستعار) ، 41 عاماً، التي كادت حياتها أن تنتهي عندما طعنها زوجها بظهرها متخذاً أسلوب الـ"موس كباس"، وفق ما ترويه لرصيف22.
عبير التي سدت أذنيها حيال نصائح والدة زوجها بألا تغلط وتوافق على طلب زواجه خوفاً من أن تتكبد "خطيتها"، دفعت ثمن أوهامها عندما راهنت نفسها على أنها قادرة على تغيير زوجها، وعولت على العطف والحنان اللذين ستغذي زوجها بها، بحسب ما تقول: "كنت أعتقد أن سبب شخصيته العصبية تعرضه لطفولة قاسية، لذلك قررت أن أمنحه حناناً يعوضه عن ماضيه ويمحو عصبيته، وبالفعل نجح هذا الأسلوب وكانت حياتنا الزوجية خلال الثلاثة أعوام الأولى من أحلى ما يكون، وكانت ثمرتها ابني محمد".
تضيف عبير وهي من الجنسية السورية وزوجها السابق أردني: "بعد تلك الأعوام، عاد إلى عصبيته من جديد، وفي يوم اكتشفت أنه على علاقة مع امرأة أخرى، فقررت أن أدافع عن نفسي وأخبرت أهله بذلك، وعندما علم بما ضربني ثم طعني بظهري بسكين بقي بعيداً عن قلبي خمسة سنتيمترات".
وعندما خيّرتها شرطة إدارة حماية الأسرة حيث تقدمت بشكوى ضد زوجها بين الذهاب إلى سجن النساء "الجويدة" حماية لها من القتل، وبين دار "الوفاق" التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، وهي دار لحماية ضحايا العنف الأسري، اختارت عبير الدار. "اسم الجويدة وحده كفيل أن أرفض الذهاب إليه"، تقول عبير.
"كنت الحالة الأولى التي خرجت من دار الوفاق ولم تعد، أفتخر أنني خرجت ولم أعد"، كررتها عبير أكثر من مرة بلهجة الانتصار، وكأن عدم تكرار العودة إلى دار "الوفاق" هو أمر من الصعب تحقيقه. قضت عبير وابنها هناك ستة أشهر، وأشادت بالمعاملة الحسنة في الدار. ولكونها سورية الجنسية وزوجها هو كفيلها، من شروط الدار أن يوافق هو على خروجها. وافق مقابل أن تتنازل عن شكواها بحقه وكانت شكوى شروع في القتل كما تروي.
تأثراً بما حصل لأحلام، وبجريمة قتلها على يد أقرب الناس إليها، كشفت نساء كثيرات عن أنهن يعشن كوابيس يومية وسيناريوهات بشعة في بيوتهن، التي من المفترض أن تكون "آمنة"، وهذه حقيقة أشارت لها أبحاث عديدة تفيد أن معظم حالات العنف ضد النساء تُمارس على يد أقرب الناس إليهن
لم تكتف عبير بتنازلها عن حقها في عقاب من حاول قتلها، بل صدقت وعود زوجها بأنه سيتغير وعادت إليه. تقول: "عادت عصبيته أكثر من قبل، كان يضربني بكل شيء، بالجنزير والعصا، وكان أحياناً يحبسني بالمنزل ويأخذ جواز سفري ويخرج"، وتخللت الاعتداءات عليها، عودته لخيانتها، إذ تعرف على امرأة لغاية استغلالها مادياً، فكان يغيب عن منزله ويبقى معها بضعة أيام. تقول عبير: "كنت أقول من الأفضل أن يبقى عندها، بدلاً من أن يصبح البيت جهنم عندما يكون موجوداً فيه".
أحياناً يكون مذاق الانتصار بعد طول معاناة أطيب، هكذا تعتقد عبير التي انتصرت على اعتداءات زوجها، وهي اليوم تعيش وابنها بعيدين عن أي تهديد، مثلما حدث مع أحلام.
سارة (اسم مستعار)، 30 عاماً، تعتبر نفسها الأكثر حظاً مقارنة بقصة الراحلة أحلام، وقصة عبير. فهي لم تمت على يد زوجها المعنف، ولم تسمح لقواعد العادات والتقاليد بأن تجبرها على البقاء عند أهلها بعيداً عن ولدها لأنهم "غير مجبورين فيه" بحسب قول أهلها. تروي لرصيف22 أنها كانت تعيش حياة "قاسية، كنت أتعرض لكل أشكال العنف الجنسي، الجسدي، واللفظي من زوجي، وفي لحظة قوة قررت الذهاب لحماية الأسرة، ومن هناك اخترت الذهاب إلى مؤسسة تُعنى بي حماية لابني ليبقى معي، لأن أهلي رفضوا أن أصحبه معي إذا عشت معهم بعد طلاقي".
عن تجربتها في المؤسسة، قالت: "أعوذ بالله يا شيخة، كنت أتعرض لكل الممارسات القمعية. خسرت وظيفتي بسبب منعنا من استخدام الهاتف، كل ذلك اعتبرته عادياً، لكن أن تشي الاختصاصية النفسية هناك بي بعدما أخبرتها أنني في فترة زواجي، كنت أحياناً أتناول أدوية مهدئة ممنوعة هرباً من العنف الذي تعرضت له. هنا أصبح الموضوع غير عادي، فمنذ تلك اللحظة حتى اليوم يناديني والدي يا مدمنة المخدرات".
تعيش سارة اليوم مع ابنها في بيت تدفع بدل إيجاره مما تصنعه يداها من مشروع اقتصادي تعمل عليه مع صديقتها في أحد شوارع العاصمة عمّان، وتعلق على حادثة مقتل أحلام: "أخ يهدد أخته بالقتل. الأخ يبقى حراً وأخته تسجن تحت مسمى الحماية، أب يقتل ابنته تحت مسمى الدفاع عن الشرف، أين الشرف في الموضوع؟ في أي كوكب نعيش؟".
أما رنا (اسم مستعار) وهي صديقة سارة، فكانت وفق ما روته عبير لرصيف22 قد ارتاحت على مدار أعوام من العنف الذي مارسه عليها والدها، بعد أن طلق والدتها التي لم تعد تعيش في الأردن، وبقيت هي وحدها واقفة على قدميها أمام الصعوبات الحياتية والاقتصادية. وبعد دعم مجموعة من النسويات لها ولسارة من خلال مساعدتهما بتنفيذ مشروعما الاقتصادي، استطاعتا جذب متعاطفات نحوهما، لكن سرعان ما انقلب الحال عندما نشرت صحيفة أردنية تقريراً يتحدث عن قصة نجاحهما.
التقرير الذي لقي صدىً واسعاً بعد نشره، قرأه والد رنا الذي عرف أخبارها عبر الصحف بعد فراق طويل. تقول سارة: "شعر أن صورته ومكانته الاجتماعية تزعزعتا بعد نشر التقرير، وذهب لمنزل رنا وجرها من شعرها وأخذها إلى منزله. استطاعت أن ترسل لي عنوان المنزل، وطلبت أن أبلغ حماية الأسرة إذا تعرضت للضرب من جديد، وبالفعل هذا ما حصل. ها هي الآن بجانبي على أمل أن يلتزم أبوها التعهد الذي وقعه بألا يعتدي عليها من جديد".
للمطالبة بوقف نزف الدم تحت مسمى "جرائم الشرف"، دعت نسويات وحقوقيون/ات لى تنظيم وقفة احتجاجية أمام مجلس النواب، ثم إلى تنظيم سلسلة بشرية أمام إدارة حماية الأسرة
القانون أولاً
لا شك أن حادثة مقتل أحلام أعادت قرع جرس العنف الأسري الذي تتنوع أشكاله في الأردن كالقتل مثلاً، هذا الجرس الذي نبّه أيضاً، وفق تحليلات حقوقيين/ات إلى أن الجهود التوعوية التي بذلت على مدار أعوام عبر المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام لوقف العنف ضد المرأة، لم تثمر، ولعل التعليقات التي صفقت لـ"الإنجاز" الذي قام به والد أحلام تؤكد صحة ذلك، في حين أن الحل اليوم هو القانون والقانون أولاً.
هذا ما تؤكده الاختصاصية النفسية والنسوية، رشا ضمرة، لرصيف22: "بدنا نعترف إنه ما قدرنا نحمي اللي ماتوا من جرائم العنف الأسري تحت مسمى الشرف، ولا قدرنا نرجع حقهم، وبدنا نعترف إنه الذكورية مستمرة بانتصارها، والكرة اليوم بملعب القانون وبخانة إسقاط الحق الشخصي من قانون الأحوال الشخصية، اللي بتقدم طبق ذهب لكل معنف بقتل بنته أو زوجته".
من جانب آخر، يعيد التاريخ نفسه اليوم، فبحسب ما وثقه حساب تاريخ الأردن على تويتر، خرجت نسويات وحقوقيون/ات في العام 2000 في وقفة احتجاجية أمام مجلس النواب للمطالبة بوقف نزف الدم تحت مسمى "جرائم الشرف"، ودعت نسويات وحقوقيون/ات قبل يومين إلى تنظيم وقفة احتجاجية تحمل العنوان نفسه وفي المكان نفسه "مجلس النواب"، ثم إلى تنظيم سلسلة بشرية أمام إدارة حماية الأسرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...