طالما أحيت المواقف والظروف الصعبة السؤال الوجداني: ما هو الوطن؟ هل هو تلك الأرض التي يولد فيها الإنسان؟ أم هو ذلك الرقم على أوراق ثبوتية، يشترط وجوده ليكون لك جنسية، حتى لو كنت لا تحب ولا تفهم لغة الأرقام، أم أن الوطن هو الذي اعتدت أن يكون حبك له من طرف واحد؟!
بلا شك أن الظروف القاسية التي يعيشها العالم مع أزمة كورونا، والأردن خاصة، تطرح هذا السؤال من جديد، مثل ما يحدث اليوم مع بنات وأبناء أمهات أردنيات عالقين/ات في دول الخارج، اصطدموا مع حقيقة تربوا على إنكارها من أهاليهم، أن أردنيّتهم/ن تشترط وجود رقم متسلسل من الشمال إلى اليمين في بطاقات هويتهم، بصرف النظر عن كل مراحل النمو ومشاعر الحب والانتماء والولاء التي نشؤوا عليها، بصرف النظر عن مشاعر الاشتياق التي يكنونها لأرض اعتبروها وطنهم.
يعاني أبناء وبنات أمهات أردنيات من طلاب وطالبات يدرسون في الخارج، من حرمانهم من إدراج أسمائهم على قوائم الطلبة التي منحتهم الحكومة الأردنية إجراءات تسهيلية لعودتهم للأردن، حماية لهم من مخاطر انتشار وباء كورونا في البلدان التي يدرسون فيها، تأتي هذه المعاناة لتُحيي قضية حقوقية إنسانية من جديد، وهي حرمان الأم الأردنية من منح جنسيتها لأبنائها من آباء غير أردنيين، وتحيي من جديد نضالاً نسوياً حقوقياً يثبت في كل المراحل الصعبة، مثل جائحة كورونا اليوم، أن هذا النضال مشروع وأصيل، ولن يتوقف إلا بإحقاق حقّ منح الأم الأردنية جنسيتها لأبنائها وبناتها.
""أبكي وأنا أتابع صفحة ابنتي على الفيسبوك"
ن.ي، امرأة أردنية وأم لابنة تبلغ من العمر 18 عاماً، انفصلت عن زوجها غير الأردني بعد عام من زواجهما، وأمضت حياتها في تربية ابنتها وحدها، مواجهة كل التحديات لأم عزباء وابنة لا تملك رقماً يثبت أردنيتها، بسبب تعسف القوانين.
الابنة، والتي تدرس في كندا، تجابه اليوم، وفق ما سردت والدتها لرصيف22، جدار المنع بفعل القوانين، من شمولها في قوائهم الطلبة المراد إعادتهم من قبل الحكومة الأردنية لبلادهم، تقول الأمّ: "آخر مكافأة كنت أتوقعها مقابل رفضي البقاء في كندا مع ابنتي، عندما ذهبنا لأخذ الجنسية الكندية، وإصراري على العودة معها للأردن وتربيتها على حب هذا الوطن، أن تحرم ابنتي من شمولها في قوائم الطلبة الأردنيين العائدين إلى الأردن".
تبكي ن.ي عندما تطرقت للحديث عن الحالة التي تمر بها ابنتها اليوم، بعد أن أغلقت أبواب سكن الطلاب الذي تعيش فيه في وجهها، وتتخيل شكلها وهي تبحث عن مكان تأوي فيه في مدينة موبوءة بكورونا، مثل مونتيريال حيث تعيش، لكن وكما تقول: "الحمد لله الجيران قبلوا استضافتها، لكن إلى متى سيتحملون ذلك؟ هل ابنتي وغيرها من 16 حالة مثلها من أبناء أردنيات في كندا، يشكلون عبئاً على الأردن بمنحهم حق العودة إلى أحضان أمهاتهم؟ هل يستحق هذا الرقم حرقة قلوبنا كأمهات؟"، تسأل الأمّ.
"قسماً بالله لم نعد من كندا إلا لأننا نعشق بلدنا"، تعود ن.ي، لكن هذه المرة تقسم لتثبت انتماء ابنتها للأردن، وتقول: "أبكي وأنا أتابع صفحة ابنتي على الفيسبوك، وهي تتغنى وتمجد بإجراءات الأردن في مواجهة أزمة كورونا، ما هو الانتماء للوطن إذا لم يكن مثل هكذا فعل؟ وما هو الوطن الذي يشترط عليك أن تحمل رقماً لتحصل على جنسيته؟". وتختم بعد هذين السؤالين، بعبارة تطيب خاطر نفسها فيها: "ما زال لدي أمل أن وطني لن يفرط بأبناء الأمهات الأردنيات".
يُحرم الطلبة، من أبناء وبنات أردنيات يدرسون في الخارج، من إدراج أسمائهم على القوائم التي منحتهم الحكومة الأردنية إجراءات تسهيلية لعودتهم للأردن. ويأتي هذا ليُحيي قضية حقوقية من جديد، وهي حرمان الأردنية من منح جنسيتها لأبنائها من آباء غير أردنيين، ويُحيي نضالاً نسوياً يثبت في كل المراحل الصعبة، أنه لن يتوقف إلا بمنح الأردنية جنسيتها لأبنائها وبناتها
"أرجوك وصلي صوتي للحكومة"
عبير الأفيوني، مواطنة أردنية أباً عن جد، كما تقول لرصيف22، وتبرهن صحة ذلك بقولها: "حتى أن لي جداً كان وزيراً للتربية والتعليم في أوائل الأربعينيات في الأردن"، هي أم من زوج غير أردني، لتوأم، شاب وفتاة، يدرسان في بريطانيا، كل منهما في مدينة مختلفة، ابنتها مصابة بالتصلب اللويحي منذ عام ونصف، ما يعني أن مناعتها صفر، كما تقول، كما أن الحالة النفسية عامل مهم في تطور مرضها، "وهو ما أخشاه اليوم بسبب تردي وضعها النفسي من جراء إغلاق بلدها الأردن الباب في وجهها"، تقول عبير.
"نعم الأردن بلدها بصرف النظر عن شروط الرقم الوطني"، تصرخ عبير الأفيوني، وتروي قصة منع ابنتها من العودة إلى الأردن: "أنا همي ابنتي تعود لأنها مريضة، لست مصرة على عودة أخيها، وبعد إخلاء سكنها بسبب إصابة موظف فيه بفيروس كورونا، أصبحت تتنقل هنا وهناك بحثاً عن مكان يأويها"، تأخذ عبير نفساً عميقاً بعد هذه العبارة، وتقسم بأنها كل يوم عندما تستيقظ تدعو ربها ألا تسمع خبر إصابة ابنتها بالفيروس، نظراً لسوء مناعتها.
"أرجوك وصلي صوتي للحكومة"، تبكي عبير الأفيوني، وتبرهن بأمثلة واحدة تلو الأخرى بأن ابنتها تنتمي للأردن وتربت على أنها وطنها.
"من الذكي الذي ذهب بهذا القرار؟"
النائب خالد رمضان، من الأشخاص المدافعين عن حق المرأة الأردنية في منح جنسيتها لأبنائها، يعلق على منع شمول أبناء الأردنيات من تسهيلات العودة إلى الأردن من بلاد انتشر فيها الوباء: "عندما كنت أقول في السابق أن ما أسمته الحكومة من امتيازات أقرتها لأبناء الأردنيات في العام 2014 هو التفاف، لم أكن أقل ذلك من فراغ، وها هو اليوم وما يحدث يثبت بحق أبنائنا وبناتنا يثبت صحة كلامي".
ويضيف النائب رمضان: "عندما يكون أبناء وبنات أمهات أردنيات ولدوا وتربوا ودرسوا في الأردن، محرومين اليوم من شمولهم في قوائم الطلاب العالقين المراد إرجاعهم من قبل الحكومة الأردنية، هو دليل على أن مطالباتنا بأن تحصل المرأة الأردنية على حقها بمنح أبنائها الجنسية مطالب شرعية، حتى لا يصل أبناؤهم في مثل هكذا ظرف إنساني اليوم لموقف ينتهك مثلث الحقوق الأصيلة، وهي الحرية والعدالة والأمن".
"من الذكي الذي ذهب بهذا القرار؟"، يسأل النائب خالد رمضان، معتبراً ما يحدث بأبناء وبنات الأردنيات العالقين في الخارج اليوم تعد على كل مبادئ العدالة الاجتماعية وعلى الدستور، وإرجاعهم للأردن ليس منة بل واجب.
"في الظروف الصعبة تظهر أهمية تحقيق هذا الحق على السطح".
"نريد العودة إلى البيت"
منى، (اسم مستعار)، "خوفاً من أن تفهمها الحكومة غلط"، تقول في حديث لرصيف22، هي أم، وأبناؤها في بريطانيا محرومون أيضاً من العودة إلى الأردن لأنهم لا يحملون الرقم الوطني، تضيف، وتتابع أنها عندما هاتفت وزارة الخارجية لكي تطلب بالسماح بشمول أبنائها للعودة إلى الأردن أجابها موظف: "إحنا ما انجبرنا فيهم"، وتضيف: "للأمانة كان هناك موظفون آخرون أكثر لباقة منه".
ترفض منى حتى اليوم إبلاغ أبنائها بأن الحكومة ترفض شمولهم، خوفاً عليهم أن تخدش هذه المعلومة مشاعرهم الوطنية تجاه بلدهم الأردن، كيف ستقول لهم هذا الخبر وهم كل يوم يهاتفونها ويقولون لها: "نريد العودة إلى البيت".
" مارست التمييز أمام عودتهم للأردن"
ومن جانب قانوني وحقوقي، تبين المحامية نور الإمام، في حديثها لرصيف22 أن الهدف من تعليمات امتيازات أبناء الأردنيات التي أقرت في العام 2014، كان منحهم الحقوق المدنية كاملة باستثناء الحقوق السياسية، وتقول:" كان من باب أولى أن تأخذ وزارة الخارجية والسفارات الأردنية هذا الجانب بعين الاعتبار، فما القيمة من هذه الامتيازات إذا لم تستخدم في ظروف كهذه اليوم، خلال هذه الجائحة؟ وما أستغربه"، كما تقول المحامية نور، "أن الدولة الأردنية تعاملت بشكل إيجابي مع أبناء الأردنيات بشمولهم في برامج أوامر لقرارات في قانون الدفاع لحمايتهم معيشياً، بينما مارست التمييز أمام عودتهم للأردن".
وتشير إلى أن المادة السادسة من الدستور الأردني ساوت الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، عندما ذكرت: "الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات"، وهو ما كان يفترض أن ينعكس على النصوص القانونية مثل قانون الجنسية، فالمادة الثانية منه عرّفت من هو الأردني، لتأتي المادة الثالثة منه لتنتزع حق المرأة الأردنية في منح جنسيتها لأبنائها.
وتقولها المحامية نور علناً وبكل شفافية: "كل المعارضين لمنح الحق للمرأة الأردنية بمنح جنسيتها لأبنائها يأتي من منظور أبوي تمييزي ليس أكثر، بعيداً عن حجج التخوف من تفريغ الضفة الغربية التي تحدث عنه البعض، فالرجل الأردني يستطيع الزواج بأربعة نساء من الضفة الغربية أليس هذا تفريغ؟".
"كل المعارضين لمنح الحق للمرأة الأردنية بمنح جنسيتها لأبنائها يأتي من منظور أبوي تمييزي ليس أكثر، بعيداً عن حجج التخوف من تفريغ الضفة الغربية، والتي تحدث عنها البعض، فالرجل الأردني يستطيع الزواج بأربعة نساء من الضفة الغربية أليس هذا تفريغ؟"... المحامية نور الإمام في حديث لرصيف22
"نضالنا مستمر"
عروب صبح، إعلامية وحقوقية ونسوية أردنية، وممن أسسن ائتلاف "جنسيتي حق لعائلتي"، الذي جاء بعد حملة "أمي أردنية وجنسيتها حق لي"، تقول في حديثها لرصيف22، إن حراك منح المرأة الأردنية الجنسية لأبنائها قديم، نشأ منذ ولادة الحراك النسوي الأردني للمطالبة في المساواة في الحقوق والواجبات، وتضيف: "عاد الحراك للظهور من جديد منذ 15 عاماً، وخرجت حملة أمي أردنية وجنسيتها حق لي، وائتلاف جنسيتي حق لعائلتي، ضمّ داعمين لهذا الحق، مؤسسات وأفراد، وحتى اليوم لم تتحقق المطالب".
"في الظروف الصعبة تظهر أهمية تحقيق هذا الحق على السطح"، تقول عروب صبح، مثل ما يحدث مع أبناء الأردنيات العالقين في الخارج اليوم، وتضيف: "أنا كمدافعة لمست أن حالة الوعي والدعم الشعبي الأردني اختلف، بعد أن كانت هناك سياسة تضليل لأهمية هذا الحق والالتفاف نحو أسباب سياسية، مثل الحفاظ على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين".
وتستكمل عروب: "الدولة حاولت أن تتذاكى وأقرت ما أسمته بالامتيازات ولم يتحقق الحق الشرعي والأصيل الذي كفله الدستور الأردني بالتساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، مع العلم أننا ما زلنا حريصين أن يكون خطابنا قانونياً دستورياً، وما زلنا مصرين ألا نلجأ إلى مكرمة ملكية"، وتختم: "ما يحدث اليوم يؤكد على أن نضالنا مستمر".
يقولون إن أرواح الأموات تراقبنا، وربما روح الحقوقية نعمة الحباشنة التي أسست حملة "أمي أردنية وجنسيتها حق لي" حاضرة بقوة اليوم، وهي تنظر إلى أمهات أردنيات مثلها، هزمتهن قوانين بمنح أبنائهن إثباتاً بأن الوطن صفحة صغيرة تضعها في الجيب، فيها رقم هو ما يحدد وجودك كإنسان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...