شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لقمة مغمّسة بالغضب"... كيف تشتعل شرارة ثورات بسبب الخبز؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 14 يوليو 202005:27 م

"منفوخ، فارغ من الداخل وطريّ كالوسادة..."، هكذا يبدو رغيف الخبز الطازج حين يخرج من الفرن، فتفوح رائحته الزكية التي تبعث في النفس الطمأنينة والحنين وتعيد المرء إلى ذكرياته الجميلة، تماماً كما جاء في قصيدة محمود درويش: "أحنّ إلى خبز أمي".

في المقابل يبدو الرغيف نفسه بارداً، قاسياً، ناشفاً، مجبولاً بالحزن والغضب ومغمساً بالدم، حين يكون مرفوعاً بسواعد الثوار الذين يحتجّون على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة.

والواقع، إن الخبز ليس خليطاً من الطحين والماء وبعض الخميرة والملح فقط، بل هو مرادف للحياة ومؤشر على أوضاع الشعوب وأحوالها، بخاصة وأن أرغفة الخبز حظيت بحصة من الهتافات واحتضنت الكثير من الشعارات، فكانت وسيلة ضغط بيد الثوار وصرخة الفقراء في معظم الانتفاضات والاحتجاجات.

إليكم قصة رغيف الخبز حين يكون مغمّساً بالدم والغضب.

"رغيف الحياة"

بحسب المراجع التاريخية، يعود صنع أول خبز في الشرق الأوسط إلى حوالي 8000 سنة قبل الميلاد، وتحديداً في مصر، حيث قام الإنسان القديم بطحن حبات القمح بواسطة ما يُعرف بـquern ومزج دقيقها بالماء وتحميصه على النار.

عبر السنين، حظي الخبز بمكانة رفيعة في الباطن الإنساني، وقد أطلق الشعب المصري عليه مصطلح "العيش"، أي اعتبروه مرادفاً للحياة، انطلاقاً من رمزية العجين الذي يرتفع شيئاً فشيئاً عندما تلتقي الخميرة بالماء، قبل أن يصبح جاهزاً ليُخبز ويؤكل، وهي العملية التي تقوم على فكرة "صنع شيء من لا شيء".

الخبز ليس خليطاً من الطحين والماء وبعض الخميرة والملح فقط، بل هو مرادف للحياة ومؤشر على أوضاع الشعوب وأحوالها

وبالرغم من اختلاف شكله ولونه ومذاقه وطريقة تحضيره، بالإضافة إلى أصنافه المتعددة التي تختلف من بلد إلى آخر، ومن طبقة اجتماعية إلى أخرى، بحيث يُقال إنه في بعض البلدان كان الأغنياء يتناولون الخبز الأبيض في حين أن الفقراء يأكلون الخبز الأسمر، إلا أن الخبز يبقى الغذاء الأساسي للإنسان، وفي صلب العادات الاجتماعية، بحيث تكاد لا تخلو أي مائدة طعام أو وجبة غذائية من الخبز، "سيّد المائدة"، الذي يدل أيضاً على العشرة الطيبة والروابط الروحانية الوثيقة بين الأفراد: "بيناتنا خبز وملح".

واللافت أن هذه القيمة الروحية للخبز محفورة في وجداننا وتعود إلى طفولتنا، فإن سقطت منّا بعض فتات الخبز، كنّا ننحني على الأرض ونرفعها بحذر ونقبّلها باحترام، ونتذكر ما يقوله لنا أهلنا: "في ناس مش ملاقييه خبز ناشف".

من هنا يترعرع البشر على أهمية الخبز وينخرطون في سباق محموم للبحث عن "لقمة عيشهم" بعرق جبينهم، فينظرون إلى السماء ويرددون في كل طلعة شمس: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا".

ولكن ماذا يفعل الشعب الجائع حين تصبح أقصى أمنياته الحصول على فتات الخبز المتساقط من موائد الزعماء وأصحاب الثروات؟

الخبز... محرك للانتفاضات الشعبية

في العام 1939، أصدر الكاتب توفيق يوسف عوّاد، رواية "الرغيف" التي تتحدث عن المجاعة والذل الناجم عن الجوع، والانتفاضة بوجه أولئك الذين أحكموا قبضتهم على القمح والطحين لتكديس أرباحهم، في الوقت الذي كان فيه عامة الناس يتضورون من الجوع ويبحثون عن بقايا الشعير في روث البقر.

لطالما وقفت سنابل القمح خلف الانتفاضات الشعبية، وصفحات التاريخ شاهدة على الثورات العظيمة التي اندلعت باسم الخبز، فمن فرنسا إلى السودان، مروراً بمصر، الجزائر، تونس، المغرب، الأردن وصولاً إلى لبنان، تصدر الرغيف ثورات الجياع وكان "وقود التغيير"، بخاصة وأن الخبز يحتلّ مكانة مميزة في ثقافات الشعوب العربية ووجدانها، وعندما يرتفع سعر الخبز وتصبح "اللقمة" مغمسة بالدماء، عندها تهب رياح الثورة والتغيير على الطبقة السياسية الحاكمة.

فكيف نجح رغيف الخبز في إشعال الثورات وقلب الأنظمة السياسية التي حاولت "نزع" لقمة العيش من أفواه شعوبها؟

في العام 1789، خرجت ماري أنطوانيت، زوجة الملك لويس السادس عشر، من على شرفة قصرها وخاطبت الفقراء الذين كانوا يحتجون على غلاء الخبز بالقول: "إذا كان الخبز ليس في متناول أيديكم، فلماذا لا تأكلون البسكويت؟".

هذه العبارة كانت كفيلة باندلاع الثورة الفرنسية، الإطاحة بالملكة وزوجها والحكم عليهما بالإعدام.

"المسّ بالعيش يعني أن المسألة أصبحت مسألة حياة أو موت"

وفي السياق نفسه، شهدت المنطقة العربية مظاهرات وانتفاضات لاعتبارات عديدة، بعضها سياسي والآخر اقتصادي ومعيشي، إلا أن رغيف الخبز كان المحرك الأساسي نحو تصاعد وتيرة الاحتجاجات.

في حديثه مع موقع رصيف22، أكد الباحث والأخصائي في علم النفس، محمد الطناوي، أن الخبز هو الغذاء الأساسي والأرخص الذي يساعد الإنسان في البقاء على قيد الحياة والدافع الحقيقي للمظاهرات، شارحاً ذلك بالقول: "المسّ بالعيش يعني أن المسألة أصبحت مسألة حياة أو موت"، مشيراً إلى أنه عندما يشعر المرء بتهديد وجودي، فعندها يقرر أن يثور بهدف تغيير واقعه الأليم.

وفي هذا السياق، أوضح الطناوي أن المجتمعات العربية بطبيعتها بطيئة الحركة ولا تنتفض إلا في حال فاض بها الكيل: "التظاهر هو الحلّ الأخير الذي يلجأ إليه الناس للمطالبة بحقوقهم"، وفق قوله.

 ماذا يفعل الشعب الجائع حين تصبح أقصى أمنياته الحصول على فتات الخبز المتساقط من موائد الزعماء وأصحاب الثروات؟

وبالنسبة للمجتمع المصري، كشف محمد أنه مُتهم بأنه شعب صبور، وذلك لكونه مرتبطاً بشكل كبير بالزراعة التي تتطلب قدرة كبيرة على التحمّل والصبر، إلا أن التاريخ المصري الحديث يؤكد عكس ذلك: "شهدت مصر العديد من الاحتجاجات والتظاهرات، أبرزها انتفاضة 1977 بعدما قرر الرئيس أنور السادات رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية كالخبز، في سياق إعادة هيكلة الاقتصاد والتحول إلى النظام الرأسمالي. وأمام استمرار الضغط الشعبي، قام الرئيس بإلغاء القرارات الاقتصادية".

وانتقل الطناوي للحديث عن ثورة 25 يناير 2011 ورفع شعار: "عيش حرية كرامة إنسانية"، مشيراً إلى أن المطالب كانت تركز بشكل خاص على الشق السياسي وليس الاقتصادي فقط، وبالتالي كان الشعار رمزياً أكثر مما هو واقعي: "هذا الشعار كان موجهاً للجماهير لكي تلتحق بصفوف الثورة، فهو شعار ثوري يخاطب عقول الشعب من خلال القول: المطلب الأول هو توفير لقمة العيش ورغيف الخبز كحدّ أدنى".

هذا وأكد محمد الطناوي أنه منذ أيام السادات، تعلم الساسة في مصر أن الخبز يشكل مسألة شديدة الحساسية بالنسبة للشعب المصري: "رغيف الخبز هو خط أحمر في أذهان المصريين، وبالتالي لا يجرؤ أحد على المسّ به ورفع الدعم عنه".

"الجوع ما إلو طايفة"

لن نتوقف مطولاً على السرد التاريخي للانتفاضات التي أشعلتها ربطة الخبز، إنما لا شك أن هناك ترابطاً وثيقاً بين غضب الشعب والمسّ بلقمة عيشهم: عندما يجد الناس أنه لم يعد باستطاعتهم شراء الخبز، يدركون بأن شبح المجاعة والموت يتربص بهم، فيثورون.

لقد سقطت دول بأكملها بسبب عدم تمكن الناس من الوصول إلى الخبز، ولانتفاضات الخبز عبر التاريخ الكثير لتقوله لنا عن الأزمات العالمية اليوم، وتعامل السلطات مع شعوبها، وفق ما أكده مايكل بولان، في الفيلم الوثائقي coocked، الذي تم عرضه على نتفلكس: "تعمل الحكومات بجهد كبير للحفاظ على سعر الخبز منخفضاً، لأنك قد تفقد رأسك إذا ارتفع سعر الخبز بسرعة كبيرة".

ولكن وبالرغم من بعض الدروس والعبر التي يمكن أخذها من الماضي، إلا أنه من الملاحظ أن مشهد "الخبز في الثورات" لم يتغيّر كثيراً في عالمنا اليوم، فالناشطون/ الناشطات ما زالوا ينزلون إلى الشوارع، رافعين رغيف الخبز ومستنكرين سياسات التجويع والإفقار التي تمارسها حكوماتهم، وهذا بالضبط ما حصل مؤخراً في لبنان، حيث افترش المواطنون/المواطنات، من مختلف الطوائف والمذاهب، الطرق والساحات، بعدما قررت الحكومة اللبنانية رفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة إلى 2000 ليرة.

وتعليقاً على هذه النقطة، قالت الناشطة اللبنانية ساندرين افرام، لموقع رصيف22: "الجوع ما إلو طايفة"، مشيرة إلى أن غلاء الخبز يعود إلى السياسات الخاطئة التي اعتمدتها الدولة وعجز الحكومة عن إدارة البلاد.

واعتبرت افرام أن نزول المواطنين/ المواطنين إلى الطرقات ورفع الخبز يعني أن الشعب قد طفح كيله: "الشعب اللبناني حسّ أنو الغلاء عم بيطال الـbasic commodity (السلع الأساسية) فقامت القيامة وبطلت القصة سياسية ومرتبطة بانتماء الشخص للحزب والزعيم، مع العلم أنو بعض الأحزاب بعدها عم تقول للناس طالما نحن هون ما رح تموتوا من الجوع".

وكشفت ساندرين أن بعض الأحزاب اللبنانية تستغل حالياً الأوضاع المعيشية الصعبة التي يرزح تحتها عدد كبير من اللبنانيين/اللبنانيات، فتوزع عليهم الخبز، ليس من باب المساعدة إنما بهدف امتصاص غضبهم وإسكاتهم، على حدّ قولها: "هيدا مش مسموح، وسؤالي لهودي الأحزاب: لأيمتى رح تضلكن تسكّتوا الشعب؟".

هذا وختمت ساندرين افرام حديثها بقول للروائي والسياسي الفلسطيني، غسان كنفاني: "يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كِسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم ... يا لوقاحتهم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image