في كتابه "الحيوان الحكّاء: كيف تجعل منا الحكايات بشراً؟ ترجمة بثنية الإبراهيم"، يحاول المؤلف جوناثان غوتشل، أن يفتح أفق التفكير عن دور القصة في بنية الذهن الإنساني وسرديات الثقافة، وبالتالي في العادات والسلوكيات الإنسانية. الجديد الذي يقدمه الكتاب هو تطبيق الاختبارات التحليلية المتعلقة بعلوم الذهن، علم النفس والتجارب العينية الاجتماعية، لكن على مجال لم تطبق عليه عادةً، وهو الأدب. فلم يكن سابقاً من المتخيل أن الاختبارات والتجارب العينية يمكن أن تثمر نتائج فعالة في مجال الأدب، ويعتبر الكتاب الذي بين أيدينا رائداً في هذه المحاولة.
يفتتح الكتاب بعبارة إيلي فيزل: "خلق الرب الإنسان، لأنه يحب الحكايات"، فالإنسان كائن مولع بالقصة، حتى حين يخلد الجسد الإنساني للنوم، يظل العقل مستيقظاً طوال الليل، يروي القصص لنفسه. لذلك، وحسب المؤلف، فإن القصص والتخيلات والأحلام بالنسبة إلى الخيال البشري، هي شكل من أشكال المحفوظات المقدسة. إنها آخر معاقل السحر والمكان الوحيد الذي لا يمكن للعلم اختراقه، ويتعين عليه ألا يفعل.
لقد استمرت القصص ترافق الحضارة الإنسانية عبر الغناء الشعبي، الملاحم، المسرح، السينما والرواية. وليس هناك فن بفنائه يفنى نوع القصة، فدائماً ما تتخذ أشكالاً فنية جديدة، وكتاب "الحيوان الحكاء" للكاتب جوناثان غوتشل يفتح آفاق على السرديات الثقافية في بنية الذهن الإنساني
الذهن ينمو عبر القصص
يستهلّ المؤلف براهينه بتناول موضوعة دور العقل-الذهن-القارئ في تأليف القصص، معتمداً على الدراسات الحديثة التي تبين أن قراءة كتاب أو تخيل قصة تتطلب عملاً تخييلياً من القارئ. فعقل قارئ القصة يعمل بجهد، ويستمر هذا الجهد الإبداعي الهائل طوال وقت قراءة القصص، ويستمر تأثيره في أعمق طبقات اللاوعي، وهذا ينطبق على أية قصة. فالكاتب يكتب الكلمات، لكنها تظل هامدة، لأنها تحتاج إلى حافز كي تحيا، وهذا الحافز هو مخيلة القارئ.
فالقصص هي أشكال من اللعب المعرفي، يقول الباحث الأدبي التطوري بريان يود: "يكون العمل الفني بمثابة ملعب للذهن"، ويرى بويد أن اللعب الحرّ للفن بكل أشكاله، يؤدي النمط نفسه من العمل لقدراتنا الذهنية الذي يؤديه اللعب الحر لعضلاتنا الجسدية، وهنا يذكّر المؤلف بدور لعب الأطفال في تكوين الذهن والوعي، وألعاب الأطفال في أغلبها تتضمن عنصراً قصصياً، فالقصة التي تبنى دوماً على عنصر الحبكة أو الفرضية حاضرة في لعب الأطفال.
القصص بين الحقيقة والخيال
يبين عالما الحاسوب بايرون وكلفورد ناس، في كتابهما "معادلة الإعلام" أن الناس يستجيبون لموضوعات الخيال وألعاب الحاسوب، بقدر ما يستجيبون لأحداث حقيقية، كتبا: "الإعلام يعادل الحياة". لا يفرق الذهن القصص التخييلية عن الوقائع، بل يعمل العقل العاطفي على معالجتها كأنها حقيقة. يثبت ذاك حين تدرس الاستجابات التي ينتجها الدماغ أثناء تجربة قراءة الأدب، فعند رؤية ما يخيف، يثير جنسياً أو التعرض لحال الخطر عند مشاهدة فيلم، فإن الدماغ الإنساني يشع كما لو أنه يعيش التجربة حقيقةً، لا كمجرد خيال سينمائي. وأثبتت دراسة دماغية عصبية أن عقول المشاهدين تتلبس الحالات الذهنية التي هو عليها بطل الفيلم، فإن كان البطل غاضباً، أثبت الرنين المغناطيسي أن عقول المشاهدين تكون كذلك أيضاً. إننا نتعلم عاطفياً عبر القصص.
أخضع عالما النفس، كيث أوتلي ورايموند مار، مجموعة من القرّاء لاختبارات القدرة الاجتماعية والعاطفية، وتوصلوا إلى أن قرّاء الأعمال الأدبية يتمتعون بمهارات اجتماعية أفضل، وبالتالي، اعتماداً على النتائج يمكن الجزم بأن قراء الأدب يتمتعون بمهارات اجتماعية أعلى من قرّاء الدراسات أو المعلومات النظرية. إن القصص تدرب المهارات التواصلية.
القصص المقدسة والتاريخ كقصة
لا يمكن الحديث عن أثر القصص في الحضارة الإنسانية دون التطرق إلى القصص المقدسة وأثرها على الوجود البشري، فالدين هو التعبير المطلق لسلطان القصة على العقل الإنساني، ولا يحترم أبطال القصص المقدسة الحدود بين الخيال والحقيقة، بل يندفعون من عالم القصص إلى الواقع والأحداث التي تجري يومياً من حولنا، وينظم المؤمنون ممارسات حياتهم بناءً على ما تقوله القصص المقدسة، من طريقة الأكل والاغتسال واللباس، إلى الأوقات التي يمارسون فيها الجنس أو الغفران أو شن حرب شاملة باسم كل شيء مقدس. يكتب جوناثان: "نحن نعتنق الدين لأننا نمقت، بطبعنا، الخواء التفسيري، وفي القصص المقدس نعثر على التخريف العظيم للعقل الحكاء".
يضيء كتاب الحيوان الحكاء على السردية الدينية بوصفها التعبير المطلق لسلطان القصة على العقل الإنساني، فهي تتخطى الحدود بين الخيال والحقيقة، لأن أبطال القصص المقدسة يندفعون من عالم القصص إلى الواقع
ليست الأساطير الخارقة للطبيعة هي القصص الوحيدة التي تؤدي دوراً جامعاً في المجتمع، إذ يتم ابتكار أساطير أو قصص وطنية تؤدي الدور نفسه. ينبه المؤرخون إلى أن التاريخ يُسرد باعتباره قصصاً، ويتعمّد فيها التحريف، النسيان والتركيز، كي يبدو التاريخ مثل أسطورة أو قصة وطنية موحدة، وليس الغرض منها تقديم عرض موضوعي لما حدث، بل "لسرد قصة توحد أفراد المجتمع معاً، لأخذ الكثرة وجعلها واحداً"، كما كتب هاورند زن وجيمس لوين.
العدالة الشعرية في القصص
موضوعة هامة يتناولها المؤلف عند الحديث عن أثر القصص الأخلاقي، وهي "العدالة الشعرية"، وهو اصطلاح أوجده توماس رايمر، عام 1678، ليشير إلى أن الأخيار يثابون والأشرار يعاقبون في القصص، وهو يرى مع غيره من الأدباء أن الأدب يجب أن يكون ذا مغزى أخلاقي في تصوير الثواب والعقاب، لذلك يعتقد جوزيف كارول وجون جونسون، أن القصص تجعل المجتمعات تعمل بشكل أفضل بتشجيعنا على التصرف بأخلاقية، فالقصص العادية من برامج التلفزيون حتى الحكايات الخرافية تغمرنا بالمبادئ والقيم نفسها التي تغمرنا بها الأساطير المقدسة.
لكن من أين تأتي العدالة الشعرية؟ هناك دليل من دراسة أجراها عالم النفس ماركوس آبل، عام 2008 على مشاهدي التلفزيون، وتوصل إلى أنه لكي يعمل المجتمع بشكل مناسب، يتعين على الناس أن يؤمنوا بالعدالة، وعليهم أن يؤمنوا بأن هناك ثواباً لفعل الصواب وعقاباً لارتكاب الخطأ. وفي الحقيقة، يؤمن الناس عموماً أن الحياة تعاقب الشرير وتكافئ الصالح، وهذا بعيد عن حقيقة أن هذه ليست قاعدة.
لكن البعض يرجّح أن العدالة الشعرية تأتي أساساً من لعب الأطفال، إذ يتمتع لعب الأطفال دوماً بنبرة أخلاقية واضحة: الأخيار مقابل الأشرار. يبين ديفد إلكايند في كتابه "قوة اللعب"، بأن لعب الأطفال تزخر بسيناريوهات مبنية على توليف بين الشر والخير، كما في لعبة اللصوص والشرطة الشهيرة، وهذه المعادلة البسيطة ربما تكون أساس العدالة الشعرية.
توصل آبل أيضاً في دراسته إلى أن الأشخاص الذين يفضلون مشاهدة الدراما والكوميديا على التلفزيون، يمتلكون إيماناً أقوى بالعالم العادل من أولئك الذين يفضلون متابعة البرامج الإخبارية والوثائقية. ويستنتج آبل أن الأدب باختراقه عقولنا بفكرة العدالة الشعرية باستمرار، قد يكون مسؤولاً جزئياً عن التفاؤل المفرط، بأن العالم، عموماً، مكان عادل، وقد تكون حقيقة أن نحفظ هذا الدرس غيباً جزءاً هاماً مما يجعل المجتمعات البشرية تعمل.
الشخصيات القصصية المؤثرة في حياتنا
يبين غوتشل أن الذهن البشري لا يميز ما هو خيالي وما هو واقعي، فالمعلومات المجمعة من القصص التخييلية الأدبية تختلط المعلومات مع غيرها من المعلومات في سلة العقل ليحضر تأثيرها على يومياتنا
إن شخصيات الأدب هي كائنات من حبر تتحرك في عالمنا الحقيقي، وتمتلك قوة حقيقية فيه، كما نعرف أثر شخصيات الكتب المقدسة التي تتمتع بحضور وتأثير حقيقي على سلوكنا ويومياتنا، فالسندباد يمثل لنا موهبة المغامرة، وراسكولنيكوف في الجريمة والعقاب، يبين لنا عواقب الجرائم حتى لو كانت مخفية، وماكبث يبين لنا مصير الخيانة والطمع، والأخ الأكبر في رواية 1984، يبين لنا شكل الأنظمة الشمولية وحكامها، ويصور لنا فيلم عازف البيانو مصائر الموسيقيين في الحرب، ويشكل لنا دون جوان مصير الفاجر المغوي المستمتع بعواطف الآخرين، واستلهمت الثورات الشعبية في عدد من البلدان شخصية فيلم "V For Vendetta"، واستلهمت ثورات أخرى شخصية الجوكر من الفيلم الذي أنتج عنه مؤخراً، وهي كلها شخصيات خيالية.
تبين الدراسات أن الذهن البشري لا يميز ما هو خيالي عما هو واقعي، فالمعلومات المجمعة من القصص التخييلية مثلاً لا تبقى آمنة ومعزولة عن مخزوننا من المعارف العامة. إذن، تختلط المعلومات المكتسبة من القصص الأدبية مع غيرها من المعلومات في سلة العقل.
لقد بيّن تولستوي بأن عمل الفنان هو أن "يعدي" الجمهور بأفكاره وعواطفه "وكلما كانت العدوى أقوى، كان الفن أفضل بوصفه فناً"، وقد وقفت الدراسات الحديثة إلى جانب رؤية تولستوي هذه، فإن عواطف الأدب معدية للغاية، وكذلك هي الأفكار. كتب عالم النفس رايموند مار: "وجد الباحثون دوماً أن مواقف القراء تتغير لتصبح أكثر انسجاماً مع الأفكار الواردة في سرد أدبي"، وبالتالي فإن القراء أكثر تماهياً مع السرد القصصي منهم مع المعطيات العلمية أو البراهين النظرية.
إن القصص هي القاسم المشترك بين شتى أنواع المعرفة الإنسانية، فلكي نشرح النظرية النسبية نروي قصة زمن راكب القطار أو زمن المنتظر العاشق، وحين نحاول شرح الجاذبية أو قانون الطفو نروي قصة عن التفاحة التي تسقط أو الأشياء التي تطفو في بانيو أرخميدس، ولنروي بداية العالم نروي قصة الخلق. إن القصة هي القاسم الذي يجمع مهناً واختصاصات لا يملك كل منها المعرفة اللغوية بالفرع الآخر، لغة الفيزياء، لغة الموسيقى، لغة الكيمياء، أو لغة المعادلات الرياضية، كلها اختصاصات لا يمكن للجميع الاطلاع عليها وفهمها، وهنا يأتي دور القصة التي تستطيع أن تكون مضللة بقدر ما تستطيع أن تكون تنويراً وتحفيزاً للذهن.
مستقبل القصة
في العقود الأخيرة، وبالتوازي مع انتعاش التلفزيون تقريباً، أنتج علم النفس دراسات جادة حول تأثير القصص على العقل البشري، وكانت نتائج البحث متينة للغاية، إذ أثبتت فرضية أن القصص تقولب عقولنا فعلاً، فهي تعلمنا حقائق عن العالم، سواء وصلت لنا عبر الأفلام، الكتب أم ألعاب الفيديو، والحكايات تؤثر في منطقنا الأخلاقي، وتسمنا بسمات الخوف والأمل والتوتر التي قد تغير سلوكنا وشخصيتنا. ويظهر البحث أن القصة تقضمنا وتعجننا باستمرار، مشكّلةً عقولنا دون معرفتنا أو إذننا، وكلما كنا أكثر خضوعاً أمام تعويذة القصة، كان تأثيرها أكبر.
وعن مستقبل القصة، يناقش الكتاب فكرة تطرح بين الحين والآخر عن نهاية الأدب، أو نهاية مرحلة القصة، أو نهاية الرواية. إن صحّت أي من هذه التكهنات فإن هذا لا يعني نهاية القصة، كما يؤكد ديفيد شيلد نفسه، لقد استمرت القصص ترافق الحضارة الإنسانية عبر الغناء الشعبي، الملاحم، المسرح، السينما والرواية. ليس هناك فن بفنائه يفنى نوع القصة، فمازالت القصص تتسلل إلى حياتنا عبر أنواع فنية جديدة. إن الاطلاع على نسخ مجلة "بي سي غيمر" المختصة بألعاب الفيديو ستبين أن معظم ألعاب الفيديو، باستثناء ألعاب الرياضيات، تقوم على قصة، ومصممة على النحو المألوف لبنية المشكلة والحبكة والحل والعدالة الشعرية. تُدخل هذه الألعاب لاعبيها في عالم من الخيال القصصي، حيث يستطيعون أن يكونوا أبطالاً عتيدين في تجارب مبتكرة.
يشير كتاب "الحيوان الحكاء" إلى أن معظم ألعاب الفيديو تقوم على قصة مبنية على مشكلة وحبكة وحل لتُدخل لاعبيها في عوالم الخيال القصصي، كمثال على الإمكانية المستقبلية لتطور الفن القصصي وأشكال السرد
يبين عالم الاجتماع، وليم بينبريدج، الذي أمضى سنتين باحثاً مراقباً مع لعبة وورلد أوف كرافت، أن اللعبة مبنية على الأساطير المعقدة، بقدر أي ملحمة قديمة. هناك كتب ناقشت هذه اللعبة مثل كتاب "القبيلة الجديدة"، و"الحرب الأهلية في أرض الطاعون"، كتب يمكن للاعب أن يقرأها ليتعلم تقاليد المملكة في اللعبة. وهناك سلسلة من الروايات تمتد حتى 15 رواية تجسد قصة ورلد أوف كرافت. تحقق لعبة ورلد أوف كرافت ما تفعله لأنها تجمع إبداع عدة مئات من المتعاونين من المبرمجين، الكتاب، علماء الاجتماع، المؤرخين، الفنانين البصريين والموسيقيين. إنها نتاج عمل مئات المبدعين الذي ينسجون قوة فن القصة، إلى جانب الفن البصري والصوتي، لذلك ستبقى القصة في المستقبل هي فن العقل البشري في المعرفة، التجريب والمتعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون