صدر هذا العام للمفكر الكاميروني ما بعد الكولونيالي، أشيل مبيمبي، كتاب "الوحشية"، الذي يقدم فيه تحليلاً واسعاً وأنطولوجياً للشكل الثقافي الحالي، مُنتقداً تقسيمات العالم والقوى الرأسمالية- القضيبية- ما بعد الاستعمارية التي تحكمه، والتي توظّف ديالكتيك قائماً على التدمير و"البناء المُدمّر"، مستهدفة الأرض والمادة والجسد والدم.
مفهوم الوحشية غامض نوعاً ما، ويختلف تعريفه حسب كل فئة يتناولها مبيمبي، لكنه يشير بداية أنه مستمد من تاريخ العمارة، فالصروح هي الأثر الوحشي على الكائنات، بشراً كانت أو سواها، فالتدمير وإعادة البناء بصورة مضبوطة، ليست إلا انعكاساً للهيمنة، بل أن تطاول الأبنية والعمارات وانتشارها، يعني دوماً عنفاً ممارساً على فئة ما، لا فقط تلك التي قامت بالبناء، بل أيضاً على من أجبروا على الرحيل، فالوحشية هي تلك المسافة بين المادي واللامادي، وكأنها الشرط المقنن الذي يفرض علينا كي ننجو في عالم يناصبنا العداء.
يمتد هذا التقنين والانضباط "العقلاني" إلى خلايا الجسد نفسها، تلك التي تقاس فاعليتها وتقيّم جدواها، فالأنظمة الوحشية تهدف إلى تحويل الكتلة البشرية الخاضعة لها إلى "طاقة"، أي تدمير الحدود بين الفرد والشيء، وفق منطق رياضي ورقمي، مضبوط سياسياً، تحدد عبره صلاحية الحياة و"مقدرات" هذا الجسد الحيوية وما يستحقه، سواء في حالات الحرب أو السلم، نرى هذه الوحشية مثلاً في سوريا، حيث أقر النظام السوري، منحة طارئة للجنود والقوات الرديفة على أساس "العطب" الجسدي، فمن نسبة إصابتهم "40% إلى 65%" سيتلقون تقريباً 88$، ومن نسبته 70% وما فوق، سيتلقى تقريباً 117$.
مفهوم الوحشية غامض نوعاً ما، ويختلف تعريفه حسب كل فئة يتناولها مبيمبي، لكنه يشير بداية أنه مستمد من تاريخ العمارة، فالصروح هي الأثر الوحشي على الكائنات، بشراً كانت أو سواها، فالتدمير وإعادة البناء بصورة مضبوطة، ليست إلا انعكاساً للهيمنة
أشارت أسماء الأسد في حديثها عن جريح الوطن، أن "الشرائح المستهدفة تتوسع"، والهدف هو جعل كل جريح "قادر ومتمكن"، هذه الكلمات واضحة للوهلة الأولى، هناك "جرحى" يتزايدون، ويجب على السلطة أن تجعل كل واحد منهم قادراً على الاستمرار بالحياة، لكن الأرقام لا توضح بدقة من هؤلاء الذين يستحقون هذه المجاملة المادية، ماذا عمن إصابته 39%؟ لا نعلم بدقة كيف يتم تقييم مقدار الضرر الجسدي، وضبط نسبة اللحم المعطوب للحم الفعال، لتحديد الضرر الذي يُنفى بعده الجسد غير القادر على "احتواء الطاقة" و"إنتاجها"، ويتحول إلى حياة على الحافة، تنتظر عطف السلطة لا لأجل "القدرة"، حسب تعبير أسماء الأسد، بل إنهاك الحياة في سبيل نجاتها، ودمجها ضمن خطاب النحيب الذي تمثله أسماء الأسد، ويحدد من يستحق العطف ومن لا يستحق.
ذات الأمر في فرنسا التي تتوحش فيها الرأسمالية شيئاً فشيئاً، ويتجلى هذا الأثر عند فئة من اللاجئين القُصّر القادمين من أفريقيا، الذين يخضعون لعمليات قياس طبية ومقدار تعظّم غضاريف النمو لديهم لتحديد عمرهم، كون الافتراض أنهم "كَذَبَة"، لأن تكوينهم الجسدي لا يعكس عمرهم الحقيقي، هذا القياس يُحدد مدى استحقاقهم لحق اللجوء السياسي والمأوى، لكن الفحص غير دقيق، ولا يأخذ بعين الاعتبار الأوراق الرسمية التي يمتلكها هؤلاء القصر، إثر ذلك، تُرك الكثيرون في الشارع دون بيت ودون أوراق رسمية، بانتظار عطف المارة والمنظمات الإنسانية.
تتجلى الوحشيّة في كلا الحالتين، ضمن عملية طبية- رياضية تقديرية، على أساسها يتم تعريف الفرد سياسياً واجتماعياً، وتصنيفه على أساس "الطاقة" التي يمتلكها، ومدى نفعيتها للسلطة القائمة، وكأن الأفراد كتل بشرية يتغير تقسيمها بحسب قدرتها على الفعالية، أشبه بماكينة كافكا في مستوطنة العقاب، تلك الماكينة التي توشم الجريمة على ظهر المدان، ثم تحوله إلى جزء منها، ممارساً العنف حتى انهيار الآلة التي تبتلع الجميع.
نستعير من مبيمبي تأويله أن الدول الوطنية بشكلها الحالي، سواء كانت ديكتاتورية أو ديموقراطية، هدفها تقنين علاقات الدم، وكل خلل في هذه العلاقات يهدد الكتلة البشرية الخاضعة للسيادة، هذا التقنين هدفه توزيع "الطاقة" ودراسة جدواها، خصوصاً في ظل اختلاط الدماء أو هدرها، فحق الحياة مرتبط بشرط سياسي واقتصادي، "يقيس" عمر الفرد وقدرته على الدخول في الماكينة الوحشية.
أن الدول الوطنية بشكلها الحالي، سواء كانت ديكتاتورية أو ديموقراطية، هدفها تقنين علاقات الدم، وكل خلل في هذه العلاقات يهدد الكتلة البشرية الخاضعة للسيادة، هذا التقنين هدفه توزيع "الطاقة" ودراسة جدواها، فحق الحياة مرتبط بشرط سياسي واقتصادي، "يقيس" عمر الفرد وقدرته على الدخول في الماكينة الوحشية
خارج الجسد داخل المنزل
يشير مبيمبي إلى "أسطورة المنزل"، ذاك المكان الآمن الذي يستقر فيه الفرد، المنزل موضوعة ذاتية، صحيح أننا نولد فيه، لكن نحن من نختار أن يكون منزلنا لاحقاً، لكن ما يحدث الآن ينفي أمان المنزل، العالم كله يتداعى داخله، سواء قبل كورونا أو بعدها، المنزل أقرب إلى ملجأ منه إلى مُستقر، هناك تهديد دائم بأن يدخل كل العالم من الشباك والباب، نتلمس هذا التهديد في رواية "سرير على الجبهة" للسوري مازن عرفة، الراوي فيها أسير منزله الذي يتدفق العالم داخله، ينهش رأسه وجسده، أيدي السلطة والعنف تمتد إلى أشد الفضاءات حميمية وتمسك بها.
لو استثنينا العنف الجسدي المباشر، هناك العنف الممتد في الزمن، ذاك الذي يهدد طاقة الحياة نفسها، والمتمثل بالجوع، وتهديد بيولوجيا الجسد وقدرته على الحفاظ على ذاته، الجوع يضبط الجسد في سبيل التحكم به، وتقنين قدرته على الانتقال والعمل دون إفنائه، وجعله مُنهمكاً في تأمين "طعامه" في سبيل "شحن" طاقته، في سوريا الراتب الرسمي لا يكفي لشراء السعرات الحرارية الكافية لاستمرار الجسد في الحياة، بل فقط توليد طاقة كافية من أجل النجاة، ذات الأمر في فرنسا، المساعدات التي تقدم للعاطلين عن العمل و طالبي اللجوء، ليس فقط لا تكفي للمأوى، بل باستخدامها شراء الطعام الأشد ضرراً، ذاك الذي تنتهي صلاحيته بسرعة والمعالَج بحيث يسدّ الرمق، فالوجبات التي تؤكل بأثمان رخيصة صالحة للاستمرار بالحياة لا "التغذية".
الحق بالهروب
إن كانت الوحشية تستهدف الجسد لتقنين حركته وطاقته، فهي تشتد أمام الجسد الهارب، ذاك الذي قرر "ترك" منزله، والذي "تهدر" طاقته في الحركة والانتقال بعيداً عن ملجئه، الجسد المتسارع في المكان يتعرض للصيد، هو الطريدة الهاربة دوماً، الممنوع من اختيار منزل جديد، لا يستقر على التراب، لكن يطفو، الجميع يريد الرحيل عن الـ"هنا"، لا منزل في أي مكان، فقط ملاجئ ومخابئ، وهذا ما كشفته الجائحة الحالية.
الحق بالهروب ليس مضموناً في أيما مكان، لا أرض ترحب بأحد قرر الهرب، فالطريدة محكومة دوماً بالركض، لا ثقل لها على الأرض، الهارب يُحيي منزله دوماً، سواء عاد إليه أم لا، ذاكرته متخيّلة عن الأطلال والوحوش، لا منزل أول للهارب، فقط ذكريات تعود وتذهب في كل مناسبة، ضياع مكان الاستقرار الأول والهروب المستمر حوّل المنزل إلى "شكل" يستعاد فقط، بوصفه امتداداً لتقاليد للهاربين، وكل وهمٍ بالمنزل أو إيجاده يعني "الموت"، ألم يبحث أوديب عن منزله، وحين وجده اكتشف نفسه ملعوناً، أوديب، الذي للمصادفة أعرج، أي قدرته على الانتقال معطوبة، لا يقوى على الهرب ولا منزل له، لأن لحظة الاستقرار تتطابق مع الخراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون