أبرز ما يميّز طقوس "ضرب السيخ" الشعبيّة الدينيّة هو غياب الدماء، كأن جسد المُريد الذي يتسامى يُصبح بلا دماء، وتتلاشى الحدود والأقنية الحيويّة التي تنظّم حركة الدماء في الجسد، وتختفي سوائل الحياة من المساحة المرئيّة، على حساب قدرة العلويّ والربّانيّ، الذي تماهت لا نهائيّته مع تناهي المريد، فلا موت ولا ألم ولا دماء.
صحيح أن هناك تفسيراً طبيّاً لهذه الممارسات، وانتقادات متعدّدة لمن يتبنّونها، لكن المثير للاهتمام هو السؤال الذي يتكرّر دوماً حين نشاهد هذه الطقوس، " كيف لم ينزف؟"، أو "أين ذهبت الدماء؟"، فأي تهديد لـ"شكلـ"ـنا كبشرٍ يترافق دوماً مع دماءٍ تسيل وتعلن أن هناك شيئاً غريباً يدخل أو أوشك على الدخول من مساحات الجلد الملساء، المتجانسة، والمحكمة الإغلاق.
أجسادنا بشكلها القياسيّ أوعيّة هشّة، تختزن الدماء كحامل "الحياة"، السائل المُتحرّك (0.9م/ثا)، مضبوط الكمّية (5.6 ليتر)، ذو العمر المحدّد (100-120 يوم داخل الجسد، 42 يوماً في كيس خاص)، خزّان تاريخنا كأفراد، الذي ما إن يُصبح مرئياً حتى تتحرّك المؤسّسات الطبيّة والسياسيّة والثقافيّة لإعادته لوعاءٍ مغلق، فكلّ دماءٍ علنيّةٍ مُشكلة، وعلامة على خللٍ أو عنفٍ ما، كون معايير "الانغلاق" و"الاخفاء" هي المهيمنة، وتُستثني المرأة، بوصفها لا قياسيّة، وترى في دمائها الشهريّة "مُشكلة" لابدّ من عزلها، في انصياعٍ للمتخيّل الدينيّ والتاريخ الطبيّ، الذي يرى في علنيّة الدماء أزمةً في العالم.
ما يهمّنا من الدماء هنا هو خصائص "الحياة" التي تحويها والقوى السياسيّة والاقتصاديّة التي ترى في الدماء واحدةً من الفئات الخاضعة لاختصاصها، سواء عبر إسالة، ضبط، أو استثمار وجودها، للاستفادة من خصائصها الحيويّة المرتبطة بزيادة أو نقصان كمّيتها، لن نتحدّث عن "الأمراض" التي تحويها الدماء والسياسات المرتبطة بها، بل فقط الدماء الخاليّة من المرض، الصحيّة طبيّاً.
إكسير الجمال الأبديّ
تُحارِب الدماء أشدّ مخاوف البشريّة، المرض والشيخوخة التي تنتهي عادةً بالموت، فالمصابون بالصرع في العهد الرومانيّ كانوا يشربون دماء المجالدين الطازجة، للتخفيف من الأعراض التي تنتابهم، كذلك يقال أن البابا إنوسينت الثامن، الذي تولّى منصبه في القرن الخامس عشر، قام وهو على فراش الموت، بشرب دماء ثلاثة شبانٍ بعمر العاشرة كي يستعيد صحّته، كما قال له طبيبه، وبالطبع مات البابا والأطفال الثلاثة، لكن المثير أن هناك متخيّلاً عن القوى السحريّة والعلاجيّة للدماء، والتي تحضر ضمن التراث الدينيّ، وتبلغ أشدّ صورها غروتيسكيّة مع قصص الساحرات ومصاصي الدماء، الذين لا يشيخون، الأصحّاء دوماً، ذوي البشرة المشدودة والنقيّة.
هذه الخيالات اللاطبيّة وجدت تفسيراً لها مع العلوم الحديثة والتطوّر التقنيّ، وأصبح السائل الأحمر إكسيراً للشباب وهوساً لمحاربي الزمن، فحقن الصفائح الدمويّة PRP في الوجه والمناطق التي تحوي تجاعيد، أصبح رائجاً وجزءاً من صرعات التجميل المعاصرة، إذ يقال إن الصفائح الدمويّة تحوي أنزيم النموّ الذي يحفّز الشفاء والتعافي ويُعيد للجلد حيويّته، وكأن الدماء تُعيد الشباب، وكلّما ازدادت اختفى تأثير الزمن، وبالرغم من تناقض الدراسات التي تؤكّد حقيقة هذه "العلاجات" لكنها حاضرة، ويتبنّاها الكثير من المشاهير.
تزداد أهميّة خصائص الدم الحيويّة وأثره على المهارة والقدرة على توظيف الجسد لدى الرياضيين، فتعاطي المنشّطات لا يقتصر على المواد الكيميائيّة، بل ينسحب على الدماء، كحالة لانس أرمستورنج، سائق الدراجات الشهير الذي جُرّد من كلِّ ألقابه، بعد أن اكتُشفَ أنه كان يحقن نفسه بدمائه، ليزيد من تعداد كريات الدم الحمراء في جسده، ما يعني أوكسجين أكثر، وطاقة أكثر، واستطاعة فائقة على الاحتمال وتجاوز التعب، وكأن قدرة الجسد على اختبار الحياة واستخدامها تزداد كلّما ازدادت كمية الدماء، وتدفقت في ماكينة الجسد.
تُحارِبْ الدماء أشدّ مخاوف البشريّة، المرض والشيخوخة التي تنتهي عادة بالموت، فالمصابون بالصرع في العهد الرومانيّ كانوا يشربون دماء المجالدين الطازجة، للتخفيف من الأعراض التي تنتابهم، كذلك يقال أن البابا إنوسينت الثامن، الذي تولى منصبه في القرن الخامس عشر، قام وهو على فراش الموت، بشرب دماء ثلاثة شبان بعمر العاشرة كي يستعيد صحته
الحياة التي تحملها الدماء، خصوصاً لأعداء السيادة السياسيّة، تجعلها محطّ العنف، وكل من يحاول التعامل معها قد يتعرض للقتل كونه يضمن حياة "الأعداء"
الدماء خزان تاريخنا كأفراد، الذي ما إن يصبح مرئياً حتى تتحرك المؤسسات الطبية والسياسية والثقافيّة لإعادته لوعاء مغلق، فكل دماء علنيّة مُشكلّة، وعلامة على خلل أو عنف ما
الدم السياسيّ
اتَهم القياديُّ في حركة حماس صلاح بردويل اليهودَ في إسرائيل بأنهم، كجزء من تقليد دينيّ، يقتلون الشابات والشبان الفلسطينيين من أجل دمائهم التي يتمّ مزجها مع الخبز و التهامها في عيد الفصح، لن نبرّر هنا الاستعمار أو القتل أو صحّة هذه الحكاية، لكن استعادتها وارتباطها بالدماء، يعيدانا إلى سياسيّة الدماء، لا بالمعنى المجازيّ، بل الحرفيّ، بوصفها محطّ صراع من جهة واختصاصاً سياديّاً من جهةٍ أخرى، إمّا لتعزيز تجانس الأمّة الوطنيّ مكوّناتها المتفوّقة، كحالة ألمانيا النازيّة التي كانت تمنع نقل الدم بين غير الآريين، دون أي دليل طبي على خصائص الدم الآري.
أو كما في الولايات المتحدة، إذ لم يكن مُحبّذاً نقل الدماء بين البيض والسود، أيضاً دون أي مبّرر طبي سوى رواسب عنصريّة من زمن العبوديّة، صحيح أن هذا التقليد أُلغي مؤخراً بقرارٍ علنيّ، لكن هذه الحوادث تحيل إلى علاقة الدماء وأشكال "استهلاكها" طبّياً، مع قوّة "أمّةٍ" ما و خطابها " الوطني" الذي يضفي على الدماء خصائص ثقافيّة لا علاقة لها بأيٍّ من خصائصه الحيويّة.
الحياة التي تحملها الدماء، خصوصاً لأعداء السيادة السياسيّة، تجعلها محطّ عنفٍ، وكلّ من يحاول التعامل معها قد يتعرّض للقتل لأنه يضمن حياة "الأعداء"، كما في سوريا مثلاً، حيث تعرّض من أقاموا "مشافٍ" ميدانيّة في المناطق المحاصرة أو الجبهات لأشدّ أشكال العنف، كما طالت الملاحقة والتهديد حتى من يعملون كمسهّلين لانتقال الدماء وما يتعلّق بها،
نقرأ من هذا الحدث فساد معايير الصحّة الوطنيّة، وتهديدها حتى للجسد الوطني عبر التلاعب بصناعاتٍ حيويّة وإنتاج ما لا يتوافق مع شروط الحفاظ على "سائل الحياة"، في ذات الوقت، نقرأ العنف ضدّ من يساهم في حياة الأعداء، واستمرار جريان دمائهم، بوصفها تهديداً يحوي "فايروس ثقافيّاً" قد يضرب السيادة نفسها ويُعدي المواطنين الصالحين.
الدمّ والمحرّم
لطالما ارتبطت دماء الدورة الشهريّة بالمُعيب والمحرّم والنجس، وتصنّف دوماً على أنها تابو، لا يجوز مسّها أو حتى الاقتراب من المرأة الحائضة كما في بعض التقاليد الدينيّة، التي تمنع المرأة حتى من ممارسة الشعائر الدينيّة ومسِّ كلّ ما هو "طاهر"، الأهمّ، أن كلمة تابوTaboo نفسها، المستخدمة في العربيّة والانجليزيّة والفرنسيّة مشتقّة من كلمة "تابوا-Tapua" التي تعني دماء الحيض، أو المقدّس، وهي تختزن في المعنين معاني مرتبطة بعدم المسّ أو الاقتراب.
وبعيداً عن هذه الأساطير والتمييز العميق ضدّ المرأة ودمائها، ما زالت هذه الدماء "مُحارَبة"، ويتمّ تجاهلها والألم المترافق معها، وبالرغم من أن تاريخ الفنِّ النسويّ يحوي الكثيرات ممن استخدمن دماء حيضهن في أعمال فنيّة، إلا أن القطاعات الأخرى ما زالت تميّز المرأة في زمن الحيض، ففي الفضاء العام مثلاً، لا نجد حصّالات أو نقاط بيع للمنتجات النسويّة، في حين نرى الكثير منها مختصّة ببيع الواقيات الذكريّة لاحتواء السائل المنويّ واحتمالات "إنتاجه".
ذات الشي ضمن فضاء العمل، إذ يرى البعض أن المرأة الحائض تهدّد الإنتاج ولا تستطيع إنجاز ما عليها من واجبات، وبقيت الدعوات لإجازةٍ مدفوعةٍ أثناء أيام الحيض محط السخريّة، في حين أنها ضروريّة لبعض من يعانين من ألم شديد أثناءها، ولم يتمّ تبني هذه الإجازة الجديدة إلا مؤخّراً وفي سياقات ضيّقة، وخصوصاً أن النظرة إلى ألم المرأة متحيّزة، بوصفه أقلّ من ألم الرجل، ولا يُأخذ بذات الجديّة في اعتماد على تفسيرات لا منطقيّة، كأن يُقال إنها عاطفيّة أو أكثر توتراً.
بالعودة لهذه الإجازة، الكثيرات رأين فيها تهديداً لوظائفهن، وحجّة تمنع ترقيتهن وسبباً كي يُدفع لهنّ أقلّ، في إشارة إلى عدم قدرتهن على العمل، ما يؤخّر أو يمنع الارتقاء في الهرم الوظيفي، لكن لا يبدو هذا منطقيّاً في الكثير من الأحيان، فمن اللاإنساني أن يُضطرّ أحدهم مهما كان جنسه، لأن يعمل تحت الألم، سواء كان هذا الألم اعتيادياً أم لا.
إلا أن هذه "الإجازة" وارتباطها بالدماء تشير إلى عطبٍ في ماكينة الإنتاج نفسها وشروط العمل التي تفترض مقاييس ومعايير جسديّةً محدّدة، تتحرّك إثرها ماكينة الإنتاج لخدمة فئةٍ من "الرجال" على إيقاع صحّتهم وحياتهم، وتنفي، ولو بصورةٍ غير مباشرة، أولئك الذين لا تخضع أجسادهم لذات الإيقاع، في استعادةٍ بعيدةٍ لسياسات التمييز ضدّ المرأة الحائض التي تُنفى من الحياة اليوميّة والعمل في بعض المجتمعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون