بعد العام 2011، بينما كان المجال العام مفتوحاً للمرة الأولى في حياتنا، كان هناك دائماً من يحيي ذكرى 25 يناير بالاحتجاج ومن يحتفل. كان ذلك قبل أن تلملم الدولة أدواتها وناسها ليغلق هذا المجال تماماً.
مع كل ذكرى جديدة، يبدو الأمر أكثر ضبابية. يصعب أن تحافظ على الحماس القديم وسط كل هذه التحولات والهزائم. ما جدوى التذكر إذا كانت حاملة الورود شيماء الصباغ (1983-2015) قد قتلت في طريقها لميدان التحرير عشية الذكرى الرابعة؟
على إثر زيادة السيطرة على المجال العام وتحوّل الأمر إلى سيطرة كاملة من أنصار الاحتفال بعيد الشرطة على المشهد مع موعدنا مع الذكرى الخامسة، وجدت أنه من الأفضل الاحتفال بعيد ميلاد المخرج المصري يوسف شاهين (1926- 2008).
مشاهدة منزلية
كنّا دائماً نشاهد أفلامه في بيت العائلة. أفكر كثيراً أن أسباب عدم الفهم الشائعة بين الجمهور، ترجع إلى حذف رقابة التلفزيون لمشاهد كثيرة.
مع كل فيلم كان الأمر يبدو واضحاً، أمي تحبه وأبي لا يحب إلا "الأرض" (1969). في هذا الفيلم وضع شاهين الكاميرا على الأرض بالفعل، ليقدم زوايا بصرية جديدة لتناول موضوع مثل علاقة الفلاح بالأرض وعملية الإنتاج وتسلّط كبار الملاك، على حياة الفلاح وتلاعبهم بالقانون كذلك. لكن الفيلم انحاز لأبعاد جمالية جديدة على السينما الواقعية.
محبو "الأرض" و"الناصر صلاح الدين" (1963)، هم الفئة الأكبر. ستصرح تحية كاريوكا في فيلم آخر هو "إسكندرية كمان" (1989)، إنها لم تحب إلا معالجته السينمائية لرواية عبد الرحمن الشرقاوي. ستعتبر هذه الفئة أفلامه غير مفهومة، أو تحوي الكثير من الأفكار المزعجة، لكنها لن تعلن آراءها أبداً بخلاف كاريوكا، خصوصاً بعد تكريمه بالسعفة الذهبية عن مجمل أعماله عقب مشاركته في كان بـ"المصير" (1997)!
لم تكن العائلة تدفعني لمشاهدة كل أفلام هذا المخرج، لكن هذا ما حدث وبدأتُ أعي أهمية دور شاهين مبكراً.
أول الأفلام كان "بابا أمين" (1950)، ظهرت فيه محاولات شاهين لتقديم مسارات جديدة في المعالجات الفنية. جسد روحاً تتأمل الحياة بعد وفاة صاحبها. قبل هذا الفيلم قدم شاهين مسرحيتين في العام 1948، الأولى قصة حب لإبسن، والأخيرة بعنوانThe magnificent vanes . لن يكرر العمل المسرحي إلا على خشبة الكوميدي الفرنسي عام 1993، حين قدم معالجته المسرحية لـ"كاليجولا" ألبير كاموAlbert Camus بباريس.
حين حاكمت مؤسسة القضاء "المهاجر" (1994)، تحدث عن لقائه قبل التصوير مع بعض مشايخ الأزهر الذين دعوه لعدم تجسيد الأنبياء. وبالفعل التزم شاهين ذلك، وجعل القصة بطولة رام وليس يوسفَ. لكنه مع بدء المحاكمة، وجد أن الأزهر يحاربه. وسط كل هذا الكلام، ينتقل من الحديث عن فيلمه إلى السياسة فجأة، يقول: "الناس اللي شافت المهاجر 800 ألف. هم الأغلبية الصامتة المشغولة من البطالة، من قلة الإسكان. متهانة (بيقلولها) أنتِ ملكيش دعوى.. وفي احتمال إننا حننتخب قريب يا ولكم يا ويلنا كلنا إذا منزلناش كلنا". (يقصد انتخابات مجلس الشعب عام 1995).
مناظرة الشارع
خلال المحاكمة جرت مُنَاظرة أمام محكمة عابدين في وسط القاهرة. سجل المخرج الراحل محمد شبل هذه المواجهة في وثائقي يتكون من 12 جزءاً بعنوان "حدوتة شاهين". يقف المفكر اليساري محمود أمين العالِم أمام محمود الكردي أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة، ويعرفه "حدوتة شاهين" بأنه "أستاذ الأديان المقارنة". يعتبر الكردي أن المهاجر يسيىء للنبي يوسف، بينما يدافع الآخر عن الفيلم. يتمسك الكردي بأن الفيلم مأخوذ من التوراة، وأنه قصة النبي يوسف، لكن العالم يدافع وحجته أن العمل الفني لا يمكن أن يعامل كأنه تقرير، ويجب الاحتكام لكونه إبداعاً.
يسأل الكردي العالِم عن كلامه لكاميرا شبل ماذا يعتبره "تقريراً أم فناً". يقول المفكر اليساري إنه تقرير، ثم يحرك ذراعه أمام الكردي بطريقة توحي أنه يتمايل ويقول: "إذا غنيت ورقصت يصير فناً". خلال هذه المناظرة يقاطعهما أحد المارة: "إذا كان الفن حيؤذي مفاهيم الدين يبقى نقطعه من جذوره". في النهاية حكمت المحكمة عام 1995 بعدم قبول الدعوى لكونها قضية "حسبة".
تسجيل السياسة
كان الفيلم الأخير مختلفاً. يقدم شاهين للمرة الأولى عملاً مشتركاً، إذ حمل "هي فوضى" (2007) توقيع خالد يوسف مجاوراً لأستاذه. يغرق الفيلم في رمزية تذكّر بفيلم "العصفور" (1972). سيدة اسمها بهية، ووكيل نيابة اسمه شريف. كما يجسد الفيلم حراكاً جماهيرياً يتنبأ بما جرى في 28 يناير 2011، حين حاصر الأهالي أقسام الشرطة. عبّر الفيلم عن أمناء الشرطة، وسطوة مساعد الشرطة في الشارع، كما أصدر شاهين بياناً سياسياً حمل عنوان الفيلم نفسه.
تجاور الاسمان: يوسف شاهين وخالد يوسف، يذكر بالوثائقي "القاهرة منورة بأهلها" (1991). ظهر خالد يوسف لأول مرة في هذا الفيلم كعاطل عن العمل ويطلب من بطل الفيلم أن يمنحه فرصة للعمل. تجارب شاهين التسجيلية معدودة بدأت بـ"عيد الميرون" (1967)، ثم "سلوى الفتاة التي تكلم الأبقار" (يونسيف - 1972)، انطلاق (1973)، كلها خطوة (1998)، وآخرها بعد 47 سنة (2007).
يظهر يوسف شاهين كبطل لفيلم "القاهرة منورة بأهلها"، بينما كان يعد فيلماً عن البطالة، يظهر خالد يوسف في الشارع باحثاً عن عمل. يتحدث شاهين في هذا الفيلم القصير، مدته 23 دقيقة، أمام مساعديه من الشباب. طلب التلفزيون الفرنسي منه فيلماً عن القاهرة. "تفتكروا همّا مفتكرين مني إيه؟" يسألهم، ثم يستمع لأجوبتهم. تتنوع مقترحاتهم بين تصوير الهرم أو رقصات هز البطن في كباريه أو أسرة فقيرة تعاني من الغلاء!
كان خالد عاطلاً عن العمل لدى مقابلته المُتطرِف، وقد قدمه خالد النبوي. كان أميراً لجماعة متشددة، بعد أن كان طالباً متفوقاً ويسارياً في سنوات الجامعة. يبدو المجتمع محتقناً. المسيحي ينزعج من صلاة المسلمين في الشارع ظهر الجمعة، بينما يتزايد الملتحون، واليأس ليس إلا باباً لحيرة مستمرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...