شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أنور رسلان... سيرة مناقبيّة شبه ذاتية لضابط أمن منشق

أنور رسلان... سيرة مناقبيّة شبه ذاتية لضابط أمن منشق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 27 مايو 202011:38 ص

حصل رصيف22 على نسخة من نص الدفاع الذي قدّمه أنور رسلان، أمام المحكمة الإقليميّة العليا في ولاية كوبلنز. رسلان، الضابط السوري المنشق، ورئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب- أمن الدولة، انشقّ عن النظام السوري عام 2012، ودخل ألمانيا عام 2014، وعام 2019 اعتقل من قبل السلطات الألمانية للاشتباه بضلوعه في جرائم ضد الإنسانية، وقدم رسلان في جلسة المحاكمة دفاعاً ذاتياً يتألف من 40 صفحة، "ردّاً على القضية الجنائيّة الموجهة ضده... وذلك فيما يتعلق بوضعه الشخصيّ والتهم المنسوبة إليه ".

اخترنا في العنوان كلمة "سيرة شبه ذاتية"، في محاولة لفهم الأسلوب الذي يقدّم فيه رسلان نفسه ويصوغ حججه، لا من وجهة نظر قانونية، بل ثقافية، فالنص أمامنا بـ"صوت" رسلان، أي هو "المؤلف" المفترض للاعتراف أو الشهادة، ويخاطب في هذا النص القضاء، ونصوص أخرى بعضها موجود، والآخر بانتظار أن يدوّن، يأتي استخدام لفظ "سيرة" أيضاً من منطق أن رسلان يتحدث مدّعياً "الحقيقة" التي شهدها واختبرها، هذا الادّعاء يأتي على مستويين، الأول بصوته ويرتبط بمعرفته الذاتية وخبرته الحسية ليوضح مكانه ضمن بنية النظام السوري وفرع أمن الخطيب، ثم كيفية انشقاقه وعلاقاته مع الآخرين، والمستوى الثاني هو محاولة خلق حكاية "متماسكة"، والتشكيك بحكايات "الشهود" الآخرين، واستحضار آخرين ذوي شهادات منصفة.

دفاع رسلان ينطلق من أنه "شاهد" لا "فاعل"، يقدّم نفسه بوصفه لم يمتلك "قراراً" أو "يداً" في التعذيب، أو أي واحدة من التهم الموجهة إليه، وكأن حكايته/ دفاعه تسعى لتصحيح حكاية "خاطئة" أو "منقوصة"، جهد سرديّ تتعارك ضمنه حكايات في سبيل بناء "الحقيقة"، خصوصاً أنه كان، حسب ادّعائه، فاعلاً علنياً وسرياً في نشاط المعارضة السورية، وداعماً للمظاهرات السلمية، بل وقام بمساعدة الكثيرين للخروج من المعتقلات

دفاع رسلان ينطلق من أنه "شاهد" لا "فاعل"، يقدّم نفسه بوصفه لم يمتلك "قراراً" أو "يداً" في التعذيب، أو أي واحدة من التهم الموجهة إليه، وكأن حكايته/ دفاعه تسعى لتصحيح حكاية "خاطئة" أو "منقوصة"، جهد سرديّ تتعارك ضمنه حكايات في سبيل بناء "الحقيقة"، خصوصاً أنه كان، حسب ادّعائه، فاعلاً علنياً وسرياً في نشاط المعارضة السورية، وداعماً للمظاهرات السلمية، بل وقام بمساعدة الكثيرين للخروج من المعتقلات.

قراءتنا للصفحات الأربعين تقوم على مزيج من العناصر السردية وأشكال التمثيل وتكنيكات الخطاب، هذا بالطبع لا يعني ادّعاء الحياد، أو محاولة تبييض صورة رسلان أو التشكيك بحقيقة الاتهامات الموجهة ضدّه، بل تلبيّة لفضول منحرف، عن الأسلوب الذي يمكن أن يدافع فيه متهم بجرائم حرب عن نفسه في الحالة السورية.

بيروقراطيّة "الفرع"

يقسّم رسلان الكتلة البشرية الأمنية الفاعلة في فرع الخطيب إلى عدة فئات تابعة لعدة جهات وقيادات، و يشير إلى أن وظيفتها الأهم، وهي التعذيب، كانت ترتكب من قبل "الحرس الجمهوري"، ويحاول عبر تحديد وظيفته بدقة، رسم الحدود بين الممارسات القانونية التي اتبعها هو، أي السؤال عن مذكرات اعتقال بحق المساقين للقسم من قبل الحرس الجمهوري، وما هو لا قانوني الذي لم يمارسه ولم يكن جزءاً منه، والذي يتمثل بالاعتقال التعسفي والتعذيب، ويشير أنه بعد مظاهرات الحولة، شمالي سوريا، تم تهديده، خصوصاً أنه انتقد ممارسات الحرس الجمهوري، وأخلى سبيل المعتقلين دون مذكرة، ونتج عن التهديد سحب الكثير من الصلاحيات منه.

يوظف رسلان على طوال النص هرميّة النظام الداخلية والتسلسل القيادي، مشيراً إلى العناصر الفاعلة في عمليات الاعتقال و التعذيب، وتلك التي تكتفي بالمهام البيروقراطية، ويشير إلى أن مهمّته تغيرت بعد حزيران 2011، خصوصاً أن الفرع أصبح عبارة عن ثلاثة أفرع، وهنا يكشف أن مهمته هي "أن يكتب ملخصاً خطياً أو مذكرة عن كل الاستجوابات التي يقوم بها المحققون... وإضافة بعض التوصيات"، هنا نحن أمام جهد سرديّ، التلخيص الذي يقوم به رسلان قائم على الاقتباس والتقييم وتحديد درجة الخطر التي يشكلها الفرد، إذ كان يقدم "محضراً واحداً عن كل التحقيقات"، ويوصي بإخلاء سبيل "المتظاهرين السلميين أو من لم يتظاهروا".

نحن أمام سلسلة بيروقراطية وأوراق ومعايير يتم على أساسها التصنيف، هذا الملخص يعني أيضاً أنه كلما ارتفعنا في هرمية السلطة، تحول الأفراد إلى كتل بشريّة، واختزلت حيواتهم ونشاطاتهم إلى عبارات وصفيّة قليلة، نحن أمام "كتابة" ذات شرعية داخل أفرع الأمن، وذات معنى متفق عليه داخلياً، لا ندري مدى "قانونية" هذه النصوص، أي الاتهامات، ونتائج التحقيقات، لكن يبدو أن لها معنى خفياً متفقاً عليه، خصوصاً أن رسلان يقول: "بالنسبة للتوصيات في المذكرات الكتابيّة لم يكتب فيها تاريخياً طلب تعذيب".

في الحالتين السابقتين، هناك مهارات "تأليف" لدى العاملين في أفرع الأمن ترتبط بتسرب هذه الوثائق، وضمان غياب أدلة رسمية على العنف الممنهج، لكنها مفهومة لفئة محددة ضمن هرمية النظام، وكأن كل "وثيقة" تملك معنيين، واحد لغوي تتطابق فيه الكلمات مع معانيها، وآخر خفيّ، يدركه المضطلعون بأسلوب عمل هذه الهرمية، ليظهر التعذيب بوصفه أوامر شفهيّة، لا يمكن تتبعها، إذ لا وثائق عنه، أوامر لفظية فقط، وهنا نفهم لم وضع شكل التقرير الطبي الرسمي في الشهادة، في تهديد لمصداقيّة الورقي والمكتوب على حساب الشفهي والمسموع، في ذات الوقت عدم تحديد مسؤولية من قام بذلك بدقة، بل تحميلها للـ"فرع"، وكما عُرف سابقاً، أسباب الموت دائماً هي " توقف القلب والتنفس"، وهنا يظهر التعذيب بوصفه فضاء صوتياً داخل فضاء الفرع، لا علامات كتابيّة من "الداخل" توضح هرميّة الأوامر .

نحن أمام سلسلة بيروقراطية وأوراق ومعايير يتم على أساسها التصنيف، هذا الملخص يعني أيضاً أنه كلما ارتفعنا في هرمية السلطة، تحول الأفراد إلى كتل بشريّة، واختزلت حيواتهم ونشاطاتهم إلى عبارات وصفيّة قليلة، نحن أمام "كتابة" ذات شرعية داخل أفرع الأمن، وذات معنى متفق عليه داخلياً

"منطقيّة النظام" ضد "لا يقين" الشهادة

يرد رسلان التهم عنه موظفاً معرفته بهيكلية النظام وتوزيع الأدوار ضمن الفرع وعلاقات القوة ضمنه، يجعل من الاتهامات الموجهة إليه "عاطفية" أو "غير متماسكة"، بمواجهة الدقة التي يدّعيها، هذه الدقة ناتجة عن توظيف تواريخ وأسماء تجعل شهادة المتهمين لا تتطابق مع سير الأحداث "الحقيقي" حسب ادّعائه، موظفاً شهوداً آخرين منشقين أو معارضين في محاولة لتدعيم حكاياته، هو يوظف "عقلانيّة" النظام وبيروقراطيته بوصفها "صحيحة" ومتماسكة ويمكن استدعاء من يؤكّد عليها.

يستحضر رسلان أيضاً مفاهيم "خيانة الشاهد"، كي يجعل نفسه غافلاً أو غير متورط، أي يشكك بشهادة العيان المقدمة ضده أو ضد الفرع، بوصفها منقوصة العناصر أو غير منطقية، كونها لا تتطابق مع معرفته المسبقة بآلية عمل الفرع وهيكليته، وكأن شهادات "الآخرين" عاطفية وغير دقيقة، بالمقارنة مع الإحكام الذي يدعيه ذاك القائم على التواريخ والأسماء، إذ "يصوّب" الشهادات ضده لينفي صحّتها، أو ببساطة "عدم معرفته" سواء بالشخص الشاهد ضده أو ما جرى له.

يوظف رسلان معرفته بـ"آليات عمل النظام" و توزيع القوى ضمنه لنفي حقيقة الاتهامات ضده أو التشكيك بمصداقيتها، أي يشكك بـ"الشاهد" نفسه، الذي لم يرى، بل تخيّل أو تهيّأ له، وكأنهم شهود بحكايات منقوصة لا تكفيّ لإدانته، لسبب جوهري هو عدم رؤيتهم لما يدّعي أنه رآه ويعرفه.

يراهن رسلان في دفاعه أيضاً على "اللامنطق"، خصوصاً فيما يتعلق بالتعذيب، أي ينفي حصول بعض اتهامات التعذيب في الفرع لأنها ببساطة غير منطقية، أو لا يمكن تنفيذها ضمن فضاء الاعتقال، كأن يُغتصب أحدهم واقفاً، أو يتم "شبح" أحدهم وضربه، لأن ببساطة لا يوجد سلاسل في الزنازين!، لكن أحدهم أحضرها من الخارج، ينسحب هذا اللامنطق الذي يدّعيه على بعض التهم التي تلصق بالمعتقلين، كاستجلاب شخص والتحقيق معه بسبب منشورات على فيسبوك.

"مناقب" رسلان هي محاولة لتكوين سيرة موازية عن تلك التي "ألّفها" هو، تُنطق على ألسنة الآخرين، خصوصاً أنه يتحرك ضمن عالمين متوازيين يحويهما فضاء الفرع، هذان العالمان بهرميتين مختلفتين، في الأول هو موظف بيروقراطي، وفي الآخر هرمية مختلفة، مسؤولة عن القتل والتعذيب هو مراقب ضمنها فحسب

"كنزة لونها خمري وبنطال جينز"

نتلمس في شهادة رسلان ووصفه لبعض الأحداث التي لا تتجاوز الفقرة ما يسمّى "تأثير الواقع-l'effet de réel" وهي تفاصيل صغيرة تبدو للوهلة الأولى غير مهمّة، ولا تدخل في جوهر الحدث، هي تفاصيل وصفيّة بحتة، لكن وجودها يكسب كلامه صفة "الواقعيّة"، فحين حديثه عن مراجعة أحد المعارضات له في الفرع، يقول إنها كانت ترتدي "كنزة لونها خمريّ وبنطال جينز" تفصيل يبدو مجانياً، لكنه يستخدم في محاولة لنفي "واقعية" شهادات الآخرين ضده، وتقديم النسخة "الواقعيّة" مما حدث، عبر علامات صغيرة من الصعب التيقن من صحتها، لكنها تفيد في خلق أثر الواقع، ذاك الذي وظفته بعض الشاهدات ضده، لكنها حسب ادّعائه قدمت صورة غير "حقيقة"، فمثلاً مكتبه صغير "طوله 3 أمتار وعرضه 3 أمتار، ولا يوجد فيه غرفة للضيوف"، بعكس ما قالت الشاهدة السابقة التي زارته في مكتبه عام 2011، حسب ادّعائه، لا عام 2012 كما ادّعت، والأهمّ أن مكتبه ليس كما وصفته بأنه "غرفة كبيرة جداً و كان يوجد نطاق للضيوف مجهّز بأرائك ومقاعد مريحة"، تظهر هذه "التناقضات" ذاتها حين الحديث عن أحجام الزنازين وعدد من فيها وكيفية توزعها، هو يقدم "واقعاً" مختلفاً عن ذاك الذي يصفه الشهود ضدّه.

من رأى "وجه" أنور رسلان؟

هناك تفصيل مثير للاهتمام في أسلوب نفي رسلان لشهادات المدّعين عليه، يرتبط بوجهه، و هي تقنيّة متبعة من قبل أغلب العاملين في مؤسسات النظام السوريّ الأمنية، وهي عدم اليقين من "هويّة" الفاعلين في النظام عبر إخفاء وجوههم، أو عدم وجود صور علنيّة لهم، وهنا يشير إلى أن الكثيرين ممن ادّعوا رؤيته، لم يروه، أو التبس عليهم الأمر، فلا وجه لرسلان إلا في شهادات تقتصر على من زاره في الفرع، ومن ساهم بمساعدتهم من معتقلين، أما من قالوا إنهم رأوه "خارجاً" أو في "الميدان" فقد "شُبّه لهم"، فوجه رسلان حاضر فقط في "الداخل"، حيث هو بلا صلاحيات لممارسة العنف ومشلول القوى وممنوع من القيام بأي مهمّات، فعاليته في "الداخل" تقتصر على المراقبة و المهام الإداريّة ومحاولة إطلاق سراح المعتقلين، أشبه بمراقب حسن النيّة يبذل ما يستطيع.

سيرة مناقبيّة

يطلب رسلان من المحكمة الاستماع إلى مناقبه، تلك التي "شهد" عليها الكثيرون، مقسّماً أنصار الثورة في سوريا إلى من قدّروا جهوده وأشادوا به، وآخرين يرون فيه مجرماً وجلاداً، مراهناً في ذلك على حاجة الجميع على مساعدة المعتقلين من جهة، والرغبة لدى الجهات المختلفة بمعرفة آلية عمل النظام وأفرعه، "مناقب" رسلان هي محاولة لتكوين سيرة موازية عن تلك التي "ألّفها" هو، تُنطق على ألسنة الآخرين، خصوصاً أنه يتحرك ضمن عالمين متوازيين يحويهما فضاء الفرع، هذان العالمان بهرميتين مختلفتين، في الأول هو موظف بيروقراطي، وفي الآخر هرمية مختلفة، مسؤولة عن القتل والتعذيب هو مراقب ضمنها فحسب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image