يحوي نظام التحقيق في سوريا، ضمن إدارات الأفرع الأمنية، ما يسمى "المحقق المتعاقد"، وهو شخص مسؤول عن إعادة النظر في محضر التحقيق أو الضبط الذي أنتج في قبو التعذيب، من أجل صياغته وتقديمه بأسلوب قانوني ولغة يكون "الاعتراف" فيها ذا قيمة جنائية، في حال سيتم تحويل "المعتقل" إلى القضاء الرسمي أو المحاكم الميدانية.
هذا الشخص، "المحقق المتعاقد"، جزء من جهاز بشري وأيديولوجي مسؤول عن إنتاج الأدلة، يعيد تعريف العنف الذي تمارسه الدولة وجهازها من أجل إدانة "أعدائها"، هذا العنف السيادي يمتد إلى مساحات جغرافية بأكملها، إذ تنجزه المؤسسة العسكرية التي تزحزح التراب وتفكك الأبدان، هذا العنف الذي نراه في اليمن، فلسطين وسوريا، يُطمس عبر الأجهزة الأيديولوجية للدولة ومؤسساتها الأمنية التي تنتج معلومات و"وثائق" قانونية تهدد حكايات الشهود، وتدمّر الدليل المادي، خالقة مساحة من الرعب تملؤها صور الموت وشهادات الذين تعرضوا للعنف، دون أن تكون هناك وسيلة لإدانة الجاني "قانونياً".
تأسست عام 2010 منظمة العمارة الجنائية Forensic Architecture التي يرأسها حالياً المعماري Eyal WEIZMAN في جامعة لندن، كرد فعل على ظاهرة الطمس والإخفاء التي تمارسها الدول لإخفاء الأدلة التي يمكن أن تدينها وجيوشها، ويمكن وصف العمارة الجنائية بأنها مجموعة من الممارسات الفنية، المعمارية، الجمالية والقانونية، لمصادرة احتكار الدولة لمفهوم "الجنائي" و"الدليل القانوني"، وتوسيع المجال القانوني ليتضمن أشكالاً أخرى من البراهين، خصوصاً أن الحروب المعاصرة تدور في المساحات المدنية، تستهدف العمران والأفراد، سواء كان الدمار عشوائياً بالصواريخ، أو جراحياً كضربات الدرون الموجهة.
أزمة الحكاية الوطنية
قبل الخوض في ممارسات منظمة العمارة الجنائية، لابد من الإشارة إلى أهمية الحكايات المضادة للحكاية الوطنية في زمن الحرب، ففي سوريا مثلاً يروّج النظام لما بعد الانتصار، وسرديات عن استمرار الحياة، ويفسر الدمار الحاصل قانونياً بوصفه "محاربة للأعداء"، أما من قتلوا تحت التعذيب فقد رحلوا "بسبب جلطة قلبية".
كل هذه الوثائق تعيد رسم "الحقيقة السياسية" وتحاول نفي الجرائم التي تمارسها المؤسسة العسكرية والجيوش المتورطة في سوريا، ما يعني بصورة أخرى هيمنة على الدليل المادي ومساحات الحصول عليه، حتى لو كانت "المعطيات" الصادرة لإدانة النظام شديدة الوضوح، كـ"صور قيصر" التي احتاجت بضعة سنوات من التحليل كي تستخدم كقرائن في المحاكم الدولية، مع ذلك بقيت تستخدم كأدوات لنشر الرعب والتخويف خصوصاً أنها "تنكر" من قبل النظام الرسمي الذي لا يجيب عن سؤال: جثث من هذه؟
العمارة الجنائية... لمقاومة احتكار الدولة لمفهوم "الجنائي" و"الدليل القانوني"، وتوسيع المجال القانوني ليتضمن أشكالاً أخرى من البراهين
طمس الحقائق يأخذ شكلاً آخر، كما حصل مع سجن تدمر في سوريا الذي اختفى دون أن نمتلك صورة واضحة عن شكله الداخلي، كذلك هناك أسلوب آخر وهو تحويل مساحة الصراع إلى عمل فني -أيديولوجي، كحالة الأنفاق في الغوطة أو استخدام الخراب كديكور للحكايات الرسمية الفنية.
حدود التأويل والإدانة
تعمل منظمة العمارة الجنائية على توسيع حدود الدليل القانوني، لتقديم ما تنتجه نهاية في المحاكم الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، أما "المعطيات" التي تتعامل معها فيتداخل فيها الشخصي والفني والرسمي. لكن قبل الخوض فيها، هناك تحدٍّ مرتبط بالدليل نفسه وكيفية توثيقه، مثلاً، صور الأقمار الاصطناعية تعمل بدقة 30 سم للبيكسل، أي حدود الجسد البشري، هذه الصور المجانية لا تصلح دوماً، كونها تخفي الملامح في بعض الأحيان و تضيع إثرها المعالم الواضحة، هي دليل نعم، لكن قيمتها المادية تتركها على الحافة، ولا تصلح في المحكمة في بعض الأحيان.
ذات الأمر في الصور المنشورة في الفضاء العام، كالفيديو الذي انتشر لبرميل يتم إسقاطه من طائرة فوق مكان ما في سوريا، المشكلة في هذا "الدليل" الواضح بالنسبة للعين التقليدية، أنه يفقد قانونيته كونه لا يصور لحظة الانفجار بسبب ارتجاج الكاميرا، واختفاء البرميل لأجزاء من الثانية قبل انفجاره، هذا التفصيل الذي يبدو هامشياً أبطل صلاحية الفيديو القانونية، بسبب أسلوب التقاط الدليل نفسه.
أزمة الشهادة الشخصية
رغم القيمة العاطفية التي تمتلكها شهادات الناجين ودورها في كتابة التاريخ البديل إلا أنها دوماً محط انتقاد المؤسسة القضائية، أولا بسبب الصدمة التي يعيشها الشاهد بسبب استعادة أحداث الماضي، وثانياً بسبب أثر المخيلة الذي يظهر في الذاكرة، خصوصاً أن "التذكر" يحمل خصائص فنية وسردية تهدد قيمة "الحقيقة" التي يحتويها، مع ذلك، تلعب الذاكرة دوراً في صناعة القرائن القانونية وإنتاج "وثائق" ترسم معالم العنف وأسلوب ممارسته، وهذا ما نراه في واحد من مشاريع "العمارة الجنائية" حيث أعيد بناء سجن صيدنايا بناء على شهادات ناجين منه وباستخدام الأصوات وأسلوب التحكم الصوتي بها، فالحراس هناك يستخدمون الصوت وأساليب التحكم به لنشر الرعب، فهم "حراس الصوت" كون المساجين ممنوعين من الكلام.
"حقيقة" الصور الرسمية
يرسخ غياب "الحقيقة" والجدل حولها سطوة النظام السياسي القائم، فعدم القدرة على إنتاج حكاية رسمية وتضارب الحكايات حول حدث واحد ينسف مفهوم الحقيقة نفسها، وهذا ما نراه في "هجمات الكيماوي" في سوريا، التي ما زالت هناك شكوك حول من قام بها، أو حقيقة قيامها، خصوصاً أن الأمر يتم تناوله من قبل الصحفيين والتقارير المؤدلجة، ويتم إعادة النظر في نتائج التقارير الرسمية والخبراء، لكن استطاعت العمارة الجنائية تقديم نموذج آخر، إخباري ونقدي في ذات الوقت، يستخدم الصور "الرسمية" التي تم إنتاجها من قبل البروباغندا ،للإشارة إلى بعض المغالطات في الحكاية الرسمية، وكيفية إنتاجها لـ"ضد الحقيقة".
التهديد الجمالي والفني
هناك تخوف من الجهود التي تقوم بها العمارة الجنائية في أنحاء العالم، كونها تستخدم جهود فنانين وناشطين وصحفيين وتقدم بعض النتائج بصورة "جمالية" و"فنية"، الكلمات التي تعني الخيال و"الكذب" من وجهة نظر القانون، وهنا تأتي الجهود من أجل توسيع مفهوم الدليل وكيفية إنتاجه، والحدود الفاصلة بين "الحقيقة الجنائية" و"الحقيقة الدعائية"، فعمليات تحميض الصور والترميم والبناء ثلاثي الأبعاد كلها تدخل ضمن الممارسة الفنية، وهنا يمكن أن نحيل إلى بعض أساليب جمع الشهادات والوثائق التي تفقد في بعض الأحيان قيمتها "الوثائقية" بسبب الإفراط في العمليات الفنية من أجل إنتاجها، أو أحياناً غواية السوق الفني والاصطفاف الأيديولوجي المرتبط به.
نحو تأريخ تشاركي
أطلقت منظمة العمارة الجنائية عام 2014 منصة PATTRN والتي يمكن للمستخدمين فيها تحميل الصور والبيانات والدلائل على ما يشهدونه من عنف سببه السلطة السياسية، المشروع مفتوح المصدر ومتاح للجميع للمشاركة في ضخ البيانات التي يتم لاحقاً التأكد من صحتها وعرضها، وهناك ثلاثة مشاريع يتم العمل عليها الآن و هي "منصة غزة" و"حدود أوروبا" و" العنف السياسي في أفريقيا".
تكمن أهمية هذه المنصة بأنها مساحة بديلة، يمكن عبرها لخبرات ومبادرات أن تعيد النظر في مساحات العنف والأزمات، وتقديم "تأريخ" قادر على أن يكون ذا قيمة قانونية، لرصد انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم بديل عن نظام إنتاج الحقيقة الأيديولوجي، الذي تمتلكه الدولة وتوظفه لمصلحتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع