شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
نحن خاسرون مثل كل مرة... بمرض أو من دونه

نحن خاسرون مثل كل مرة... بمرض أو من دونه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 23 مايو 202002:30 م

في البداية، كان الخوف على حياتنا هو ما يقلقنا جميعاً، فكنا ننصاع بطيب خاطر لما تفرضه علينا حكومتنا من قائمة إجراءات للسلامة العامة ومنع تفشي فيروس كورونا، كانت فترة ذهبية لعلاقتنا كشعب مع حكومته الخائفة عليه والعالمة بمصالحه وما عليه فعله.

أول مرة نخاف جميعاً، فقراء وأغنياء، بيض وسود، شعوب دول عالم ثالث وأول...إلخ، والعدو مجهول لا نعرفه، ويبدو أننا لن نتعرّف إليه إلا بعد انتهاء اللعبة، ما يعني أن من سيتعرّف إليه هم الناجون، وإذا كانت الثقة في البداية ممنوحة لمنظمة الصحة العالمية ثم الحكومات، فالأولى غيرّت أقوالها أكثر من مرة، كانت مثلاً تنفي ما صرحت به سابقاً عن طرق انتشار الفيروس، تبعاً لتجاربها الجديدة ومتابعتها له ولطريقة انتشاره.

الخوف الجماعي والجهل بماهية العدو هما الثنائية الطاغية على المشهد طيلة الفترة الماضية، خائفون ولا نعرف الطريقة الصحيحة لنحمي أجسامنا من الإصابة وبالتالي خطر الموت، كما أن حكومات العالم تولت فرض التعليمات الصحية على شعوبها، ما أدى إلى تغول جديد في السلطة، وهذا تهديد يوازي تهديد الفيروس لشعوب تطمح دائماً بهامش حرية ولو بسيط، حيث كانت أبرز تجليات السلطات هي فرض عقوبات على من يخالف التعليمات الصحية، من يخرق الحظر، يتواجد في تجمعات، يرفض ارتداء الكمامات الصحية أو لا يقوم بالتبليغ عن المشتبه بإصابتهم.

في الأردن، كان المزاج العام خائفاً مشتتاً عن التفكير بما هو قادم، فافتراض عودة الحياة لطبيعتها في وقت قصير كان أقرب للتوقع، وبالتالي لم تكن فكرة تغيّر العالم وتغيّرنا كأفراد مطروحة، أما الآن، وبعد فترة إغلاق قاربت الثلاثة أشهر، بدأ التفكير بما سيحدث غداً.

الحال الآن بات مختلفاً تماماً، أغلبنا لم يعد يقوم بالتعقيم الدائم بحاجة ومن دون حاجة، وعدنا لممارسة حياتنا الطبيعية، نغسّل أيدينا بشكل طبيعي عند العودة للبيت، وننظف الخضراوات والفواكه كما كنا في السابق، وإن ما يشغلنا الآن هو المحافظة على عملنا، والعودة بأسرع وقت لمكاتبنا وانشغالاتنا الطبيعية

كانت الإجراءات الحكومية صارمة منذ لحظة تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا، وفي غضون يومين أصبح الجميع يعمل من البيت، ومن ليس بمقدوره العمل من البيت لا يعمل، ومن متابعتي للجو العام ولسلوكي الشخصي، فقد وجدت تحولاً كبيراً بين تصرفاتنا أول الأمر وحالنا اليوم: في البداية كان التعقيم والتطهير فعلة تتكرّر عشرات المرات خلال اليوم، وكان الاقتراب من الآخر في ساعات السماح بالخروج لشراء الحاجيات مدعاة للرعب، وبالتالي زيادة التعقيم، إلا أن الحال الآن بات مختلفاً تماماً، أغلبنا لم يعد يقوم بالتعقيم الدائم بحاجة ومن دون حاجة، وعدنا لممارسة حياتنا الطبيعية، نغسّل أيدينا بشكل طبيعي عند العودة للبيت، وننظف الخضراوات والفواكه كما كنا في السابق، وإن ما يشغلنا الآن هو المحافظة على عملنا، والعودة بأسرع وقت لمكاتبنا وانشغالاتنا الطبيعية، كما أن نصف الراتب الذي نتقاضاه الآن، أنا ومن يعمل من البيت بدوام كامل، لا يكفي، فالتزاماتنا لم تصبح نصف ما كانت عليه.

الحكومة الأردنية تقدم موجزاً صحفياً بشكل يومي حول مستجدات الفيروس وقراراتها تجاه التعامل معه، وتتخبّط يومياً أمام الجميع، كما أنها تخطئ وتحمّل المواطن نتيجة خطئها.

كان التجول بالسيارات ممنوعاً، ثم سمحوا به حسب آخر رقم في لوحة السيارة (فردي أو زوجي)، والتنقل بين المحافظات ممنوعاً، ثم مسموحاً لمحافظات انصاعت للأوامر وأخرى انتشر فيها الفيروس، وانتهاء التجول كان عند السادسة مساء، ثم مددوه في اليومين الماضيين للحادية عشرة ليلاً، وكانت المفاجأة لحكومتنا، أن الشعب الذي مثّل دور الولد الملتزم بالتعليمات قد ملّ وخاف الفقر أكثر من الأول، وبدأ يشعر باستهبالها له، وبعدم اهتمامها بأعماله وخسائره التي تراكمت، والخسائر التي تنتظر نتيجة الإغلاق، وعدم قيامها بطرح حلول للشركات الصغيرة والمحلات المتضررة. خرجنا يوم أمس بأعداد مهولة إلى الشارع، بأسباب ومن دون أسباب، جلسنا سوياً، زرنا أصحابنا، اقتربنا من بعضنا والكثير منا صافح وقبّل، ضارباً بعرض الحائط كل المخاوف.

 في وطن ندفع فيه كل يوم مئات الأثمان لتحرير كرامتنا من أن تداس، ونعمل ليلاً نهاراً لتسديد قروض البنوك وشركات التمويل الصغيرة التي لم ترحمنا في هذا الظرف وغيره، لم يعد فيروس كورونا يخيف الناس، نحن خاسرون مثل كل مرة، بمرض أو من دونه، لكن طمعنا بحياة أقل قسوة هو الحقيقة الآن

أنا أقرب لتصديق أن ما يحدث عالمياً اليوم سيأخذنا لمكان آخر سياسياً واقتصادياً، وستبدو ملامح العالم الجديد قريباً، لكنني أحب أن أعترف قبل الآخر الناجي القوي، أننا إن عشنا في العالم القادم سنكون ضعفاء كعادتنا، وإن متنا فستذكرنا الأمهات والأصدقاء فقط، ما كنا يوماً سوى كبش فداء، بمصالحنا وبيوتنا وأطفالنا وأسرنا وصحتنا وكراماتنا وأحلامنا الصغيرة.

في الحي الذي أعيش فيه، بدأ الناس يتزاورون ويقتربون من بعضهم في الشارع والسوبر ماركت، بدأنا أنا وإخوتي نزور بيت العائلة بشكل يومي، فكل ما يحدث بحاجة لجلسة جماعية، للمشاركة في حديث جدّي عن القادم وللتعبير الحر عما تركته العزلة والمخاوف في أنفسنا من هواجس وكوابيس.

لا يمارس المواطن الأردني ترف الحديث في الشؤون السياسية العالمية، فالصين تصنّع لأولادنا الألعاب، وبالتالي نشتم سوء صنعها، وأمريكا لا زالت حلماً بعيداً وصعباً للهجرة، وخطط الاتحاد الأوروبي للنجاة من الكارثة الاقتصادية لن تفيدنا بشيء سوى زيادة الغمّ والحسرة، كما أن الحديث عن القوى السياسية العسكرية المهيمنة من قبل الكومبارس تدعو للسخرية، وبالكاد تصلح في فترات الرخاء، في وطن ندفع فيه كل يوم مئات الأثمان لتحرير كرامتنا من أن تداس، ونعمل ليلاً نهاراً لتسديد قروض البنوك وشركات التمويل الصغيرة التي لم ترحمنا في هذا الظرف وغيره، لم يعد فيروس كورونا يخيف الناس، نحن خاسرون مثل كل مرة، بمرض أو من دونه، لكن طمعنا بحياة أقل قسوة هو الحقيقة الآن، ورفض قرارات الحكومة وانتقادها والسخرية منها، هو طريقنا لنتحسس ما بقي من وعينا الذي راهن عليه الجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image