دخل العام 2020 وأنا في إجازة أمومة، كنت بين يوم وآخر أتصفح موقع العمل وأتابع بريدي الإلكتروني، مرت الشهور الثلاثة الأولى من السنة في معركة تعلّم الأمومة، والتجريب اليومي والدائم لأعتاد الحياة التي أصبحت فيها المسؤولة الأولى عن طفلة.
ليس غريباً على أم جديدة أن تستمع لنصائح أمها وأهلها، والأمهات اللاتي سبقنها في هذه التجربة حول كيفية الاعتناء بحديثي الولادة، وأهم الأخطاء التي يمكن أن أرتكبها وكيف علي تجنبها، علماً أنهن جميعاً لم يستجبن إلا لإحساسهن، وجرّبن كثيراً وبكين مرات عديدة من هول التجربة ولحظاتها المفاجأة.
العالم الخارجي بالنسبة للأم في مرّتها الأولى هو كل شيء خارج نطاقها هي وطفلها، وهو، لأسباب تتعلق بخوفها وقلقها واختلاف تركيبة جسدها وهرموناتها، تافه وفارغ: العالم مشغول بالحروب والقتل والمال والحقد ولا يشعر بها وهي تحاول فك شيفرة بكاء طفلها مثلاً، وليس بوسعها أن تخبر أحداً أنها تخاف النظر في عين ابنتها ليلاً، وأنها خسرت الخفة والسرعة في لحظة واحدة.
في منتصف شهر شباط/ فبراير، سمعت في نطاق جلسة عائلية عن فيروس كورونا، وكان الحديث عن تفشيه في الصين، أذكر جيداً أنني لم أعط الأمر أي اهتمام ولم أقرأ عن الفيروس، كانت جميع صفحات غوغل المفتوحة في هاتفي تختص بطريقة تخفيف مغص الرضيع وتعلّم "التدشئة".
في رحلة انتقال الفيروس من الصين إلى باقي العالم، كان مهمتي هي أن أجد طريقة أساعد بها طفلتي لينتظم نومها ويخفّ مغصها، بالتالي يصبح من السهل على أمي الاعتناء بها عندما أعود إلى عملي في منتصف شهر آذار/ مارس، هذه مهمّة شاقة على أي أم، وتختلط بالكثير من الأسئلة الوجودية عن سبب العمل أصلاً وجدواه، وماذا لو تركت العمل حتى تكبر طفلتي؟ وكيف سأقطع مرحلة الندم بعد مرور شهر كامل من دون راتب؟ وهكذا دواليك، أبحث وأقرأ وأسأل طبيب طفلتي عن صحة ما أقوم به، حتى بدأت أشعر أنني أسير بالاتجاه الصحيح نحو حياة مفهومة نوعاً ما مع طفلتي.
مثل جميع الأمهات ارتعبت من فكرة إصابتي أو إصابة ابنتي بهذا المرض، وأضفت لروتيني الدائم نشرة إخبارية تتحدث عن الأردن، العالم العربي، الحالات المصابة، طرق تجنب الإصابة وتحذيرات منظمة الصحة العالمية، وصرت من شدة الخوف، وبالإضافة لتعقيم البيت وتعقيم يدي، أعقم يد ابنتي بالهايجين
يتنقل شريكي أسبوعياً بين الأردن وفلسطين، ولم يعد بالنسبة لنا مشوار العبور للضفة الأخرى كابوساً، يكفي أنه صعب ومرهق نفسياً، لكن تشاركنا في الفترة الأولى للعناية بطفلتنا كان يسيطر على مزاجنا العام، حتى صار يحدثني زوجي عن عدد الإصابات بفيروس كورونا في العالم العربي وفلسطين خصوصاً، وبدأ ينبهني لخطورة الأمر وصعوبته، ومثل جميع الأمهات ارتعبت من فكرة إصابتي أو إصابة ابنتي بهذا المرض، وأضفت لروتيني الدائم نشرة إخبارية تتحدث عن الأردن، العالم العربي، الحالات المصابة، طرق تجنب الإصابة وتحذيرات منظمة الصحة العالمية، وصرت من شدة الخوف، وبالإضافة لتعقيم البيت وتعقيم يدي، أعقم يد ابنتي بالهايجين.
نجحت في صناعة روتين لطفلتي، أصبحت تنام ليلها الكامل وانتظم موعد قيلولتها في النهار، وأصبحت بنسبة عالية جداً أعرف الأسباب التي تجعلها تبكي وأعالجها بسرعة، وحان موعد العمل وفرض قانون الدفاع في الوقت نفسه: جميعنا في البيوت ويمنع على أي أحد الخروج أو التواجد ضمن مجموعة، في البداية فرحت كثيراً أنني لن أترك طفلتي، وأنني المستفيد الأول من الروتين الذي تعبت من أجل أن يتحقق، وأن تجربة العمل من البيت هي حلمي الدائم وها قد تحققت، إلا أن العالم في الخارج يرتعد من شدة الخوف، كما أن جميع السيناريوهات التي بدأت تراودني سيئة، وفيها شيء من السخرية من الطريقة التي يمكن أن نفنى بها.
مرات كثيرة أشعر أن القدر يسخر مني، كيف يهديني وقتاً أطول مع طفلتي ويحجرني في البيت وحيدة، لا أتمكن من الذهاب للحديقة لأنعم بشمس الربيع مثلاً، لأنني محجورة في البيت منذ اللحظة التي أنجبت بها، اشتقت للعالم الواسع والصاخب، كنت أبحث عن طريقة أُبسّط من خلالها تجربة الأمومة وأحتفل بنجاحي ضمن جلسة أصدقاء أو مع شريكي على الأقل، ما هذا القدر الصعب الذي يجعلني أحجر بمكان ويحجر زوجي بمكان آخر، نسبح في دوامة الخوف من أن يصلنا المرض أو أن تطول فترة الحجر أكثر.
محجورة في البيت منذ اللحظة التي أنجبت بها، اشتقت للعالم الواسع والصاخب، كنت أبحث عن طريقة أُبسّط من خلالها تجربة الأمومة وأحتفل بنجاحي ضمن جلسة أصدقاء أو مع شريكي على الأقل، ما هذا القدر الصعب الذي يجعلني أحجر بمكان ويحجر زوجي بمكان آخر؟ نسبح في دوامة الخوف من أن يصلنا المرض أو أن تطول فترة الحجر أكثر
علينا الاعتراف أن الهم الجمعي يفوق الفردي بمراحل، حتى لو كانت رغبتنا أن يشعر العالم أن همنا الفردي يؤلمنا ويؤرقنا أكثر بكثير من انقلاب العالم رأساً على عقب، الحقيقة الآن، أن نسبة كبيرة من البشر في البيت، وأن السلامة والصحة هما الحلم الذي ننام ونستيقظ برفقته، وأن الحروب هي السبب الدائم لتأجيل الأمنيات والأحلام، وهي التي سرقت الكثير من الجمال في هذا الكون.
إننا في حرب مرعبة، لكنني أحاول أن أقنع نفسي بفكرة أن هذه الحرب ستنتهي، وأننا سنعود لهمومنا الفردية، ويا حبذا لو كان الهم فقط: كيف سأبدل فوطة ابنتي ونحن في طريق السفر للضفة الأخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون