نهرول مسرعين لتأخري عن موعدي نصف الساعة الذي حجزته قبل ثلاثة أيّام في المستشفى الحكومي لأقوم بفحص طبي، بعد سؤال ثلاث ممرّضات نستدلّ على العيادة، أجلس على مقعد الانتظار مع عشرة مرضى تقريباً. بغضّ النظر عن انتظاري لساعتين، أسند رأسي وأغمض عينيّ محاولةً تخيّل رائحة الزهر أو القهوة أو أيّة رائحة تعطّل حاسّة الشم حيث كانت رائحة المستشفى تبعث على الغثيان، ولو كان من غير المعيب أن أغلق أنفي أو أعطّل هذه الحاسّة بكبسة زر لفعلت.
" لي شو عم تشتغلي؟"... "والله بـ اللي بيتيسّر" فجأة! فنجان القهوة تشوّش لأركّز على ثقة الصوت الذي سمعته، فتحت عينيّ فرأيت فتاة تقارب العشرين عاماً تحمل طفلة صغيرة، عرفت من خلال حديثها مع مريضة بجانبها أنّ الطفلة مصابة بنقص تروية، وهذه الفتاة التي أكبرها لديها إثنان آخران وتشتغل في أعمال حرّة حسب ما يتوافر لها بين تنظيف المنازل أو شطف الأدراج. حاولت ألّا أنظر إلى عينيها كي لا أحرجها، لكن يبدو أنا التي أحرِجَت! تتحدّث سمر بكلّ ثقة وتستمر بالحديث كامرأة في الثلاثين، تبدو سعيدة بأمومتها ومحبّة لما تيسّر لها من عمل. أرجع لقهوتي الساخنة في حديقة منزلي الخياليّ، لكنّ صوت سمر الذي لم ينقطع رسَم لي ابتسامة جارتي الثلاثينيّة في دمشق، فيتغيّر الديكور الخياليّ لأجد نفسي في مشهد عمره أربع سنين تشاركني فيه ريم قهوتي، وفي حديثها عن خالد الذي طلب يدها بعد علاقة دامت سنة، استطعت رؤية كل حواسها تشعّ بالسعادة. ريم.. جارتي التي كانت إنسانة بسيطة تعمل في وظيفة حكوميّة وتتابع كلّ علاقة سينمائيّة تصادفها.
هذا الفرح لم يستطع أن ينسيني قهر الأسبوع الذي تلاه، فخالد ترك عمله، ورقمه أصبح خارج الخدمة، ثمّ انقطعت أخباره. خالد سافر يبحث عن أم لأولاده تنسيه اعتراف ريم بأنّها لا تستطيع الإنجاب، فاستئصال رحمها لأسبابٍ مَرَضيّة منذ فترة بعيدة لن يسمح بوجود طفل تمنّت لو شاركته في غذائها. كانت تشعرنا بالشفقة حين نحاول مواساتها لكنّها تغلّبت علينا جميعاً، أو ربّما عليّ حين كانت تقنعني بفكرة ما: "ليكي هالعالم ما معن ياكلو وعم يجيبو بهالولاد".
تكثر المشاهد عن أحاديثٍ سمعتها أو رأيتها، أفتح عينيّ وأنظر لأمي ثمّ أستعيد قصة أخرى عن شابّين يتبادلان مصطلحات معرّبة كانت قد جذبت مسمعي في باص النقل الداخليّ: "برو هي مشكلتها مو مسؤوليتي"، ما زلت أذكر أسلوبه البارد فهذه المشكلة هي حمل صديقته منه وتبرؤه التام من المسؤوليّة، ما استفزّني في تلك اللحظة مجاهرته أمام الملأ ولامبالاته أمام مجتمع يحكم على فتيات مثلها بالعاهرات وعلى من لا ينجبن بالعاقرات!
"على المتزوّجين تقديم امتحان يخوّلهم تربية الأطفال ومن يفشل يجب أن يمنع من الإنجاب"، هذا ما كان يقوله جابر حسون في برنامج له على اليوتيوب، عندما كان يناقش مسؤوليّة الأهل تجاه أطفالهم والواجبات المتبادلة، ويبدو أنّه من التعقّل إعادة النظر في هذا الرأي الذي ينظّم الأسرة بشكلٍ منطقيّ ويسمح للأطفال بعيش حياة إنسانيّة على أقلّ تقدير، فالأمثلة التي نراها في الشوارع والأرياف الفقيرة التي تعدّ لقمة العيش من أولوياتها بحاجة كبيرة لمثل هذه التوعية تفادياً للإنجاب غير المنظّم.
ترى لينا علاقتها بالمجتمع غير مهمّة، فسكنها مع صديقها هو قرارٌ يخصّها، وما يشغل تفكيرها حالياً هو "جود".. طفلها، وتضيف: "لا أعتبر جود غلطة كما تسميّه الغالبية هنا، طفلي هو تحصيل الحب الذي عشته مع نضال، سنتزوّج قريباً، وهذا الطفل سيعيش الحياة التي تمنيتها لي، وإن لم يتقبّله أحد الآن فسيتقبلونه غداً، وقرارنا بإنجابه لم يكن متهوّراً، إذ لدينا عملنا الذي نستطيع منه تأمين اللازم له ولنا".
خالد سافر يبحث عن أم لأولاده تنسيه اعتراف ريم بأنّها لا تستطيع الإنجاب، فاستئصال رحمها لأسبابٍ مَرَضيّة منذ فترة بعيدة لن يسمح بوجود طفل تمنّت لو شاركته في غذائها.
"برو هي مشكلتها مو مسؤوليتي"، ما زلت أذكر أسلوبه البارد فهذه "المشكلة" هي حمل صديقته منه وتبرؤه التام من المسؤوليّة، ما استفزّني في تلك اللحظة مجاهرته أمام الملأ ولامبالاته أمام مجتمع يحكم على فتيات مثلها بالعاهرات!
في مجتمع يساهم في ترسيخ فكرة الأم كآلة للإنجاب، ليس من الغريب أنّ مصطلحاتٍ كالعانس والعاقر والعاهرة يتربّى عليها ويورّثها للأجيال المتتالية في ظل غياب الرقيب التربوي والثقافيّ.
يعدّ عيد الأم عطلة رسميّة في سوريا حيث يبحث أطفال كثر عن معناه، وتتجاهل بعض النساء هذا اليوم، في مجتمعٍ يعيش الحرب يتناقص الشباب وتتناقص الزيجات، ويقتصر على البعض كعطلة للراحة.
في مجتمع لا يحمل الوعي الكافي بقوانينه وعاداته،والذي يساهم في ترسيخ فكرة الأم كآلة للإنجاب – وبكثرة في ظلّ الحرب- ليس من الغريب أنّ مصطلحاتٍ كالعانس والعاقر والعاهرة يتربّى عليها ويورّثها للأجيال المتتالية في ظل غياب الرقيب التربوي والثقافيّ في المؤسسات التعليميّة.
ماذا عن امتحان التربية والمسؤوليّة الإنجابيّة؟ كيف سنستطيع ألّا نخجل أمام أمهاتنا عندما نقدّم لهنّ الورود ليومٍ واحد، ونحمّلهن مسؤولية إنجابنا في يومٍ آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين