قبل 10 سنوات، دخل أبي غرفة العمليّات لإجراء عملية استئصال ورمٍ سرطانيّ، عمليّة كانت من المفترض أن تستغرق على الأقل 11 ساعة. ولأن الأطباء اكتشفوا خلال الساعة الأولى بأن العمليّة مستحيلة، لأنها ستُشكل خطرًا على أبي، فقرروا إيقافها وتوجيهه لعلاج كيماويّ حتى يصغر الورم ومن ثم يتم استئصاله.
كنت عندها في الرابعة والعشرين من عمري، أجهز نفسي للسفر بمنحة صحافة إلى ألمانيا. بعدما علمنا بأن العمليّة توقفت، كنت أصرخ بوجه أمّي: ”ليش جبتونا على هاد العالم؟“، كأني كنت أعرف بأني لن أعيش عشرينياتي كما يجب بعد. شعورٌ أناني تبدد بعد وقت قصير، عندما عرفت - ولم يكن متأخرًا كثيرًا - بأن أجمل ما فعلته بحياتي، حتى الآن، هو التواجد بالقرب من والدي في سنوات حياته الأخيرة.
في أيّار/ مايو 2014، عندما كان والدي على فراش الموت، محاطًا ببناته وأبنائه وأمّي، وبحبّ العائلة والأصدقاء وحتّى الغرباء، لربما أدركت الإجابة على سؤالي الساذج آنذاك: ”ليش بتجبونا على هاد العالم؟“، وهي: ”كي لا نموت وحدنا“.
يشغلني سؤال الإنجاب كثيرًا هذه الأيام، وأنا أقترب إلى منتصف الثلاثينات. يشغلني كأسئلة وجوديّة عديدة، وأكثر لأنه سؤال بيولوجيّ أيضًا متعلّق بجسدي كامرأة، وبالسّاعة التي تدّق وتسمح أو لا تسمح لجسدي بالإنجاب وفقًا للعمر البيولوجيّ.
منذ انتقالي إلى برلين، ألتقي بنساء كثيرات - غير عربيّات - قررن الإنجاب بلا زواج، وأن يكن أمهات وحيدات، كما يُطلق عليهن. نساء قررن أن يصبحن أمهات بلا شريك رجل أو زوج، وأنهن يستطعن القيام بذلك. منهن من حملن بأطفالهن باتفاق مع حبيب أو صديق أو ذهبن إلى ”بنك المنيّ“، وحملن من خلال عمليّة التلقيح الاصطناعيّ. منهن من لا يرغبن بالزواج ولا يؤمنَ بذلك، ومنهن أيضًا مثليّات جنسيًا اخترن أن يصبحن أمهات.
لم تكن إقامتي في برلين شباكًا على هذه المعرفة، إلّا أنها كانت شباكًا على لمس سهولة تنفيذ هذه القرارات هُنا اجتماعيًا، بلا أن يتم نبذهن من قبل عائلاتهن أو المجتمع على خيارٍ فرديّ طبيعيّ وإنسانيّ وبيولوجيّ ونفسيّ أيضًا، مربوط بحقهن لأن يكن أمهات.
هذا الواقع، أثار أسئلة كثيرة تعود لي ولنساء كثيرات جئن من مجتمعات قادرة على "منعنا" من أن نصبح أمهات لمجرد أن النساء لم يتزوجنَ، سواء ”هيك النصيب“ أو لم يرغبن بالزواج، كخيار ذاتيّ. جئن من مجتمعات أيضًا قادرة على منع النساء من حقهن بممارسة الجنس، كأول الأشياء الطبيعيّة في حيواتنا، لمجرد أنهن أيضًا لم يتزوجن، فالكثير من النساء تموت بلا أن تعرف ماهية ممارسة الجنس. هل نتحدث عن القسوة هُنا؟ نعم، هي كذلك. قسوة نابعة من منظومات مجتمعيّة أبويّة سلطويّة، تمنح الحق للرجل بممارسة الجنس عندما يصبح في الثامنة عشر من عمره، وتصفق له لأنه أصبح رجلًا، حسب معاييرها، وبإمكان هذه المجتمعات أن تقتل امرأة لأنها مارست الجنس خارج إطار الزواج، فكم بالحري لو اختارت أن تصبح أمًا خارج هذا الإطار أيضًا؟
جئن من مجتمعات أيضًا قادرة على منع النساء من حقهن بممارسة الجنس، كأول الأشياء الطبيعيّة في حيواتنا، لمجرد أنهن أيضًا لم يتزوجن، فالكثير من النساء تموت بلا أن تعرف ماهية ممارسة الجنس.
في حديث متواصل مع صديقات كثيرات عن هذه القضيّة، منهن من تحدث عنها بحسرة مرتبطة بالجيل البيولوجيّ الذي وصلنَ إليه ولا يستطعن الإنجاب بعد، ومنهن من تنصح بتجميد البويضات كآلية عصريّة تمنح الاحتمال للمرأة بالإنجاب حتى في سنّ متأخر نوعًا ما، ومنهن من اقترح خيار ”الكذب على المجتمع“: ”ياختي تزوجي، احبلي، وطلقي بعدين... شو رح يصير؟“.
بالطبع هذا خيار وارد، وتختاره نساء كثيرات ”للضحك على المجتمع“، مثلما يخترن القيام بعمليات ”تقطيب غشاء البكارة“ قبل زواجهن، وهو خيار شرعيّ قائم على الإدراك بأن مواجهة المجتمع/ات صعبة، وغالبًا شبه مستحيلة، وأنهن سيكن أمام خسائر عديدة هن بغنى عنها، وأن الهدف الأهم هو أن يقمن ويحقق ما يشأن، وليس ما يشاء أي أحد آخر.
كلنا نعرف، حتى اللواتي لم يصبحن أمهات بعد، أو لا يرغبن بذلك لأسباب عديدة، بأن تربيّة طفل/ة هي مهمّة صعبة جدًا حتى ضمن شكل عائلة "تقليديّ" مكوّنة من أمّ وأبّ، وهي مسؤوليّة مدى الحياة، أو لربما هذا ما علمنا إياه موروثنا الاجتماعيّ الذي جئنا منه وعلى قدر ما حاولنا التحرر من بعض أعبائه التي تسيطر على حيواتنا وقراراتنا وحتى أفكارنا، لكنه ما زال حاضرًا.
خلال الصيف الماضي، ذهبت للمشاركة في مهرجانيْن بالطبيعة، وهي مهرجانات موسيقيّة فنيّة تُقام على مدار فصل الصيف في أماكن عديدة في أوروبا، ومنها ألمانيا. بمخيلتي أن هذه الأماكن والأطر مخصصة فقط لجيل الشباب، من نساء ورجال، لكن، عند كل مشاركة بمهرجان صيفيّ، أتفاجأ من جديد بوجود عائلات مع أطفالهن هناك، يُخصص لهن أيضًا، من قبل المهرجانات، فضاءات خاصّة ومسليّة للأطفال للعب ومن أجل الالتقاء بأطفال آخرين، وبالتالي، لا يمنع المكان من الأمّ أو الأبّ، بمواصلة القيام بما يرغبن، حتى لو كان ذلك قضاء نهاية أسبوع إلى جانب البحيرة والرّقص على أنغام موسيقى التكنو.
لست بهدف المقارنة بين المجتمعات الغربيّة والشرقيّة، ولا أرى بأن الاختلافات هي ”أبيض وأسود“ (مع التحفظ على المصطلح)، هنالك نقاط التقاء عديدة، كما وأن العصر الذي نعيشه من انفتاح معلوماتيّ وسفر جسديّ و/أو فكريّ، بما يتحيه الإنترنت، يخلق عقليات وأنماط حياة متشابهة بين البشر، لو كانوا يعيشون على بُعد آلاف الكيلومترات عن بعضهم البعض، لكن بالطبع، هناك سياقات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، تسهّل على هذه العقول ممارسة ما ترغبه أكثر من أماكن أخرى.
بالعودة إلى الرغبة بالإنجاب عند النساء اللواتي لم يتزوجن أو لن يتزوجن، لأسباب عديدة ومتنوعة، وهو سؤال أيضًا نابع من عدم عدالة المجتمعات كما وعدم المساواة بين المرأة والرجل. نعرف، ولنا أصدقاء رجال عرب، يعيشون خارج بلادهم بالأساس، ولديهم أطفال خارج إطار الزواج. وبالمعموم، وبالطبع هنالك استثناءات، بإمكان المجتمع تقبّل ذلك، امتدادًا لما يتيحه للرجل ويمنعه عن المرأة.
يشغلني سؤال الإنجاب كثيرًا هذه الأيام، وأنا أقترب إلى منتصف الثلاثينات. يشغلني كأسئلة وجوديّة عديدة، وأكثر لأنه سؤال بيولوجيّ أيضًا متعلّق بجسدي كامرأة، وبالسّاعة التي تدّق وتسمح أو لا تسمح لجسدي بالإنجاب وفقًا للعمر البيولوجيّ.
بالطبع هذا خيار وارد، وتختاره نساء كثيرات ”للضحك على المجتمع“، مثلما يخترن القيام بعمليات ”تقطيب غشاء البكارة“ قبل زواجهن، وهو خيار شرعيّ قائم على الإدراك بأن مواجهة المجتمع/ات صعبة، وغالبًا شبه مستحيلة.
مستويات وتفاصيل غير عادلة كثيرة بإمكاننا التحدث عنها، لكن لربما جاء الوقت للحديث عنها بصوتٍ عالٍ عبر منصات عديدة، ليست بالضرورة أن تكون منصات إعلاميّة أو مؤسسات نسويّة أو حقوقيّة فقط، بإمكاننا أن نبدأ بالحديث مع محيطنا الأوّل والقريب، بأن نطرح أسئلة جوهريّة بأساسها فرديّة أيضًا، ومتعلّقة بقرارات الشخص، وفي هذه الحالة المرأة، لكن بالطبع، هنالك حاجة إنسانيّة وشخصيّة أن تحظى قرارات، مثل الإنجاب الفرديّ، بالدعم العائليّ الأوّل على الأقل، أو على الأقل بمساحة مريحة لطرح أسئلتها.
شخصيًا، هذا السؤال يشغلني كثيرًا، ولربما قبل عاميْن، لم تكن لدي الجرأة بأن أطرحه بصوتٍ عالٍ أو عبر منصة إعلاميّة، لكن عوامل عديدة، بما فيها السّفر والانتقال إلى مكان آخر وجديد، يعلّمني كل يوم كيف أروّض خوفي على الأقل بطرح الأسئلة التي تعنيني وتعني نساء كثيرات من حولي أو اللواتي لا أعرفهن ضمن سيرورة حياة سنعيشها مرة واحدة فقط.
لست هُنا بصدد أن أعطي حلولًا أو إجابات لسؤالي، غير الشخصيّ فقط، أو حتى الشخصيّ... لكن لربما أحتاج لطرح هذا السؤال من أكثر المناطق دفئًا؛ الطبيعة البشريّة. ولا أعلم فعلًا إن كنت أريد أطفالًا في هذا العالم الذي يزداد وحشة وقسوة كل يوم، خاصّة تجاه الأطفال والنساء... لكن لربما هو الخوف الذي يحرّك السؤال، الخوف من أن أصل إلى جيل ما، تكون رغبتي لأن أصبح أمًّا، قد جاءت متأخرة، أو الخوف من أن أعرف فعلًا الإجابة عن السؤال: ”ليش لازم نجيب أطفال على هاد العالم؟“، والخوف من أن تواصل المجتمعات من منع المرأة عن تحقيق ما تحتاجه طبيعة جسدها، إن شعرت بذلك، لمجرد إنها ”لم تتزوج“... ياه، ما أتفه وأقسى الفكرة، والحقيقة أيضًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...