"أنا أمّ لزوز (لاثنين) صغار. اليوم لا عندهم كوش (حفاضات) ولا حليب، راجلي كان يخدم في المرمى (يعمل في البناء) وبسبب الحجر صبح بطال، كارين (مستأجرين) وحايرين منين باش نجيبو حق الكراء (الإيجار) رانا تعبنا وصغارنا ضاعو والحكومة تقولو اقعد في الدار وحافظ على صحتك وصحة عايلتك".
"صغاري مالقيتش ما نوكلهم وليت نرحيلهم (نطحن لهم) في القمح ونطيبهولهم بالماء، راجلي مسكين ماعندوش حل أما خايفة صاحب الدار يطردنا ويرمينا في الشارع، وهذا أخطر من الكورونا بالنسبة لينا".
بهذه العبارات، بدأت مروى بلقاسم، من محافظة قفصة، الحديث عن مرارة معاناتها بعد أن فقد زوجها، عامل البناء، عمله بسبب الحجر العام الذي فرضته السلطات، فأصبحا عاجزين عن توفير قوت طفليهما، وعمر كبيرهما أقل من سنتين، وثمن إيجار المنزل الذي يهدد صاحبه بطردهم منه ورميهم في الشارع.
مروى (28 سنة) لم تكتفِ بسرد معاناتها لرصيف22 وإنما هددت بنبرة طغى عليها الكثير من الغضب والحزن بخرق زوجها للحجر وتعريض حياته لخطر الإصابة بـ"كوفيد-19" بحثاً عن قوت لطفليه.
ورغم أن الدولة خصصت 300 مليون دينار (حوالي 103 ملايين دولار) لمساعدة الفقراء المتضررين من الوضع الحالي، إلا أن عائلة مروى لم تحصل على هذه المساعدات، وهي مبلغ مالي يقدَّر بـ69 دولاراً.
زوج مروى، كغيره من العمال وأصحاب المهن الحرة الذين تضرروا من الحجر العام وصارت حياتهم بين مطرقة الكورونا وسندان الاحتياج. فأحمد حسين (30 سنة) توقف نشاط مشروعه الفلاحي الصغير بالكامل وأصبح عاجزاً عن بيع منتوجاته.
بوجه شاحب تبدو عليه علامات الخوف والحيرة، يقول ابن صفاقس لرصيف22: "استنفدت مدخراتي القليلة، ومنتوجاتي البسيطة لم أجد سبيلاً لبيعها بعد منع التنقل بين المدن وفرض الحجر. اليوم، أصبحت عاجزاً عن توفير حاجياتي ولا حل لدي غير كسر الحجر والمجازفة بحياتي من أجل عائلتي".
ويضيف أحمد، المسؤول عن رعاية عائلة مكوّنة من ستة أفراد: "لم أفهم لماذا تأمرنا الحكومة بالبقاء في المنزل ولا توفّر لنا أبسط الضروريات، فأغلب المواد الغذائية الأساسية مفقودة والأسعار مرتفعة جداً". ويتساءل غاضباً بلهجة تونسية: "أنا كيفاش باش نصرف على عايلتي وخدمتي حابسة (وعملي متوقف) ورمضان على الأبواب؟".
وفي آذار/ مارس الماضي، تعطلت حركة الإنتاج في تونس، وبدأ الأمر مع إغلاق مؤسسات الخدمات والمقاهي والمطاعم، وشملت الإجراءات لاحقاً مختلف القطاعات وأركان الحياة الاقتصادية، وصولاً إلى الهامشي منها من مهن حرة وحرف صغرى، ما يعني إحالة الآف العمال على البطالة القسرية وتدهور أوضاعهم المعيشية.
ومع عدم وضوح الرؤيا بخصوص تاريخ رفع الحظر العام وعودة الحياة إلى طبيعتها، يؤكد مراقبون للشأن التونسي وجود كلفة باهظة ستعمّق من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة في البلاد.
وأوضح الخبير الاقتصادي الصادق جبنون لرصيف22 أن أزمة الكورونا ستتسبب في فقدان الاقتصاد العالمي ما يقارب 3 نقاط نمو، وهذا سينعكس سلباً على الاقتصاد التونسي الذي يواجه أزمة غير معهودة منذ 1929.
انكماش اقتصادي
يؤكد جبنون أن الأزمة الحالية ستجعل الاقتصاد يسجل انكماشاً بنسبة 5%، إذ "سيتسبب كل شهر توقف عن الإنتاج بخسارة نقطتي نمو"، علماً أن الاقتصاد التونسي يعاني في الأساس من أزمة وكان متوقعاً أن يشهد نسبة نمو لا تزيد عن 0.5%، ونسبة البطالة أكثر من 15%.
ويضيف أن البلاد ستفقد في كل شهر من هذه الأزمة 1200 مليون دينار (380 مليون دولار)، ما سينعكس سلباً على المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تمثل 90% من نسيج المؤسسات في البلاد وباتت مهددة بالانقراض كلياً اليوم، بسبب الوباء.
ويعتبر أن الإجراءات الاستثنائية التي أقرّتها الحكومة لصالح المؤسسات الاقتصادية المتضررة من الحجر "محاولة للتحكم في الارتدادات السلبية للوباء"، إلا أن أغلبها "لم يُفعّل بالصفة المرجوة".
ويرجّح عدم قدرة الاقتصاد على الاستمرار في تحمّل هذه الإجراءات في حال تواصل الحجر العام أكثر من ثلاثة أشهر، خاصة أن الدولة لا تمتلك في خزينتها سوى 5.1 مليار دينار (1.76 مليار دولار)، أضيف إليها 289 مليون دولار من البنك الإسلامي للتنمية و750 مليون دولار من صندوق النقد الدولي على شكل قروض.
"في حال لم يوقَف المحتكرون والمتلاعبون بقوت التونسيين، ستشهد البلاد ‘بركاناً اجتماعياً’ يطالب بمقومات العيش الأساسية"... أزمة الكورونا في تونس خلقت أوضاعاً يشبهها البعض بتلك التي أدت إلى اقتلاع نظام زين العابدين بن علي
في هذا السياق، يشدد جبنون على ضرورة "تخفيض الضغط الضريبي على المؤسسات المشغلة والكبرى في القطاع الصناعي والخدماتي وإعفاء المؤسسات الصغرى والمتوسطة من المساهمات الاجتماعية والضرائب".
كما يدعو البنك المركزي إلى تخفيض سعر الفائدة بنقطتين أو ثلاثة، عوضاً عن نقطة واحدة، ودعم المؤسسات المختصة في صناعة المعدات الطبية "حتى تتمكن من إيجاد تمويلات لمواصلة نشاطها ولو بصفة محدودة" ودفع أجور العاملين في القطاع الصناعي عامةً، والمقدر عددهم بأكثر من 529 ألف عامل.
ويتوقع المراقبون للشأن الاقتصادي أن تسجل تونس خسائر اقتصادية تتراوح بين مليارين و6.6 مليارات دينار (0.66 إلى 2.2 مليار دولار)، وسيكون قطاع السياحة الأكثر تضرراً، وذلك بإحالة أكثر من 69 ألف عامل فيه على البطالة، إلى جانب قطاعي النقل والتجارة الخارجية.
وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، يُرجّح أن يرتفع العجز المالي من 2.8% إلى 4.3% في 2020 مع توقع زيادة الإنفاق والاقتراض جراء الأزمة.
ويلفت جبنون إلى أن 60% من الاقتصاد التونسي يعتمد على الخدمات كالسياحة والصناعة الموجهة للتصدير وهي الآن في حالة ركود ويجب تعويضها بقطاعات أخرى كالقطاع الفلاحي، باعتباره طوق نجاة الدولة الأول، حتى تكون قادرة على تأمين مصاريفها.
الرهان على الفلاحة والصناعة
وشدد جبنون على ضرورة الرهان على الفلاحة والصناعة والابتكار التونسي وتوفير التمويلات اللازمة لهذه القطاعات ولو بصفة إلزامية من البنوك.
وتقدر مساهمة القطاع الزراعي بـ8.5% من الإنتاج المحلي الخام، ويشغل 18% من اليد العاملة على المستوى الوطني، دون احتساب فرص العمل الموسمية، كما يوفر دخلاً دائماً لـ470 ألف فلاح، يعملون في أراضيهم الخاصة، وفق إحصائية لوكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية.
ووفقا لجبنون، يتم الرهان على القطاع الزراعي من خلال رفع قيمة التمويلات الموجهة له ومضاعفة عدد العاملين فيه من غير مالكي الأراضي (أكثر من 25 ألف عامل خلال 2018) في المدى القصير وليس البعيد، حتى يكون قادراً على تلبية حاجات البلاد من الغذاء، كالتركيز على زراعة الحبوب والخضروات.
يتوقع مراقبون غلاء المعيشة أكثر مما هي عليه، ما سيؤدي إلى تعميق أزمة الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة وتراجع قدراتهم الشرائية التي تقلصت أكثر من 40%، كما يُرجَّح ارتفاع نسبة البطالة إلى 20%... تونس تئنّ تحت ضغط أزمة الكورونا
ويؤكد على ضرورة التركيز على القطاع الصناعي المنتج والموجه للصادرات الاستراتيجية، وقطاعات الطاقة والتكنولوجيا والصحة، لافتاً إلى أن تونس في المجال الطبي لديها من الكفاءات البشرية والتقنيات ما يمكّنها عن طريق معهد الدراسات والأبحاث طبية، "باستور" Pasteur، من تصنيع اللقاحات والأدوية المتطورة بما فيها لقاح "الكورونا" بحال اكتشافه عالمياً.
تداعيات سلبية على السلم الاجتماعي
التداعيات السلبية للكورونا على الاقتصاد التونسي تؤثر سلباً على السلم الاجتماعي، إذ يتوقع أن تعمق الأزمة مأساة الفقراء وتتسبب في ارتفاع عددهم وسيكون أصحاب الدخل الضعيف والعاملون في المهن الحرة الأقرب إلى السقوط في دائرة الفقر.
ومع هذه التوقعات، تزداد المخاوف من تفاقم الأزمة والانزلاق نحو الأسوأ والدخول في حالة احتقان اجتماعي تقودها الفئات الاجتماعية المتضررة.
وسجلت تونس، خلال شهر آذار/ مارس، 223 تحركاً احتجاجياً، وشهدت منطقتا التضامن والمنيهلة التابعتان لمحافظة أريانة (شمال شرق) ومنطقتا دوار هيشر وواد الليل التابعتان لمحافظة منوبة (شمال) تحركات اجتماعية للعائلات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود، أغلقت خلالها طرقات وتجمع المحتجون أمام مقرات المحافظات للمطالبة بالتعجيل في صرف المساعدات الاجتماعية الظرفية التي أقرتها السلطات.
كما قام شاب من مدينة مكثر، في ولاية سليانة، بحرق نفسه بالبنزين، احتجاجاً على عدم حصوله على المساعدات المذكورة.
يرجّح الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي ارتفاع نسبة الفقر في تونس بعد تضرر العديد من الفئات الهشة مثل العاملين بأجر يومي والذين فقدوا دخلهم.
وتقدَّر نسبة الفقر في تونس حالياً بـ15.2%، ويبلغ عدد التونسيين القابعين تحت عتبة الفقر 1.7 مليون شخص، حسب إحصاءات المعهد التونسي للإحصاء.
ويبلغ عدد "العائلات المعوزة" (دخلها يكاد يكون منعدماً) 285 ألف عائلة، فيما يقدَّر عدد أصحاب الدخل المحدود، أي المتمتعين بالبطاقة الصفراء (بطاقة علاج حكومية منخفضة السعر) بـ622 ألف شخص، وفق ذات الإحصاء.
وكانت الحكومة قد خصصت 150 مليون دينار (52 مليون دولار) لفائدة الفئات الفقيرة ومحدودي الدخل و300 مليون دينار (104 مليون دولار) لفائدة العمّال المحالين على البطالة القسرية.
ورغم تثمينه للإجراءات الاستثنائية المذكورة، يؤكد البدوي لرصيف22 أنها تفتقر إلى استراتيجية تنفيذ واضحة وتعاني من عدم وجود آلية دقيقة لحصر العدد الأصلي للمواطنين العاملين بأجر يومي والمحالين على البطالة.
كما يشدد على أن الدولة، في حال استمر الوضع الوبائي، ستشهد احتقاناً اجتماعياً حاداً، خاصة في ظل النقص المسجل في عدد من المواد الغذائية، مثل مادة "السميد" (دقيق القمح الصلب)، ما خلق ردود فعل غاضبة ظهرت بشكل جلي على فيسبوك.
ويتوقع مراقبون غلاء المعيشة أكثر مما هي عليه الآن، ما سيؤدي إلى تعميق أزمة الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة وتراجع قدراتهم الشرائية التي تقلصت أكثر من 40%، كما يُرجَّح أن تتسبب الكورونا في ارتفاع نسبة البطالة إلى 20%.
انفجار اجتماعي مرتقب
ويؤكد باحثون في علم الاجتماع على ضرورة أن تكون الدولة على مستوى التحدي لمواجهة الجائحة وتوفير مقومات العيش الأساسية للتونسيين.
وفي حال لم تأخذ السلطات بزمام الأمور بشأن مَن أحيلوا على البطالة، يُتوقع حدوث حالات انفلات واحتجاجات اجتماعية مشابهة لتلك التي اقتلعت نظام زين العابدين بن علي سنة 2011.
ويقول الباحث في علم الاجتماع سامي نصر لرصيف22 إن التحدي الحقيقي للحكومة خلال الأيام القادمة ليس الكورونا وإنما التحكم في أسعار المواد الغذائية الضرورية ومحاربة المحتكرين، مبيناً أنه في حال لم يوقَف المحتكرون والمتلاعبون بقوت التونسيين، ستشهد البلاد "بركاناً اجتماعياً" يطالب بمقومات العيش الأساسية.
ويدعو نصر الدولة إلى إحكام إدارة الأزمة لضمان الخروج بأقل الأضرار من الأزمة الحالية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
ويشير إلى أن أزمة كورونا عمّقت بقية الأزمات الاجتماعية التي كان يعيشها التونسي كالبطالة وتدهور القدرة الشرائية والفقر وارتفاع نسب الجريمة والانتحار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...