منذ ظهور أولى حالات الإصابة بفيروس كورونا في المغرب، أعلنت السلطة سلسلة إجراءات احترازية مشددة، أكثرها صرامة إعلان "حالة الطوارئ الصحية"، في 20 آذار/ مارس، وحظر التجول داخل البلاد شهراً كاملاً.
ثمّن المواطنون القرارات التي اتخذتها الحكومة في مواجهة الجائحة، إذ كانت جريئة وصارمة منذ الساعات الأولى. ولكن الاطمئنان سرعان ما بدأ يتحوّل إلى يأس وقلق بين المغاربة، خاصة العاملين منهم في القطاعات غير المنظمة.
تدابير للحماية أم للتضييق؟
بعد خمسة أيام من إعلان "حالة الطوارئ الصحية" في البلاد، فجع المغاربة بانتحار لحّام في مدينة الجديدة، في 26 آذار/ مارس، بعدما أغلقت السلطات محله الذي يؤمّن لعائلته قوت يومها.
وفيما قالت السلطات المحلية إن المنطقة تعرف من حين إلى آخر حالات انتحار، مستبعِدة "فرضية ارتباط الواقعة بالوضع الاجتماعي للمعني بالأمر"، أجمع جيرانه على أن سبب انتحاره يعود إلى مشاكل مادية واجهته بعد إغلاق مورد رزقه، ما جعله يعاني الأمرّين، ويجوب الشارع طلباً للمساعدة قبل الإقدام على الانتحار.
"نثمّن إجراءات الحكومة لأنها تحمينا، ولكننا محرومون من قوتنا اليومي". بهذه العبارة عبّر هشام، وهو نادل في أحد مقاهي الدار البيضاء، أغلى المدن معيشة في المغرب، عن موقفه من تدابير الحد من انتشار الفيروس في المغرب، مشيراً إلى أنها تحدّ من قدرة المواطنين على توفير لقمة العيش، بسبب ضعف المقاربة التي تنهجها الحكومة.
من تدابير الحكومة إغلاق المدارس والجامعات والمقاهي والمطاعم، وعدد من المحلات، والأسواق، وتحديد أسعار المنتجات الأساسية، وإيقاف إصدار الصحف الورقية، فضلاً عن عزل البلاد عن الخارج، وإعلان حالة الطوارئ الصحية، وإحداث صندوق تبرعات لتدبير الأزمة.
وقال هشام لرصيف22 إن الخضوع للحجر الصحي سيف ذو حدين "يحمي البلاد من انتشار الوباء، ولكنه يضيّق على الأسر المغربية سبل تحصيل رزقها"، مضيفاً أن "عشاء ليلة المياوم وأسرته مرتبط بعمله كل يوم بيومه".
وذكر أن أسرته الصغيرة قضت أول أسابيع الحجر الصحي بالصبر، منفقةً بعض المال المدخر، لأن العامل في المقهى ليس أجيراً يتقاضى أجراً شهرياً من رب العمل، مستنكراً تأخر الدولة في الإعلان عن إجراء ينقذ آلاف الأسر التي تعاني من أزمة مالية تقض مضاجعها.
ومع استمرار حملات مناشدة المواطنين المكوثَ في منازلهم من أجل التضامن ضد "الجائحة"، زاد الضغط الحقوقي في اتجاه المطالبة بدعم الأسر التي توقفت عن العمل، ليتم صرف تعويض شهري للمأجورين لدى المؤسسات الحكومية والخاصة قدره 2000 درهم أي 200 دولار أمريكي.
أعقب ذلك إعلان الحكومة، في 27 آذار/ مارس، استفادة باقي الأسر المغربية من مساعدة مالية تتراوح ما بين 800 و1200 درهم (80 و120 دولاراً أمريكياً)، حسب عدد أفرادها، وقالت إنه سيتم الوصول إلى هؤلاء عن طريق بطاقة المساعدة الطبية (رميد)، فيما لم توضح كيفية الوصول إلى مَن لا يمتلكون البطاقة المذكورة، وهم القاعدة الأوسع داخل المجتمع.
ويخصص نظام للمساعدة الطبية، حسب وزارة الصحة المغربية، لفائدة الأشخاص الذين يحصلون على دخل سنوي يساوي أو يقل عن 3767 درهماً (394 دولاراً) للفرد، ولفائدة الذين يعيشون وضعية هشاشة، وهم مَن لديهم دخل سنوي يفوق 3767 درهماً ولا يتجاوز 5650 درهماً (592 دولاراً).
بالنسبة إلى هشام الذي يعيش مع زوجته وابنته، لم تكن المساعدة مقنعة، فنصيب أسرته منها لا يتعدى 100 دولار أمريكي. يقول لرصيف22: "الدعم الذي أعلنته الدولة أخيراً لن يكفيني لسداد رسوم إيجار شقتي، وفواتير الماء والكهرباء، فما بالك بمصروف ابنتي الرضيعة، والحاجيات اليومية؟".
ولفت إلى أنه لا يتوفر على بطاقة نظام المساعدة الطبية، التي من شأنها تسهيل عمليات تقديم المساعدات المالية له، وينتظر الإعلان عن كيفية وصول المساعدة إلى الأسر التي لا تمتلكها.
يُذكَر أن مدينة الدار البيضاء، حيث يعيش هشام، سجّلت أكبر حصيلة إصابات بفيروس كورونا داخل المغرب، إذ بلغ عدد الحالات فيها 160 حالة إصابة مؤكدة، حتى 30 آذار/ مارس، من أصل إجمالي نحو 534 حالة في جميع أنحاء المملكة. ورغم ذلك، فإن نسبة استجابة سكان المدينة للحجر الصحي تظل ضئيلة بسبب اضطرار المواطنين للخروج من أجل العمل.
فئات كثيرة تضررت
تشير عضو المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، خديجة الرياضي، إلى أن فئات اجتماعية كثيرة "تضررت جداً من الإجراءات المتخذة بشأن إغلاق محلات حُرِم أصحابها من مداخيلهم اليومية"، منهم الذين لا يعملون لدى مؤسسات ليستفيدوا من التعويض الشهري على قلته، وغير المنخرطين في نظام المساعدة الطبية، فضلاً عن الذين لا يتوفرون على سكن ويعيشون في الشارع، والمهاجرين غير النظاميين.
وعن الدعم الذي أعلنته الدولة، قالت مهندسة الإحصاء الرياضي لرصيف22: "عندما نقارن ما تم تقديمه من حلول من طرف الدولة، وما قدمته بعض الدول التي تُعتبَر من نفس مستوى المغرب أو ربما أقل من حيث الإمكانيات، يظهر أن ذلك قليل جداً"، لافتة إلى أنه "لن يمكّن المواطنين من مواجهة الصعوبات التي تنتج عمّا يعيشونه اليوم بسبب انعكاسات إجراءات الدولة في مواجهة الوباء".
بعد خمسة أيام من إعلان "حالة الطوارئ الصحية" في المغرب، فجع أبناء مدينة الجديدة بانتحار لحّام، بعدما أغلقت السلطات محله الذي يؤمّن لعائلته قوت يومها... معاناة مغربيين في ظل حالة الحجر
وأوضحت: "إذا أخذنا أفضل تعويض وهو 1200 درهم شهرياً (120 دولاراً أمريكياً)، المخصص للأسر المكونة من أربعة أشخاص، فهذا يعني 10 دراهم في اليوم لكل شخص"، وأضافت: "بالتأكيد دعم قليل. إنها إجراءات لا تراعي حقيقة الوضع الاجتماعي للمستهدفين منها".
تجاوزات أمنية تحت مبرر الحجر
من أحد أحياء العاصمة الرباط ظهرت قصة لحّام، لا تشبه قصة اللحّام الأول، ولا تشبه قصة النادل هشام. اختار هذا اللحام محاولة التكيف منتظراً مرور الأزمة، واختار المرونة في مواجهة هذه الأوضاع.
حوّل الرجل محله إلى محل لبيع الخضار والفواكه، بعدما أمرت السلطات بإغلاقه، قبل أن يفاجأ بعد يوم بكتيبة أمنية يتزعمها قائد المنطقة، تداهم المحل لتُصادِر جميع بضائعه، وتمسك بطفله الذي حاول مقاومة الاقتحام الأمني العنيف بدلاً عن أبيه المريض، وفق فيديو تداوله رواد مواقع التواصل الإجتماعي على نطاق واسع.
هذه الحالة ليست معزولة في المغرب، إذ تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة ممارسة العنف من قبل الشرطة والقوات العمومية، في حق مواطنين اضطروا للخروج من المنازل في فترة "حالة الطوارئ الصحية".
وانتشرت مقاطع فيديو عدة، منها التي وثقت خفية ضرب نساء ورجال في الشوارع من قبل القوات العمومية، وإرغامهم على العودة إلى منازلهم بالقوة، ومنها ما صوّره صحافيون يرافقون السلطات خلال دورياتها، وعكست جميعها عنفاً وتشهيراً، صاحَبهما عدم احترام شروط السلامة الصحية، ما يعرّض المواطنين لخطر انتقال العدوى.
لم يتمكّن رصيف22 من التواصل مع حالات مواطنين تعرضوا للعنف من قبل السلطة تحت مبرّر عدم احترام الحجر الصحي، بسبب الظروف الحالية التي يعيشها المغرب.
تقول الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، خديجة الرياضي، لرصيف22: "يصعب على الضحايا التواصل معنا ووضع شكاويهم كالعادة، لأن مقراتنا لا تشتغل الآن بسبب الحجر". لهذا، تضيف المتحدثة، "فالحالات التي توجد لا تعكس الحجم الحقيقي لخروقات رجال السلطة، من ضرب وسب وشتم وإهانات".
وتعتبر الرياضي التدخل العنيف ضد المواطنين "ممارسات منتهِكة للقانون الذي وضعته السلطة نفسها ويحدد نوع العقوبات دون أن يتضمن الممارسات العنيفة التي لجأ إليها بعض أفراد القوات العمومية"، مستنكرة تبريرها بحجة فرض الحجر الصحي، أو بأي حجة أخرى.
وحسب المادة 22 من نص الدستور المغربي فإنه "لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة"، كما لا يجوز لأحد "أن يعامِل الغير، تحت أي ذريعة معاملة قاسية أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية".
انتشرت مقاطع فيديو في الآونة الأخيرة توثق ضرب مواطنين مغربيين في الشوارع والتشهير بهم من قبل القوات الأمنية، تحت مبرر عدم احترام "الحجر الصحي" ومواجهة فيروس كورونا
وتشدد المادة ذاتها على أن "ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقِب عليها القانون".
وترى الحقوقية التي دخلت اللائحة الذهبية للأمم المتحدة للمدافعين على حقوق الإنسان عام 2013، أنه إذا كانت القوانين الاستثنائية في حد ذاتها تتضمن تعطيلاً للعديد من الحريات في هذا الظرف، "فلا يحق للسلطة تعميق الوضع بتطبيق تلك القوانين بشكل تعسفي، بل العكس هو المطلوب: الاحترام التام لكرامة المواطن لدعمه في مواجهة الوباء، وتشجيع مشاركته في إنجاح الخطط المسطرة لهذا الغرض".
خلل وارتباك في مواجهة الوباء
تتعدد مظاهر الخلل ضمن التدابير الاحترازية الصارمة التي أعلنتها الحكومة للحد من انتشار فيروس كورونا، فإضافة إلى الانتهاكات الحقوقية التي تطال المواطنين المغاربة في فترة الحجر الصحي، وعدم نجاح الحكومة في وضع مقاربة شاملة يغلب عليها الطابع الاجتماعي لضمان راحتهم داخل المنازل، ظهرت عدة اختلالات على مستوى قطاعيْ التعليم والصحة.
تُرجِع الناشطة الحقوقية خديجة الرياضي أسباب الارتباك الذي "تتخبط" فيه دول اضطرت إلى إعلان حظر التجول إلى "اهتراء البنى التحتية الصحية، والإجهاز على الصحة العمومية خاصة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين سادت السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي وضعت الربح فوق كل اعتبار ورمت بالإنسان إلى التهلكة".
وأشارت إلى أن المغرب كان من بين التلاميذ النجباء للمؤسسات المالية الدولية التي دفعت الحكومات إلى تبني تلك السياسات، مضيفة أن هذا حال جميع الدول التي اختارت بيع مواطنيها لشركات عابرة للقارات، يستفيد أصحابها من الجنات الضريبية، ويفلتون من عقاب ناهبي المال العام.
وذكرت عدداً من الاختلالات التي صاحبت إجراءات الحكومة المغربية في مواجهة الفيروس، أبرزها التمييز بين المواطنين في مواصلة التعليم عن بعد، والذي سيعمّق الفروقات الاجتماعية بعد إغلاق المدارس، من خلال إقصاء عدد كبير من الأطفال المنتمين إلى الفئات الشعبية والمناطق القروية والجبلية.
يعود بعض ما نعانيه في مواجهة كورونا إلى "اهتراء البنى التحتية الصحية، والإجهاز على الصحة العمومية، خاصة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين سادت السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي وضعت الربح فوق كل اعتبار ورمت بالإنسان إلى التهلكة"
وذكرت من بين المشاكل أيضاً "وضعية المستشفيات المتردية، وضعف التجهيزات فيها، ما يهدّد صحة وحياة المرضى والأطقم الطبية"، بالإضافة إلى "انتهاك أعوان السلطة لشروط السلامة بتنظيم تجمعات كبيرة عند توزيع رخص الخروج من المنزل".
هذا إلى جانب "ضعف مراقبة الأسعار، وعدم توفير ما يكفي من لوازم الوقاية في الصيدليات"، فضلاً عن "اكتظاظ السجون الذي يعتبر عاملاً مهدداً لحياة آلاف السجناء، وعدم العمل على حلّ مشاكل المغاربة العالقين في بعض الدول الأجنبية، والمدن الشمالية المحتلة (سبتة ومليلية) في ظروف لا إنسانية".
"لا يجب أن نغرق في الأوضاع الحالية التي فعلاً تعتبر صعبة وتتطلب منّا جميعاً التضامن والتضحية"، تقول خديجة الرياضي "بل علينا التذكير بمَن كانوا السبب لكي يحاسبوا بعد إنقاذ الشعوب من نتائج سياساتهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون