"رب ضارة نافعة". بهذا المثل الشعبي، بدأ الشاب رامي مقداد (40 عاماً) حديثه، وهو يعمل على تصنيع كمامات طبية في مشغل "حسنكو" الصغير في قطاع غزة، وبجانبه عشرات يمارسون نشاطهم كخلية نحل، وسط ضجيج آلات الحياكة، لتجهيز منتجاتهم تمهيداً لتصديرها إلى خارج مدينتهم المعزولة عن العالم.
عاد الشاب إلى امتهان الخياطة، بعد مرور سنين بطالة عجاف عليه، بسبب تراجع القدرة على تصريف المصنع لإنتاجيته، نتيجة لفرض مزيد من القيود الاقتصادية على القطاع المحاصر.
اليوم، تغيّرت الأحوال قليلاً، على خلفية أزمة انتشار الكورونا التي تجتاح العالم، فقد حوّلت بعض مصانع النسيج إنتاجها، وفق احتياجات الأسواق الخارجية، من قطع الملابس إلى الكمامات الطبية.
في بداية آذار/ مارس الماضي، عاد رامي إلى عمله السابق، مع اختلاف في نوعية المنتَج. يقول لرصيف22: "بالطبع، فرحتي بالعودة إلى العمل كانت كبيرة، ففي الفترة الماضية حاولت البحث عن عمل آخر، لكن ليس سهلاً إيجاد فرص عمل بديلة في غزة، فمَن يترك عمله يبقى دون مصدر رزق لفترة طويلة، وهذا ما سبّب لي أزمة حقيقية".
ويضيف لرصيف22: "في البداية كان الأمر صعباً إلى حد ما، لأننا لم نعتد من قبل على هذه النوعية من المنتجات، لكن سرعان ما أتقنّا العمل بعد تلقينا تدريبات على يدي مالك المصنع".
يعيل رامي تسعة أشخاص، ويتقاضى عن عمله لثماني ساعات يومياً 70 شيكلاً (حوالي 20 دولاراً). الآن، وجد فرصة لإعادة تأهيل منزله الذي يسكنه وتلبية حاجات أطفاله.
في الطابق السفلي من المصنع ذاته، والذي يشغّل أكثر من 70 شخصاً، ينهمك فضل محمد (39 عاماً) في فرز قطع الكمامات الطبية بعناية كبيرة بعد إنهاء حياكتها وفق الشروط المطلوبة.
يقول لرصيف22: "أعمل أكثر من ثماني ساعات يومياً. أحاول تعويض الساعات الطويلة التي قضيتها في المنزل سابقاً مكتوف اليديْن. هذه فرصة جيدة لي، فأمامي التزامات مالية كثيرة عليّ سدادها بدءاً من الديون المتراكمة على كاهلي، وصولاً إلى دفع أقساط إيجار المنزل، ومصاريف أطفالي الصغار. الأوضاع المعيشية في القطاع صعبة للغاية".
ويضيف بلهجة غزاوية: "مضطر إني أعمل زي المكوك ليل نهار، إذا ما شتغلتش أولادي ما بيلاقو الأكل والشرب وهذه فرصة أجت لعنا بدنا نستثمرها لنوفر مصدر دخلنا اليومي".
كورونا أحيا مصانع
في ظل أزمة تفشي الكورونا و"الحرب" بين الدول على امتلاك الكمامات، بدأت ثلاثة مصانع في غزة العمل على إنتاج كمامات طبية في آذار/ مارس الماضي، ما مثّل نقطة تحوّل في قطاع النسيج والحياكة.
وشهد هذا القطاع في العام الماضي تدهوراً كبيراً، وفق تصريح لعضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات محمد المنسي، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أكد فيه أن عدد المصانع التي أغلقت أبوابها عام 2019 بلغ 520، وأنه بعدما كان يعمل في قطاع صناعة الملابس والنسيج ما يزيد عن 35 ألف عامل، لم يبقَ منهم سوى بين ثلاثة وأربعة آلاف فقط.
يشرح حسن شحادة، مالك مصنع "حسنكو" لرصيف22 كيف أتته الفكرة. يقول: "راودتني الفكرة بالمصادفة، بعد حديث أجريته مع تاجر إسرائيلي كنت أورّد له بضاعة من الملابس سابقاً. أشار عليّ بتبديل المنتج بالكمامات الطبية، ومن ثم تصديرها له وهو بدورهم متعاقد مع تجار أوروبيين. ووافقت بعد أن أرسل إليّ نماذج للتصميم ومراحل التصنيع فقد وجدت أنه من السهل تنفيذها".
"راودتني الفكرة بالمصادفة، بعد حديث أجريته مع تاجر إسرائيلي كنت أورّد له الملابس سابقاً. أشار عليّ بتبديل المنتج بالكمامات الطبية، ووافقت بعد أن أرسل إليّ نماذج للتصميم"... مصانع نسيج في غزة تحوّل عملها إلى تصنيع الكمامات
كان ذلك في بداية آذار/ مارس الماضي. تشجّع شحادة وزاد عدد فريقه لتنفيذ المهمة الجديدة. "وبالفعل نجحوا"، يقول.
تلقى صاحب المصنع تدريبات تحت إشراف وزارة الصحة في قطاع غزة. ووفق مدير عام الصيدلة في وزارة الصحة منير البرش، جرى التواصل مع عدد من أصحاب المصانع الذين بدأوا ينتجون كمامات طبية، وقُدّمت لهم تدريبات تتضمن الإرشادات الرئيسية أثناء العمل، من كيفية ارتداء الكمامات الطبية والقفازات، إلى الشروط الواجب توافرها في المنتج وكيفية اختباره للتأكد من مطابقته للشروط الصحية.
يستخدم العمال آلات الحياكة التي كانت تُستخدم لصناعة الألبسة سابقاً. أما عن المواد الخام المستخدمة في صناعة الكمامات الطبية فقد جرى استيرادها عبر وسيط إسرائيلي أتى بها من أسواق أوروبية.
يشير شحادة إلى أن القدرة الإنتاجية لمصنعه تطورت بشكل سريع. ففي منتصف آذار/ مارس، كان يصل حجم الإنتاج اليومي إلى 500 كمامة طبية، ثم بدأ يزيد إلى أن وصل حالياً إلى 25 ألفاً يومياً.
من غزة إلى العالم
بعد مرور سنوات كان العمل خلالها متذبذباً، عادت الحياة مرة أخرى إلى مصنع "حَبُّوب"، أحد مصانع النسيج في غزة والذي قرر أصحابه العمل في صناعة الكمامات الطبية، بعد تواصل مع تاجر إسرائيلي، في بداية آذار/ مارس الماضي، والاتفاق معه على تصدير المنتج إليه.
أعيد كثيرون من عمال المصنع السابقين إلى عملهم، واليوم يبلغ عددهم نحو 200 شخص، يعملون بنشاط لتصل القدرة الإنتاجية للمصنع إلى 60 ألف كمامة يومياً، حسبما قال أحد مالكي المصنع، عزام حبوب.
خلال الأيام المقبلة، ينتظر حبوب المكنّى بـ"أبو عاشور" تصدير 250 ألف كمامة، عبر وسيط إسرائيلي سيرسلها إلى كولومبيا وبلجيكا وولاية كاليفورنيا الأمريكية. ويشير إلى أنه، منذ بداية عملهم، اتفق مع الوسيط على إنتاج خمسة ملايين كمامة طبية.
وشرح أبو عاشور أنهم يعتمدون على أقمشة الفازلين الطبية المعروفة عالمياً كمادة أساسية تدخل في صناعة الكمامات الطبية وأنه قام باستيرادها من شركات إسرائيلية كان من المفترض أن تصنّع الكمامات لكن عملها توقف.
تحسنّت الأمور في قطاع النسيج في غزة، على خلفية أزمة انتشار الكورونا، فقد غيّرت بعض مصانع النسيج طبيعة إنتاجها، وفق احتياجات الأسواق الخارجية، من الملابس إلى الكمامات الطبية
ويصدّر قطاع غزة إنتاجه عبر معبر كرم أبو سالم الخاضع لسيطرة القوات الإسرائيلية. ويتحدث أصحاب الشركات عن تخفيف العديد من القيود المفروضة على التصدير، كون السوق الإسرائيلي هو أحد الجهات المستفيدة من المنتجات الغزية.
تنشيط الحركة الاقتصادية
يؤكد مدير دائرة البحوث والتخطيط في وزارة الاقتصاد أسامة نوفل أن هنالك حركة واضحة في عجلة الاقتصاد في قطاع غزة، بعد التحوّل في نوعية الإنتاج داخل مصانع النسيج.
ويشير إلى وجود ثلاثة مصانع تصنّع الكمامات الطبية من أجل تصديرها، هي "حسنكو" و"حَبُّوب"، إضافة إلى "يونبيال". كما يتحدث عن وجود مصانع منزلية حوّلت عملها من صناعة الملابس إلى صناعة الكمامات، مقدّراً أن هذه الحركة قد تستمر لمدة ستة أشهر.
يقول نوفل لرصيف22 "إن التصدير والاستيراد فرصة جيدة لزيادة العملات الأجنبية التي تدخل إلى قطاع غزة ويحتاج إليها"، مضيفاً أن مصانع عدة تستفيد من عمل مصانع النسيج المستجدّ مثل مصانع التغليف، ومصانع المطاط، إضافة إلى شركات النقل والمواصلات، و"هذا بدوره يشغّل أيدي عاملة ويقلل، ولو بنسبة قليلة، من معدلات البطالة".
ويتعاقد أصحاب مصانع النسيج مع مصانع أخرى على شراء مواد تُستخدم في صناعة الكمامات، كالحبال المطاطية، ويكلّفون مصانع أخرى بتغليف منتجاتهم وتوضيبها في صناديق جاهزة للتوريد.
وعن دور وزارة الاقتصاد في دعم إنتاج الكمامات الطبية في القطاع المحاصر، يشير نوفل إلى تقديم تسهيلات على الجانب الفلسطيني من معبر كرم أبو سالم، والتنسيق مع وزارة الصحة لمراقبة كيفية سير العمل داخل المصانع، إذ تقوم فرقها التفتيشية بمتابعة مدى الالتزام بالإجراءات الوقائية أثناء العمل، إضافة إلى أخذ عيّنات من المنتج للتأكد من جودته.
وجد العاملون في مصانع النسيج في غزة في عودتهم إلى العمل مرة أخرى طوق نجاه يحميهم في الأشهر القادمة من الفقر. ويبقى السؤال: في حال انتهت حاجة الأسواق العالمية إلى منتجهم الجديد، هل سيضربهم فيروس العوز من جديد؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...