كانت جزءاً من النسيج المصري الذي غنى له سيد درويش بعناصره الثلاثة، مسلم، مسيحي ويهودي، في مطلع القرن العشرين. كانت جميلة في شبابها، وبعد أن اكتشفها محمود حجازي، شقيق الملحن سلامة حجازي، صارت أول ممثلة تقف على المسرح المصري.
وُلدت في القاهرة في 18 أيار/ مايو 1878، حيث كانت الفرق المسرحية تمنع اشتغال النساء بالتمثيل في مجتمع محافظ جداً آنذاك، إذ كانت تتم الاستعانة برجال ليؤدوا الأدوار النسائية، ولما وصلت عمر الـ26 كان المجتمع قد نضج معها قليلاً، كما نضج فيها جمالها الذي ألهب عاطفة الموظف الغلبان، نجيب الريحاني.
اسمها صالحة قاصين، حسناء يهودية مصرية. حاول الريحاني "كثيراً" أن يتزوجها، لكنها لم تلتفت إليه، فقد كانت نجمة مسرح كبيرة وهو لا يزال "على باب الله".
أورد "الريحاني" في مذكراته أن "صالحة" كانت حبه الأول، مكتفياً بالتلميح لها قائلاً: "مهجة القلب السيدة ص"، بحسب كتاب "اليهود والسينما في مصر والعالم العربي"، للكاتب أحمد بهجت.
هذا الحب بين "الريحاني" و"صالحة" ربما يكون من بين الشائعات الكثيرة التي انتشرت عن الفنانين اليهود في مصر، فكل شيء وارد. ذلك لأن تدقيق تاريخ الممثلين اليهود في مصر، كان ولا يزال مهمة شبه مستحيلة، بسبب ندرة المعلومات وانتشار الكثير المغلوط منها بين الناس، حتى في الوسط الفني، بعد انتشار المواقع الإلكترونية غير المهنية التي تروّج لأخطاء كارثية بلا تدقيق، ولندرك صعوبة المهمة علينا أن نعلم أن عدد الممثلين اليهود في مصر حتى عقد الأربعينيات من القرن الماضي يوازي، إن لم يتجاوز، عدد الممثلين الأقباط على مدى تاريخ الفن في مصر، والأكثر من هذا، فإن عدد الممثلين اليهود في بعض الفرق المسرحية كان يفوق مثيله من المسلمين، بحسب الناقد الفني أشرف غريب، ويرجع سبب انتشار اليهود في مجال التمثيل إلى عدم حماس المصريات، مسلمات وقبطيات، للظهور على خشبة المسرح، لأن سلوكيات المجتمع كانت صارمة آنذاك.
كلما ذُكر ممثل مهم من اليهود المصريين يثير ذكره ضرورة استمرار تقصي الحقائق عنهم، باعتبارهم جزءاً من الحركة الفنية في بلادنا، ويجب أن يوضع هذا الجزء في حجمه الطبيعي، دون إفراط في تقديره كما يفعل مناصرو إسرائيل، أو تبخيسه حقه كما اعتاد الباقون، ومنذ أن غيّبت السياسة الممثل اليهودي عن المشهد الفني في مصر، أصبح الغموض مسيطراً على أي حديث عنهم، وباتت المغالطات والأخطاء هي السائدة لدى معظم من تصدوا للكتابة عن تاريخهم. وربما كانت الأغراض السياسية لثورة يوليو في مصر، قد استهدفت إخفاء المراجع الدقيقة عن علاقة اليهود بالفن في مصر والعالم العربي، حتى أن نجمة مثل راقية إبراهيم، لا أحد يعرف عنها شيئاً حقيقياً متفقاً عليه، منذ مغادرتها مصر عام 1954.
هذا الحب بين "الريحاني" و"صالحة" ربما يكون من بين الشائعات الكثيرة التي انتشرت عن الفنانين اليهود في مصر، فكل شيء وارد. ذلك لأن تدقيق تاريخ الممثلين اليهود في مصر، كان ولا يزال مهمة شبه مستحيلة، بسبب ندرة المعلومات وانتشار الكثير المغلوط منها بين الناس، حتى في الوسط الفني
بيئة خصبة للشائعات
هذه الأجواء السياسية ربما روجت كثيراً من الشائعات عن يهود التمثيل المصري، فانتشرت مثلاً شائعة أن الممثلة والراقصة "كيتي"، التي اتُهمت بالتخابر لمصلحة إسرائيل، كانت يهودية، فيما يتضح لنا أنها كانت "مسيحية كاثوليكية"، هاجرت من مصر هجرة طبيعية بعد منتصف الستينيات، عائدة إلى بلادها اليونان، وبقيت بها حتى عام 2000، وفق ما يؤكد كتاب "الممثلون اليهود في مصر"، نقلاً عن الملحق الثقافي اليوناني السابق في القاهرة، وكذلك صديقتها الممثلة والراقصة الشهيرة نجوى فؤاد، كما يكشف الكتاب عن أنه من بين كل الممثلين اليهود الذين عرفتهم مصر لم يهاجر إلى إسرائيل بعد إنشائها سوى ثلاث ممثلات هن: سيرينا إبراهيم، أخت الممثلة نجمة إبراهيم، والمطربة والممثلة سعاد زكي، وأخيراً جراسيا قاصين، شقيقة "صالحة"، التي نعود إليها باعتبارها كانت مفتاح الكلام.
بين 100 جنيه ذهب وملاليم
كانت الأفلام المصرية في النصف الأول من القرن العشرين تحمل عناوين مثل "حسن ومرقص وكوهين"، أو "فاطمة وماريكا وراشيل"، حتى تم بتر العنصر اليهودي بفعل السياسة كما قلنا، وفي خضم الفوضى المعلوماتية لم نعرف عن "صالحة" إلا وجه السيدة العجوز، التي ظهرت في بعض الأفلام السينمائية بعد أن تقدم بها العمر، إذ كانت أول أعمالها السينمائية وهي في السابعة والخمسين.
كان أول أفلامها فيلم "الأبيض والأسود"، وقد عُرض عام 1935، بعدها قدمت عدداً من الأعمال بأدوار صغيرة وهامشية، أبرزها "طاهرة"، "بنات حواء" و"جعلوني مجرماً"، فيما كان آخر أعمالها فيلم "شهر عسل بصل"، الذي عُرض عام 1960، وكانت وقتها قد بلغت الثانية والثمانين.
ترددت أقاويل كثيرة حول حقيقة إسلامها. قيل إنها أشهرت إسلامها قبل وفاتها بأكثر من 30 عاماً، أي قبل قيام دولة إسرائيل، وقيل إنها احتفظت بديانتها اليهودية ولم تشهر إسلامها، لكن المؤكد أنها رفضت بشكل قاطع الهجرة لإسرائيل كما فعلت شقيقتها الكبرى، جراسيا.
ترددت أقاويل كثيرة حول حقيقة إسلامها. قيل إنها أشهرت إسلامها قبل وفاتها بأكثر من 30 عاماً، أي قبل قيام دولة إسرائيل، وقيل إنها احتفظت بديانتها اليهودية ولم تشهر إسلامها، لكن المؤكد أنها رفضت بشكل قاطع الهجرة لإسرائيل كما فعلت شقيقتها الكبرى، جراسيا
كبرت "صالحة" وراح جمالها يذوي مع التقدم في السن، حتى أنها صارت تلعب أدوار "الست القبيحة" في السينما، وتقدمت للعمل في فرقة الريحاني، لكن حينها كان الزمن قد تبدّل، فلا هي بقيت النجمة الشابة الحسناء ولا "نجيب" بقي الموظف الغلبان إيّاه، لكن يبدو أن "الريحاني" رد الجميل لغرامه الأول وقبلها في فرقته "كنوع من الشفقة".
لا أدلة على ذلك بالتأكيد، لكنه الاستنتاج، فلا يوجد ما يوثق هذه الفترة من تاريخ الفن المصري.
لم تقدم "صالحة" أدواراً مهمة في السينما، ولم تترك جُملاً تخلدها. كانت تصرف كل ما تكسبه فوراً ولم تدخر شيئاً للأيام. وربما لم يكن التفكير في المستقبل من ملامح تلك الأيام البعيدة، حتى بدأ دخلها من العمل في السينما بالانحسار إلى أن اختفى حين أصيبت بالزهايمر، بحسب الروايات المتداولة عنها.
كانت قد وصلت إلى حد نسيان أدوارها، ولم يعد عليها الطلب كما كان، وكانت نهايتها بأن أشفق عليها الجميع وأعطوها غرفة في حديقة منزل الفنان المسرحي الكبير عزيز عيد، وفجأة تحوّلت الحسناء التي دوّخت كثيرين وكانت تتقاضى أجرة 100 جنيه ذهب شهرياً، إلى عجوز لا تبرح غرفتها وتعيش على الملاليم كإعانة شهرية في صورة معاش، حتى فارقت الحياة في 9 نيسان/ إبريل 1964.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...