شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"لازم أحبل وما أنوح"... نحن لسنا برامج تسلية للرجال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 29 مارس 202011:46 ص

كبرتُ في أقصى الشمال الشرقي السوري، حيث يمرُّ الفرات خجولاً في المنطقة ويشقّ طريقه عميقاً في ذاكرة وذكريات أهلها، يترك من أثره رافداً صغيراً يدعى الخابور، ومثلما كان الخابور يجفّ أكثر مما يفيض، كانت قصصنا وخساراتنا تتلاشى وتختفي، بقيت حاضرة فقط في أذهان نساء الحارة، ممن كنَّ شاهدات على الفضيحة، على الخيبة، وعلى الأحزان، ولكل هذا وأكثر، أقمن ما يسمى "بالجمعية"، عوضاً عن المدرسة والمحكمة، وعن سجلات النفوس المدنية إذ أردت.

الجمعية، كما أسمتها جارتنا الحلبية، هي اجتماع لنساء الحارة وقريباتهن في يوم مخصص من كل أسبوع عند إحدى الجارات، بحيث يصادف الاجتماع يوم سفر زوج المضيفة، أو خلو البيت من أي عنصر ذكوري، حتى ابن الخامسة "لأنه حرام".

في دوامة الجمعيات وفساتين جلد النمر، يندر أن تسأل امرأة زوجها: هل نملك حق الحفاضات، وهل نملك حباً يكفي لطفل آخر؟

أذكر المرّة الأولى التي سُمح لي فيها بحضور الجمعية: كان صدري قد استدار مما يعني أنني اقتربت من العبور إلى ضفة النساء، وصار حرياً بي أن أتعلّم مبادئ الحصول على زواج سعيد، مديد ومستمر.

في العاشرة من عمري عرفت أنني حتى أحصل على زوج وفيّ، عليّ ربطه بولد، يومها سمعت الخالة أم محمد تقول لمها: "يازي تبچين، المرا اللي ما تريد تخسر جوزها تحبل ما تقعد تنوح".

كانت هذه أولى التعليمات التي تلقيتها عند عتبة المراهقة في الجمعية، فكبرت وأنا أردد: "لازم أحبل وما أنوح".

أذكر مها جيداً، كانت تكبرني بسبع سنوات، وكانت تبكي يومها فهي تزوجت منذ شهرين وهذه ثاني دورة شهرية تلاحظ نزولها، لا حمل هذا الشهر أيضاً، لا ربط لزوجها، شهر جديد من الخيانات الزوجية المُجبرة على تحملها.

ومها لم تكن فتاة واحدة، "فالجمعية" ليست حكراً على نساء الشمال السوري فحسب، إنما هي "الدوارة" في حمص و"الصبحية" كما يسمونها في دمشق، اختلاف تسميات فقط، لكنها بالنهاية منهج نسوي يعلّمكِ أن تكوني الزوجة "السكسي" خوفاً من الخيانة، وأماً بالضرورة خوفاً من الهجر.

بشكل ما كانت الجمعية مأتماً يبدأ بنواح إحدى الشابات التي اكتشفت خيانة زوجها، وينتهي بالرقص، فيتحول لحفلة استعراض فاحش للحم أنثوي يتعطش للبحلقة والغزل.

حفلة صاخبة لا تهدأ النسوة فيها إلّا حين تبدأ فقرة عرض الأزياء، وهذه الفقرة تُعتبر الأكثر مجوناً، وهي بمثابة درس ثقافي، حيث تقطع المتزوجات الخبيرات بفن الإغواء الصالة بكعوب عالية، يجرّبن الدانتيل، الشيفون، الساتان والحصة الكبرى بالطبع لجلد النمر.

في هذه الجلسة النسائية تتعلمين "كيف تكونين في بيتك نمرة، وفي الفراش لبوة".

بمعزل عن مناقشة وجهة نظر الفلسفة الإنجابية، نستطيع أن نكتشف الجانب المُظلم للأمومة، الجانب الذي لا تقول فيه امرأة لرجل: توقف عن الإيلاج قبل القذف، إلّا إذ كان عشيقها. والتجريف في جرمانا يحصل في غرف سرية شكلها أقرب إلى مسالخ من عيادات، ونسبة احتمال أن تخرج المرأة من العملية عقيمة أو جثة، أكبر من نسبة إجهاض الطفل

فالرجل يحقّ له أربع في الحلال، وفي الحرام يملك مالاً يدفعه لأي فتاة ليل ليمضي ليلة ماجنة... وإذ خطر لكِ يوماً أن تتمنعي، فيجلب لك الزوج العزيز الالتهابات في أفضل الأحوال، والزهري والإيدز في أتعسها، وهنا دعينا نفقد الأمل من حظوظك العالية عزيزتي، وهنا أيضاً دعينا نفقد الأمل من زواجك السعيد، ففي هذا المجتمع النسائي، حيث الزواج حتمي والأمومة قسرية، تكبر النساء وهنّ ينظرن إلى أنفسهن كحاضنات، مجرد أرحام تثخن جدرانها ليكف الزوج "الدنجوان" عن خياناته... وهنا لن نتطرق للخيانة التي تُعتبر جزءاً من الحياة الأسرية، والتعاطي معها كحالة طبيعية ينقطع عنها الرجل مع انقطاع دورتك الشهرية.

هنا سنقف فقط عند الأمومة، ففي هذا المجتمع البسيط وباختلاف طبقاته، حين تُسأل امرأة "تربية جمعيات": لماذا تريدين الإنجاب؟ لن نسمع سوى أجوبة جاهزة من نوع: "لأربط جوزي"، "ينفعوني بكبرتي"، "سنة الحياة" أو "يملوا علينا البيت"، وبكل هذه السذاجة يحتفلن بعيد الأمهات، واثقات بأنهن "مدرسة تعدُّ شعباً طيب الأعراق"، وما هم إلّا آلات إنتاجية للنوع البشري ومدرسة تربي الـanti feminism (مناهضة النسوية) بشكل من الأشكال.

وهنا بمعزل عن مناقشة نظريات علم النفس ووجهة نظر الفلسفة الإنجابية، نستطيع أن نكتشف الجانب المُظلم للأمومة والأمهات، الجانب الذي لا تقول فيه امرأة لرجل: توقف عن الإيلاج قبل القذف، إلّا إذ كان عشيقها، والتجريف في جرمانا يحصل في غرف سرية شكلها أقرب إلى مسالخ من عيادات، ونسبة احتمال أن تخرج المرأة من العملية عقيمة أو جثة، أكبر من نسبة إجهاض الطفل.

وسط وباء يهدد حياتنا جميعاً، نجد العيادات النسائية تضيق بالحوامل بعد أول شهر من الحجر الصحي، وكأن نقل جيناتنا مهمتنا الوحيدة كبشر، وكأن أمومتنا هي المغزى الوحيد لحياتنا، وهنا نعود لنظرتنا الوحيدة لأجسادنا المختصرة برحم ومبيضين وقنوات ناقلة

في دوامة الجمعيات وفساتين جلد النمر، يندر أن تسأل امرأة زوجها: هل نملك حق الحفاضات، وهل نملك حباً يكفي لطفل آخر؟

هل هذه البلاد تستحق طفلاً آخراً يدفع ثمن جنسيتها؟ وهل هذه الحياة جديرة بأن تُعاش؟!

وهذه المجتمعات أيضاً يصعب أن يؤثر فيها خطاب توعوي، فاليوم وأمام منشورات يكثفها ناشطون وآخرون لاإنجابيون، تتحدث عن لا مسؤولية الأهل الذين يفكرون بالإنجاب، وسط وباء يهدد حياتنا جميعاً، نجد العيادات النسائية تضيق بالحوامل بعد أول شهر من الحجر الصحي، وكأن نقل جيناتنا مهمتنا الوحيدة كبشر، وكأن أمومتنا هي المغزى الوحيد لحياتنا، وهنا نعود لنظرتنا الوحيدة لأجسادنا المختصرة برحم ومبيضين وقنوات ناقلة.

وهنا، وبالعودة قليلاً إلى جانب الأمومة المظلم، من تبلغ سقف الأمومة المثالية وفق شروط "نساء الجمعيات"، هي تلك التي تستغني عن عملها، تعليمها، صديقاتها وحياتها، ترفض تماماً أن تتقبل فكرة أن أولادها ليسوا الحبل الذي يُربط به الزوج، ولا الكرسي المتحرك الذي سيجلسن عليه عند العجز، ولا أحد البرامج المُسلية الذي يُعرض على التلفزيون في ليالي الخميس.

ربما هذا إفراط في القسوة في يوم الأمهات، لكن الأمومة بمفهومها الوحيد هي انبعاث لروحٍ في جسد، خلق كائن جديد تفرض عليكِ أمومتك أن يكون سعيداً، وبخير.

الأمومة حين تحملين على عاتقك حياة أحدهم، وتخافين عليه من عاطفتك، ومن الحياة قبل الموت.

لستُ سوداوية كفاية لأكون ضد الإنجاب، ولكنني واقعية للحد الذي يجعلني أحاول كل يوم أن أمحو "نساء الجمعيات" من ذاكرتي، فساتينهن التي تظهر من أجسادهن أكثر مما تخفي، قصصهن المتشابهة بمأساويتها.

وفي كل مرة أجلس مع أحد يعرف الخالة أم محمد أنكر معرفتي بها، أشتمها في سرّي، وأردد ولو بعد حين: "أبچي ولا أجيب ولد يبچي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image