شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كورونا... خطر داهم أم تحدٍّ للبشرية؟

كورونا... خطر داهم أم تحدٍّ للبشرية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 14 مارس 202005:06 م

شئنا أم أبينا، فإن الكوارث جزء لا يتجزأ من مسيرة العالم والبشرية، تلك هي طبيعتهما، ألم تكن بداية الكون في الاستعراض الضخم: "الانفجار الكبير"؟!

خليها بيناتنا، التواضع ليس من سماتنا الأبرز.

كم من الكوارث مرت على بشريتنا الصابرة الصامدة، أوبئة كالطاعون والملاريا حصدت أرواح آلاف مؤلفة من البشر، براكين أكلت الأخضر واليابس وخلفت وراءها تماثيل بشرية متفحمة.

طوفانات أغرقت مدناً برمّتها، ماحية حضاراتها، حروب سحقت الأبرياء وأسقطت إمبراطوريات ودولاً... لكن البشرية تنهض من آلامها، تكافح وتستمر. إنها آلام نضوج وبلوغ صعبة وموجعة، لكنها في نهاية المطاف، وبعد ضرس الحصرم، تؤدي إلى وضع أفضل. هذا ما كان دوماً: محطات ارتقاء، لكن ليس بدون دفع ثمن وبذل الكثير من الجهود.

إذا استثنينا الحروب، فالمختلف الآن أن كلها كانت بفعل الطبيعة، أما الكوارث المحدقة اليوم فإن أيادينا ملطخة بأسبابها نحن البشر.

وهكذا، كل أزمة تأتي تضع أمامنا تحديات، حين نتخطاها نكون قد ارتقينا. كل أزمة تأتي، تعلمنا أشياء كثيرة عن أنفسنا، عن الناس، عن عالمنا.

كورونا ليس أمراً مختلفاً، أنه يكشف أمامنا وجهاً آخر للعالم، وكيف يمكن أن يكون إذا قمنا بتغييرات بسيطة في عاداتنا، وخاصة الاجتماعية- الاستهلاكية. كورونا يعلّمنا أنه يمكن أن نعيش بشكل أقل إسرافاً، طيشاً واستهتاراً بعالمنا، طبيعته وموارده.

يمكننا أن نستمتع بالكثير مما تقدمه الطبيعة دون حرق العالم وتلويثه من أجل قميص جديد كل يوم، وأثاث يتغير كل فترة "قصيرة"، فأنا أستعمل طقم صالون أحبه كثيراً كان لعمتي، وصينية قهوة نحاسية استعملتها عائلة جد زوجي، وأضع سواراً كان لجدتي أيضاً، لكنني لست بريئة من جرم الاستهلاك، فقد وقعت مؤخراً "فريسة" ما يقارب الإدمان على موقع صيني يعرض البضائع المختلفة بأسعار زهيدة مغرية، جرّني رويداً رويداً إلى أن وقعت في حمى شراء بضائع لا أحتاجها حقاً، وأشعر أني انتصرت، فزت بالمنتج بسعر زهيد، بينما الحقيقة أني أنفقت مالاً أحتاجه على ما لا أحتاجه.

الصين مصنع العالم الكبير الذي ينتج النسبة الأكبر من بلاستيك العالم، الصين تغرق العالم بمنتوجاتها، وتخنق شعبها بالغازات المنطلقة من مصانعها، أما عن خنق الروح فلن أتكلم الآن.

الصين، الملكة البلاستيكية كانت أول المصابين، أول من زارته كورونا وتفشت وعاثت فيه كضيف دخيل، وقح وسمج، أو ربما كابن عاق تمرد على مختبراتها... يعتمد ذلك على مصدر الخبر!، تكتمت حكومة "إمبراطورية التنين" بادئ الأمر، لكنها ما لبثت أن وقفت كالليث أمام الوحش، وأثبتت قدراتها أثناء الأزمات.

يكشف كورونا وجهاً آخر للعالم، وكيف يمكن أن يكون إذا قمنا بتغييرات بسيطة في عاداتنا، وخاصة الاجتماعية- الاستهلاكية. كورونا يعلّمنا أنه يمكن أن نعيش بشكل أقل إسرافاً، طيشاً واستهتاراً بعالمنا، طبيعته وموارده

لست من المتحمسين للنظام الصيني عموماً، ولكن فيما يتعلق بإدارة الأزمات ومواجهتها فأرى أن الصين قد أظهرت قدرة عالية مميزة، وربما تكون أزمة كورونا قد أثبتت أفضلية نظام كالصين على أنظمة أخرى متنوعة، في مواجهة الأزمات وإدارتها... لينظر كل منا إلى ما يحدث حوله، ففي زمن الأزمات هنالك حاجة للانضباط، التقيد بالتعليمات، وبحاجة لكونداكتر قوي/ة يقود/ تقود "الأوركسترا الوطنية" بحكمة وثقة، فينصاع الجميع لهيبته/ا، وفي حال الصين، ليس أقل منها لسطوته/ا.

هذه الحالة تشبه الحالة التي يدخلها الجسم عند تعرضه لخطر جسيم، عندها تتجند كل أجهزته وتتيقظ منتظرة التعليمات من الجهاز المركزي، يدخل الجسم حالة طوارئ، تكون الهرمونات الصارمة مرسالها. حالة كهذه جيدة جداً، بل ممتازة في مدى قصير، لكنها غير ملائمة للمدى الطويل، فهي ترهق الجسم وتزهق الروح.

باعتقادي، ينطبق هذا أيضاً على الأنظمة التوتاليتارية، المنظمة منها والمحكمة السيطرة، هي "جيدة" لوقت الأزمات وتحسن باقي الأنظمة إن تعلمت منها كيف تدير وتتعامل مع الأزمة، لكنها تزهق روح الإنسان على المدى الطويل. لكن هنالك ضرورة أن تكون هي أيضاً راغبة بالتعلم من أنظمة أكثر تسامحاً مع البشر.

ولكن لنعد إلى الصين، لقد دخلت هذه الإمبراطورية التي يشكل سكانها خمس من يعيش على هذا الكوكب تقريباً، في حالة طوارئ، فأغلقت مصانع وأوقفت وتيرة الإنتاج المستعر... وماذا كانت النتيجة المفاجئة المتوقعة في آن؟ انقشاع غمامة قاتمة، وليس الحديث هنا مجازياً شعرياً بطبيعة الحال، إنما حقيقياً، زالت طبقات من الغازات السامة المتلبدة فوق الرؤوس الصغيرة المنضبطة للصينيين العذبين اللطفاء، كورونا سمحت لهم أن يتنفسوا الهواء الذي ننعته بالطلق النقي...

يا للمفارقة! كانوا بحاجة لكمامات ضد المخلوقات شبه الإلهية (كونها تسيطر دون أن ترى) حتى يتمكّنوا من التنفس بدون الكمامات الواقية من الغبار والتلوث!

أعد نفسي أن أقاوم كل الدعايات المتقافزة على شاشتي، وأن أرشّد عاداتي الاستهلاكية وأرجو أن تفعلوا مثلي، لعلنا نحاول فرملة عجلات هذه الآلة المتغوّلة التي تطحن موارد وجمال كوكبنا، ولتمر علينا هذه الفترة العصيبة بسرعة وبأقل الأثمان، لنتابع التعليمات ولنلتزم بها

تقول لي إدلكورت Li Edelkoort، وهي مديرة وكالة لتوقع ورصد التوجهات العتيدة في التصميم، في مدينة نيويورك، ومن أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم:

"إن الصور الأخيرة من الجو فوق الصين، أظهرت كيف أن شهرين بدون إنتاج مكثف، نقّت صفحة السماء، مما سمح للناس بالتنفس مرة أخرى"، مشيرة إلى حقيقة ان انبعاثات الكربون والتلوث من الصناعة الصينية قد انخفضت منذ انتشار الفيروس في البلاد.

"وهذا يعني أن الفيروس سيكشف كيف أن تباطؤ الإنتاج وتحديده يمكن أن ينتج بيئة أفضل، وذلك سيكون مرئياً بالتأكيد على نطاق واسع".

إذن، كورونا يوضّح لنا أنه يمكننا أن نخفف هذه الوتيرة الجنونية، يمكننا أن نحرق أقل، ننتج أقل، نتواضع ونحترم أكثر هذا الكوكب المسكين الذي ابتلي بنا.

ولكي أشعر بأنني أساهم بقدر ما في هذه المسيرة التي بدأت مقالتي عنها، أعد نفسي هنا على الملأ، أن أقاوم كل هذه الدعايات المتقافزة على شاشتي، وأن أرشّد عاداتي الاستهلاكية وأرجو أن تفعلوا مثلي، لعلنا نحاول فرملة عجلات هذه الآلة المتغوّلة التي تطحن موارد وجمال كوكبنا، ولتمر علينا هذه الفترة العصيبة بسرعة وبأقل الأثمان، لنتابع التعليمات ولنلتزم بها، لنأخذ الأمور بهدوء ونعطي الأمور حجمها.

ديروا بالكو ع حالكو

وكونوا بخير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image