يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
في الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط، يجذبكم سحر وجمال المدينة التي تنادي عشاقها من كلّ حدب وصوب. يلفحكم نسيمها وعبيرها وطقوس أهلها، فتقفون مشدوهاً أمام عبقرية آثارها وما رسمه التاريخ على جدرانها وبين شوارعها. وهنا أيضاً ستتوقفون أمام تلك الزاوية التي يقتصر حضورها على الصمّ والبكم، والتي تبقى حكايتها مثار أحاديث الإسكندرية.
أهلاً بكم في مقهى علي الهندي حيث لا صوت يعلو على صوت أنفاس الزبائن، وهي تستمتع بالأركيلة بينما تداعب الزهر على أمل أن يبتسم لها الحظّ، فيمنحها الفوز في لعبة دومينو أو "عشرة طاولة".
هنا يجتمع الشباب والعجائز، الرّجال والنساء، ويختلط الماضي بالحاضر في فلسفة خاصة. فرغم أن المكان له خلفية تاريخية كبيرة إلا أن سطوة الحاضر كانت أكثر حضوراً.
من منطقة المنشية تبدأ الحكاية، منذ نحو 50 عاماً أو يزيد، حين افتتح أحد الأطباء المختصين في علاج الصمّ والبكم عيادة خاصة في المكان، ليبدأ مرضاه وزبائنه بالتردد عليه. حينها كان المقهى يبدأ كنواة صغيرة لمشروع مكرّر تعتاده شوارع المدينة التي تعجّ بالمقاهي والكافتيريات كمشروع مضمون لا يخطأ الأرباح.
يروي لنا أحد أقدم الزبائن بمقهى عم سيد مختار (65 عاماً)، علي المعاش، بينما يترجم أحد المتخصصين في لغة الإشارة كلماته ليقول: "طبيب الصمّ والبكم كان وجه السعد على المقهى، وبمرور الوقت أصبح المقهى محظوظاً أكثر بافتتاح جمعية خاصة تعنى بشؤون الصمّ والبكم، الأمر الذي غير من ملامح المكان، فجعل منه مقهى أغلب روّاده من ذوي الاحتياجات الخاصة بعدما كان مكاناً يجتمع فيه الناس من كلّ الأطياف والألوان والاتجاهات. اليوم أصبح مملكتنا الخاصة، بيتنا الثاني الذي نعود إليه يومياً، لنلتقي الأحبة، نتذكر الماضي الجميل بكلّ تفاصيله؛ نلعب، نتشارك أحلامنا، وأفراحنا، وحتى أحزاننا.
الهدوء هو السمة الأبرز في مقهى علي الهندي؛ فهنا كلّ ما يدور من نقشات أو سجالات أو جدل أو ربما حتى خناقات تتمّ بمنتهى الهدوء ودون أن يشعر بها أحد
يغلق عم سيد الطاولةَ، ويواصل لرصيف22: "المقهى كان في السابق ملك لخواجة، يونانياً، اسمه خريستو، وفي فترة من الفترات قرّر أن يبيعه ويهاجر خارج مصر. ومن هنا تغير زبائن المقهى، بعدما كان مركزاً لليونانيين وبعض الجنسيات الأخرى، فأصبح مخصصاً للمصريين فقط، حتى تمّ افتتاح عيادة قريبة من هنا لدكتور شهير في علاج الصمم."
ويضيف: "كان الناس يأتون إليه من كلّ محافظات مصر بعدما سمعوا عنه وعن شطارته، ولأن العيادة كانت مزدحمة طول الوقت كان أغلب الزبائن يفضلون الانتظار على المقهى، وطبعاً القادمون من محافظة أخرى عادة ما يأتي معهم بعضٌ من أفراد أسرهم. وكان هؤلاء يجدون في المقهى ملاذاً حتى انقضاء فترة الانتظار وانتهاء الكشف الطبي، وبمرور الوقت تم تأسيس جمعية الصمّ والبكم، فزاد العدد أضعافاً، خصوصاً وأن مقر الجميعة لا يتسع للكثيرين."
الهدوء هو السمة الأبرز في مقهى علي الهندي؛ فهنا كلّ ما يدور من نقشات أو سجالات أو جدل أو ربما حتى خناقات تتمّ بمنتهى الهدوء ودون أن يشعر بها أحد.
يقول محمد السعيد (32 عاماً)، أحد عمال المقهى: "هنا تعملت لغة الإشارة وبجدارة في أيام معدودة. في البداية كنت أراقب الزبائن من بعيد، وبالتكرار بدأت أفهم الإشارات، حتى طلبت من أحدهم أن يعلمني لغة الإشارة والآن أتواصل معهم بشكل احترافي للغاية."
أما زميله بالمقهى حسن مختار (25 عاماً)، فقال: "تعلمت منهم ما أحتاجه في العمل فقط دون أي شيء آخر؛ يعني إذا أراد واحد منهم شاياً يشير إلى إشارة معينة، أو قهوة، أو سحلب، وهكذا. وحتى إذا لم أفهم ماذا يقولون في بعض الأحيان، فأنا أحمل في جيبي ورقة وقلماً وقتها أقدمها ليكتب ما يريده. المهمّ أن أقدم لهم ما طلبوه بسرعة حتى لا يشعر أيّ منهم بأنني لا أعيره اهتماماً، فهم حساسون للغاية وأمر كهذا قد يغضبهم."
سبق وجرّبنا مقاهي أخرى، ولكننا كنا نعاني من المعاملة السيئة على اعتبار أننا أشخاص (درجة تانية)، فينفذون طلبات الزبائن الآخرين أولاً، ويتركوننا دون مراعاة لمشاعرنا
وحول أشهر المشروبات التي تحظى برواج في المقهى واصل حسن لرصيف22 قائلاً: "الشاي والقهوة والحلبة واليانسون، وطبعاً الشيشة التى نقدمها على طريقتنا الخاصة وتجذب أغلب الروّاد. ومؤخراً أضفنا بعض المأكولات البسيطة بناء على طلب الزبائن. أما الألعاب التي يفضلها الزبائن فهي الطاولة والدومينو، والقليل منهم يلعبون الشطرنج، وهؤلاء معروفون هنا في القهوة بالاسم. وطبعاً لا أنسى المباريات المهمة، مثل لقاءات المنتخب الوطني ومباريات محمد صلاح مع ليفربول، حينها يكون الكلّ على قلب رجل واحد لتشجيع (الفراعنة) أو (أبو صلاح)."
يعود الحديث لمحمد السعيد الذي يقول لرصيف22: "منذ فترة بدأ ينضمّ للزبائن من الصمّ والبكم آخرون من ذوي الاحتياجات الخاصة، لأنهم هنا وكما يؤكدون لي دوماً يشعرون ببعضهم بعضاً، ولا يتعرضون لأي مضايقات كتلك التي يصادفونها في المقاهي الأخرى؛ خصوصاً وأن أصحاب تلك المقاهي يتعاملون معها بطريقة خاطئة، ويشعرونهم بأنهم مختلفون عنهم، (ناقصين إيد أو رجل، مع أن كلّنا واحد ومفيش فرق بينا، بالعكس هما ممكن يكونوا أحسن منا بكتير بس تقول في النظرة الضيقة)."
يقول حسين الشعراوي، عامل بأحد مصانع الورق، وأحد رواد المقهى: "هنا نشعر بالأمان. كنا فى البداية نأتي لحضور اجتماعات الجمعية، لكن بمرور الوقت أصبح وجودنا يومياً أمراً اعتيادياً. والجميل هنا أن العمال في المقهى يتعاملون معنا بمنتهى الودّ والحبّ، وأغلبهم تعلّم لغة الإشارة، وبصراحة نتمنى أن يتعلم الناس كلهم هذه اللغة حتى يصبح التواصل بيننا سهلاً؛ فنحن نعاني من التواصل مع الآخرين لأنهم لا يفهمون ماذا نقول، وربما هذا هو سبب تمسكّنا بهذا المقهى، حيث سبق وجرّبنا مقاهي أخرى، ولكننا كنا نعاني من المعاملة السيئة على اعتبار أننا أشخاص (درجة تانية)، فينفذون طلبات الزبائن الآخرين أولاً، ويتركوننا دون مراعاة لمشاعرنا. أذكر أن أحدهم ذات مرة نصح أحد الرواد بألا يجلس بجانبنا وقال له (أحسن تتعدى منهم)، وكأننا مصابون بمرض جلدي معدي مثلاً."
أما سامح مكي الطالب بثانوي المنازل فقد رأى في المقهى مكاناً مناسباً لاستذكار دروسه. وقال عن تلك التجربة: "في أيام الدراسة كنت أحضر هنا يوميا لأذاكر دروسي، وأبقى لنحو 3 أو 4 ساعات. هل ستصدقني إذا قلت لك إنني هنا لا أعرف المشاكل بعكس البيت الذي أعاني فيه من مشاكل ليل نهار تؤرقني، وتجعلني غير قادر على استذكار دروسي؟ هنا العمال متميزون وطيبون ولديهم طاقة كبيرة، حتى أنني أسأل المتعلمين منهم إذا تعثرت في شيء خاص بالدراسة."
تعلم الزبائن هنا معنى الترابط والتلاحم حتى أنهم صاروا عصبة تقف إلى جوار بعضها بعضاً في كافة المناسبات حتى المنضمّين حديثاً للمقهى لا يجدون أي مشقة في الانصهار داخل الكيان ليصير الكلّ واحداً."
يعلق عم سيد لرصيف22: "في حفلات الزفاف لابدّ وأن نتواجد إلى جانب بعضنا بعضاً، وفي المآتم أيضاً، أي مناسبة لابدّ وأن نحضر جميعاً، ونقدّم الدعم المادي اللازم لصاحب المناسبة. فنحن إخوة وشركاء في كل شيء. ولذلك تجد حلقاتنا في المقهى تتسع كلّ يوم لتستوعب الوافدين الجدد."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين