شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
محمد نجم… صنع مسرحاً للكسالى وجنى منه مجداً مالياً

محمد نجم… صنع مسرحاً للكسالى وجنى منه مجداً مالياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 18 يناير 202001:11 م

يقف محمد نجم في إحدى مسرحياته أمامه الممثل سيد زيان ليقول له: الفرحة نستني اسمك.. قوللي أول حرف من اسمك!

"ع"، ليرد "نجم": شوقي.. شوقي!

تسمع بعدها ضحكات وتصفيقات من جمهور أتى ليضحك... قرر مسبقاً وقبل أن يخرج من بيته أنه ذاهب ليضحك، ولا مجال للتراجع عن هذا القرار مهما كانت الخفة والاستخفاف، والظرف والاستظراف، بكل مشتقاتهما في انتظاره على مسرح "نجم".

والضحك في ذاته ليس عيباً، بل هدف نبيل نرجوه جميعاً، خاصة إذا ضاقت علينا الأوطان بما رحبت، لكن عن أي ضحك نبحث؟ لا نريد أن نأتي مثقلين بالهموم إلى المسرح لنخرج مثقلين بالتفاهة والسطحية واصطناع الضحك، إن أسوأ ما يفعله الإنسان بنفسه أن يمثل مشاعره ولا يعيشها حقاً... إن أسوأ ضحك ذلك الذي يحرّك عضلات الوجه ولا يحرك عضلة القلب وخلايا المخ.

يعدد عالم الجغرافيا المصري الفذ جمال حمدان أهم سمات شخصية المصريين في كتابه الفريد "شخصية مصر"، فيقول إنها "تعتمد على المرح والصفاء والخفة والغفلة، ويميل المصري إلى روح الفكاهة والسخرية والنكتة".

من الخفة والغفلة انطلق محمد نجم ليؤسس مسرحه وفرقته في سبعينيات القرن العشرين، ولذكر المرحلة التاريخية هنا علة، إنه عصر الانفتاح الساداتي، وقد اختار "نجم" جمهوره بعناية في هذه المرحلة، مستهدفاً تلك الأسر التي تريد أن تقضي سهراتها الصيفية في جو من النكات، وتلك الأسر التي أتت من بلدان عربية إلى مصر للاستماع إلى نكات مليئة بالإيحاءات، وللأطفال نصيب من الضحك الهزلي المعتمد على حركات الوجه والجسد وملابس المفارقات بين الرجال والنساء... عالم من البهرجة والتهريج لا يعرفه من جاء يرمي أمواله في قاهرة المعز.

مضحّكاتي الدقي

أمام عمارته التي أعاد بناءها في حي الدقي بالقاهرة، حيث موضع مسرحه القديم، كان يجلس محمد نجم يومياً أمام البوابة الحديدية ليتابع شؤون عمارته الجديدة، كنت أراه وأنا في طريقي لعملي كل يوم وقد كتب على بوابتها تنويهاً: "كل عروض بيع الشقق تتم من خلال المالك فقط"، مسجلاً تحت العبارة رقم هاتفه الشخصي ليرد على الزبائن التي تريد "مسطحاً تجارياً يصلح بنكاً أو مستشفى أو معرض سيارات أو مطعم... دور أرضي 250 متراً ودور ميزانين 270 متراً مجتمعين أو منفصلين... تسهيلات في السداد حتى عامين... السعر 22 ألفاً للدور الأرضي و 10 آلاف للدور الميزانين... العنوان 4 شارع إيران – الدقي- القاهرة".

لم تطل جلسة الرجل أمام عمارته التي بناها من عرق مسرحه، بعدها بأيام أصيب بجلطة في القلب وتدهورت حالته سريعاً وتوفي في 5 حزيران/ يونيو 2019.

إنه نموذج "التهريج" المصري، الذي ذاب في مسرح الفكاهة.

والضحك في ذاته ليس عيباً، بل هدف نبيل نرجوه جميعاً، خاصة إذا ضاقت علينا الأوطان بما رحبت، لكن عن أي ضحك نبحث؟ لا نريد أن نأتي مثقلين بالهموم إلى المسرح لنخرج مثقلين بالتفاهة والسطحية واصطناع الضحك

مليونيرات التهريج

لم يكن ممثلاً كبيراً بالطبع كنجيب الريحاني وفؤاد المهندس، ولا حتى مهرجاً كبيراً كسمير غانم، ولا مغازلاً بارعاً للسلطة كعادل إمام، بل عاش على النكتة و"القفشة" التي لا تستدعي أي جهد من العقل، مسرحه مسرح للكسل والكسالى، صنع من تقديم "الفرفشة" فيه مجداً مالياً.

إنه نموذج لرجل أراد ألا يكون شيئاً في عالم التمثيل فكان له ما أراد، وهو دائماً يذكرني بتجربة "مسرح مصر"، التي قادها الممثل الموهوب أشرف عبد الباقي، كنوع من إعادة إنتاج حداثية لمحمد نجم عبر مجموعة رائعة من مستنسخات مائعة، "إفيهاتجية" يحاولون صنع الضحك بالقوة، مستخدمين ما حبتهم به ظروف الزمن والفقر من ملامح باهتة، فالتجربتان، "نجم" و"مسرح مصر"، في ميزان الضحك "لهو"، وفي ميزان المسرح "صفر تفكير وإدارة"، وفي ميزان جمع الفلوس أرقام بالستة أصفار، لذا لا عجب أن نرى الممثل الشاب "علي ربيع" وزملاءه من مليونيرات التهريج الجدد، فجأة في زمن يموت فيه شعراء ومترجمون كبار، ولا يجدون جنيهاً يعالجهم من بؤس الأفكار التي لهثوا وراءها سنوات العمر كله، ليقدموا قيمة ما ونوراً يعيش من بعدهم للغير.

ليس العيب في محمد نجم وأشباهه من تجار روبابيكيا الضحك، فهم لم يفعلوا إلا ما فعله ساسة البلد من تجار الخردة وصائدي الرخيص، الذين عرفوا الطريق لإعادة تدوير نفايات الهزل وبيعها لجمهور مسكين لم يعد يأكل إلا من محلات "التيك أواي"، معتبراً إياها قمة الرفاهية 

تجار روبابيكيا الضحك

ليس العيب في محمد نجم وأشباهه من تجار روبابيكيا الضحك، فهم لم يفعلوا إلا ما فعله ساسة البلد من تجار الخردة وصائدي الرخيص، الذين عرفوا الطريق لإعادة تدوير نفايات الهزل وبيعها لجمهور مسكين لم يعد يأكل إلا من محلات "التيك أواي"، معتبراً إياها قمة الرفاهية ومواكبة عصر السعادة الأمريكي، فجمعوا من وراء ذلك ملياراتهم من أموال شعبنا الأثري، الذي أتت إليه الشعوب المجاورة للسياحة والفرجة عليه، وهو يتقافز أمامهم كنسناس جائع مثير للشفقة لا للابتسام، وللأسف لا يترك "نجم" لأبنائه بعد موته إلا إيراد العمارة التي بُنيت على أنقاض فن عظيم.

وليس أدل على موقف "نجم" ووعيه بالمسرح الكوميدي من جملة خرج بها عن النص المكتوب في إحدى مسرحياته، إن كان هناك نص أصلاً قد كُتب: "الله يرضى عليك يا عم! إحنا مالنا... دول ناس فاهمين شغلهم إنت هتعمل لي سياسي؟! دا منظر سياسي؟! إحنا بنضحك هنا وخلاص... دا كان يوم أسود يوم ما اشتغلت معاك يا أخي".

وقد تشجعت هنا ووضعت بين أيديكم مقطعاً لمشهد استعصى عليّ تصنيفه، يجمع بين "نجم" والممثلة المصرية سماح أنور، يسب كل منهما فيه الآخر، لنعرف أين يقف هؤلاء من الحياة ومن يعيشونها، ولعله مشهد شديد الخطورة على الوعي الجمعي، ويُنصح بألا يراه الجيل الجديد حفاظاً على قدراتهم العقلية، وأدعو كل من يفتح هذا الفيديو إلى التدريب على نسيانه فور انتهائه، لأنه للأسف لن يضحك ولن يفكر ولن يستمتع بأي شيء، بل ربما يتذكر المقطع وهو على مخدته ليلاً، فيبكي كمداً من أن من صنع هذا العرض السخيف حقق ثروات ضخمة وعاش "نجماً" في مصر المحروسة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image