في خناقةٍ بحثيّة، لم يكن لها أيّ لزوم، تطوّع الناقد شعبان يوسف، أحد شعراء السبعينيات في مصر، وما أدراك ما السبعينيات! ليواري سَوْأة الكوميديان المصري الأسطوري نجيب الريحاني، والتي خطّها هو بنفسه في مذكّراته المنشورة عام 1949، عام رحيله، متباهياً بنفسه معترفاً بخطاياها كما هي دون زينةٍ أو ادّعاء كمالٍ أو مثال، إذ قال الرجل، الذي افتقدناه منذ سبعين سنة بمرض التيفود، أي في الثامن من يونيو 1949، إنه كان بالبلدي "فلاتي" و"بتاع نسوان"، وهذا ما لم يُرض "يوسف"، الذي أصدر كتاباً يشكّك به في هذه المذكّرات، نافياً عن مؤسّس الضحك المصري أي "انحراف".
مَن كان منكم بلا خطيئة فليعش إذن شعبان يوسف ويطبع كتباً لا لزوم لها، لا تقدّم أو تؤخّر في حكمنا على الريحاني، الذي لا تزال إمكانياتنا في التلقّي أقل من إمكانياته الاعترافيّة والتمثيليّة.
"عثرتُ على وظيفة في شركة السكّر بنجع حمادي، فسارعتُ إلى تسلّم عملي هناك، مبتعداً عن العاصمة وما فيها من شقاء، تاركاً خلفي ذلك الوسط الخبيث، وسط التمثيل الذي أعشقه وأتمنّاه، وأظهرتُ نشاطاً في العمل بشركة السكّر كان موضع ثناء رؤسائي وإعجابهم، وتبسّم لي الدهر بعد عبوس وحالفني بعد خصام، وظللت أشقُّ طريق المستقبل راضياً مطمئناً، ودام الحال على ذلك سبعة أشهر، فإذا المثل الخالد (عند صفو الليالي يحدث الكدر).. أقول إن هذا المثل تراءى لي شبحه بعد هذه الأشهر السبعة، فقوّض ما بنيتُ للمستقبل من قصور الآمال، وحملني توّاً من حالٍ إلى حال، هذا الكدر سببته واقعة – قاتل الله الشيطان – واقعة أذكرها هنا من باب التسجيل فقط، وإن كان الخجل يكسوني كلما طوّح بي الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة، ولكن ما باليد حيلة.. كان باشكاتب الشركة رجلاً مسنّاً اسمه "عم ت" وكان رحمه الله على نيّاته وكان مسكني مواجهاً لمسكنه، وقد ولّدت هذه الجيرة بيننا اتصالاً وثيقاً، وكانت السيدة حرم "العم ت" على جانبٍ كبير من الجمال، وكانت في سنٍّ تسمح لها بأن تكون ابنة "للعم ت" لا زوجة له، كذلك كان الحال معي، وإلى هنا تسير المسألة في مجراها الذي ترسمه طبيعة كل شيء، وفي أحد أيام الشهر السابع، اضطرّ حضرة الباشكاتب إلى السفر إلى مصرفي مهمة، وإذ ذاك خلا الجو للشباب وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق السيدة بابها الخارجي، حتى أستطيع المرور في منتصف الليل، وتمّ الترتيب كما اتفقنا، وذهبت السيّدة إلى مخدعها بعد أن تظاهرت أمام خادمتها أنها أقفلت الأبواب، ولكنني لا أدري أيّ شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك وإحكام القفل من الداخل، وحان موعد اللقيا فتسللت، وما أشدّ دهشتي حين وجدت الباب موصداً دون غرامي وأحلامي، واستشرت الشيطان فيما أفعل، فدلّني – قاتله الله – على منفذ في السقف، "منور" تدليت منه، لكن الخادمة استيقظت في نفس اللحظة، وظنتني لصّاً يسطو على المتاع فصرخت بصوتها المنكر، وصحا الجيران، ووفد الخفراء وألقي القبض عليّ، وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلي من عملي، فعدت إلى محلّي المختار في قهوة الفنّ بشارع عبد العزيز..."ويعترف الريحاني في مذكراته، التي يكذّبها يوسف، بنزوةٍ جنسيّةٍ وقع فيها حين كان يعمل في شركة السكّر بنجع حمادي في صعيد مصر، فيحكي:
إلى هنا انتهى اعتراف نجيب لتبدأ مأساتنا نحن.. نحن التنويريين كذباً، الذين لا يمكننا مواجهة أنفسنا، فقط نسعى وراء صناعة ذاتٍ محتشمة قدر الإمكان، ذات خالية من العيوب وُلدت بلا نقصٍ ولا زلّات.. فركّبنا ذقوناً نُجرجرها في أرض براءتنا المزيّفة، واحتجبنا وراء وقارٍ لا يعرف من الوقار شيئاً سوى غضِّ البصر عن شهواتنا، التي تُغرقنا من الداخل..
كلنا "شعبان يوسف" لكننا ننكر.. ولم نكن أبداً نجيب الريحاني ولا ننوي أن نكون.. نتصوّر أن الفنان إلهٌ لا تعتريه شهوة.. ولا يمكن أن نقبل عليه اختراق اللذّة.. فاللذّة في حياتنا فضيحة، ونحن قومٌ لا نحترم شرف الفضائح..
مَن كان منكم بلا خطيئة فليعش إذن شعبان يوسف ويطبع كتباً لا لزوم لها، لا تقدّم أو تؤخّر في حكمنا على الريحاني، الذي لا تزال إمكانياتنا في التلقّي أقل من إمكانياته الاعترافيّة والتمثيليّة.
نحن التنويريون كذباً، الذين لا يمكننا مواجهة أنفسنا، فقط نسعى وراء صناعة ذاتٍ محتشمة قدر الإمكان، ذات خالية من العيوب وُلدت بلا نقصٍ ولا زلّات..
كلنا "شعبان يوسف" لكننا ننكر.. ولم نكن أبداً نجيب الريحاني ولا ننوي أن نكون.. نتصوّر أن الفنان إلهٌ لا تعتريه شهوة.. ولا يمكن أن نقبل عليه اختراق اللذّة.. فاللذّة في حياتنا فضيحة، ونحن قومٌ لا نحترم شرف الفضائح.
وبقدر ما يصنع هذا "الاعتراف الريحاني" شرخاً في جدار المثاليّة التي نبنيها للشخصيات الكبرى في حياتنا بقدر ما يضعنا أمام حرجٍ كبيرٍ في وجه كذبنا، وبهذا ننكشف على حقيقتنا الرافضة لكلِّ المعترفين المتطهّرين من تجاربهم الأولى، واستمتاعهم بما يُسمّى "الخطأ".
ما الذي تستدعيه الذاكرة حين يقرأ اعتراف الريحاني الذي يُظهره خائناً لأعراض أصدقائه؟
أنا شخصياً لم أستدع سوى مشهد البكاء الشهير للأستاذ "حَمام" في ختام فيلم "غزل البنات"، حيث تدرك المعلمَ العاشقَ لتلميذته لحظةُ ضعفٍ وصدق، فيبكي لأنها لن تكون له وهو لا يليق بها، فتتحد دموع الشخصيّة مع تلقائيّة تمثيلٍ نفدت من السوق بعد رحيل هذا العبقري، فلا تكاد تنجو كجمهورٍ من فخِّ الصدق، الذي تأباه وتخشاه وتقاومه، لأنك محترم تربّيت على الفضيلة في مجتمعٍ محافظٍ يرى أنه لا مكان للبكاء بيننا في عالمٍ موحشٍ كهذا.
وبقدر ما يصنع هذا "الاعتراف الريحاني" شرخاً في جدار المثاليّة التي نبنيها للشخصيات الكبرى في حياتنا، و"نجيب" واحد منها بالتأكيد، بقدر ما يضعنا أمام حرجٍ كبيرٍ في وجه كذبنا ودناءتنا المستترة، وبهذا ننكشف على حقيقتنا، حقيقتنا الرافضة لكلِّ المعترفين المتطهّرين من تجاربهم الأولى، ومحاولاتهم في كشف المجهول، واستمتاعهم بما يُسمّى "الخطأ".
آه.. نسيتُ أن أسجّل هنا أيضاً، على هامش "مبحث شعبان يوسف الخطير"، احترامنا لهذه الشهوة الجنسيّة التي أهدتنا واحداً ممن أحالوا حياتنا إلى البهجة المستديمة، فلولاها، لولا انكشافها بهذا المستوى من الفضيحة، لأكمل "الريحاني" حياته في نجع حمادي موظفاً لا تسمع به البشريّة، لذا فحمداً للفضائح التي تورثنا تلك الاكتشافات الكبرى، وحمداً للصادقين المفضوحين بكاءً وتمثيلاً وبقاء.. حمداً للصدق على نعمة نجيب الريحاني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون