في زاوية من صالون حلاقة نسائي في الرباط، تحكي مريم (30 عاماً)، وهي تضع يديها على مخدة صغيرة، موضوعة على ركبتي عاملة التجميل التي تصبغ أظافرها، عن علاقتها المتوترة مع زوجها، وانزعاجها من حياة الرتابة التي باتت تعيشها بعد ثلاث سنوات من الزواج، بالإضافة إلى عدم توفيره ما تحتاجه من مُتطلَّبات بسبب مدخوله المحدود.
في زاوية أخرى من الصالون، تجلسُ فاطمة (26 عاماً) مسندة ظهرها على كرسيّ ناحية المرآة، تنتظر مُصفِّفة الشعر أن تُنهي المرحلة الأخيرة من صباغة خصلات معدودة من شعرها باللون الأشقر، معلِّقة على ما قالته مريم، إن طموحاتها كبيرة في ملاقاة رجل ميسور الحال، يوفِّر لها كلّ متطلباتها، ويجعلها كملكة في بيت لوحدها، تتصرف فيه بكل أريحية، مضيفة أن الرجل الميسور الحال بتلبيته رغبات زوجته، وتحقيق كماليات الحياة لها، يجعلها سعيدة ومرتاحة نفسياً، ولن تشعر برتابة الحياة أبداً.
أما في الطرف الأخر، تجلس كل من ملك ونوال، شابتان طالبتان في العشرينيات من العمر، جنباً إلى جنب، وفي انتظار دورهما، تارة تحكيان عن حبيبيهما، وتارة أخرى ترددان مقاطع غنائية تصدح من التلفاز، وفي نفس الوقت تتكلمان عن آخر الأخبار النجوم والمشاهير.
مثل هذه المشاهد لا يمكن أن تجدها إلا في صالونات الحلاقة النسائية، حيث الكلام عن الزواج، الحب، الرجال، المال وحياة المشاهير.
والمترددة على صالونات الحلاقة النسائية ستجد نفسها أمام مساحة تتحرّر فيها النساء من قيودهن، ومن أي رقابة ممكنة، فيها تتعرى النساء من خلال البوح بأسرارهن، والحديث عن طموحاتهن، وأحلامهن وما يأتي في خواطرهن.
"حديقة سرية للنساء"
وهي ترتدي "وزرتها" البيضاء، استعداداً لاستقبال زبوناتها، تقول غزلان راتب (36 سنة) صاحبة محل للحلاقة في حي البرنوصي في الدار البيضاء، لرصيف22: "عادة ما تتحول الزيارة الأسبوعية لكل زبونة إلى المحل لقضاء حاجتها، إلى جلسة حميمية مع زبونات أخريات، فيها تتم الفضفضة عن مشاكلهنّ، وهواجسهن، دون حذر أو خوف من سوء فهم؛ إذ تستطيع كل امرأة في هذا المكان الذي بات يعتبر ملجأ اجتماعياً، أن تتحدث بكل أريحية تامة مع الأخريات عن عائلتها، جيرانها، أولادها وعن حياتها الزوجية".
"أجر الستار ورائي، كأني دخلت حديقة سرية تمارس فيه النساء كل ما هو مقموع في أماكن أخرى، دون قيد، في هذا المكان يمكنك أن تجدي المرأة تضحك بصوت صاخب، وأخرى تصف زوجها بأقبح النعوت دون خوف"
عادة ما تلعب الحلّاقة أو "الكوافورة" كما يطلق عليها في المغرب في هذه الجلسات، دور الصديقة النصوح، والمستشارة، وكاتمة الأسرار، بالإضافة إلى كونها مُلمَّة بجميع أخبار نساء الحي.
منال مريد (29سنة) عاملة في ملهى ليلي، في مدينة الدار البيضاء، تتردَّد على صالون الحلاقة ثلاث مرات في الأسبوع، تحكي عن حياتها داخل الصالون: "صاحبة الصالون صديقتي، والصالون هو جزء لا يتجزأ من معيشي اليوميّ، أتردد عليه باستمرار بحكم طبيعة عملي في ملهى ليلي، ففيه ألتقي بصديقات نجعل من الصالون مكاناً للبوح بما يختمر في الخاطر من أسرار، ومساحة لتقاسم تجارب الحياة، وتبادل الأفكار".
تُفضِّل منال أن تصف الصالون بطريقة شاعرية، تقول لرصيف22: "بمجرد أن تطأ المرأة عتبة هذا المكان المخفي، وأجرّ الستار ورائي، أشعر وكأني دخلت حديقة سرية، تمارس فيه النساء كل ما هو مقموع في أماكن أخرى، دون قيد أو شرط، في هذا المكان يمكنك أن تجدي المرأة تضحك بصوت صاخب دون حرج، وأخرى تصف زوجها بأقبح النعوت دون خوف، وأخريات يلعن حظهن في الحياة، أو يتمايلن بتأثر مع الأغاني التي تصدح من شاشة التليفزيون".
"الكوافير" معالج نفسي
بنشاط ملحوظ، يلقي أحمد، صاحب محل "بشار" للحلاقة والتجميل في الدار البيضاء، كلماتٍ مجاملة على شعر زبونته بعد أن انتهى من تصفيفه.
في الوقت الذي تجلس فيه زبونة تدعى زينب، في أواخر الثلاثينات من عمرها، أمامَ المرآة، وتنظر إلى نفسها بإعجاب، وتطرح عليه بعض الأسئلة حول ألوان الصباغات التي يمكنها أن تتلاءم ولون بشرتها، ليردّ عليها: "وجهك الجميل، وبشرتك الصافية ملائمة لجميع أنواع صبغات الشعر الفاتحة والداكنة"، لترتسم على وجهها ابتسامة عريضة.
كثير من المغربيات يفضلن التردد على صالونات الحلاقة، بحسب من تحدثت معهن رصيف22، يكون أصحابها رجالاً، وغالبيتهن يحرصن على قص خصلات شعرهن من طرف "مزين" رجل، اعتقاداً منهنّ أنّ الرجل عندما يقصّ الشعر يزيد طوله بسرعة، في حين أن المرأة إذا قامت بهذا الدور يتأخر الشعر في النمو.
حتى أن الغالبية منهن يجعلن من "المزيّن" مصدر رفع معنوياتهنّ، يمكن للزبونة أن تستفسر منه عن كل ما يتعلق بخصوصيات المرأة الجمالية دون حرج أو تردّد.
تقول سناء (26 عاماً)، طالبة جامعية، إحدى زبونات صالون "بشار" لما يزيد عن ست سنوات، لرصيف22 إن "أحمد يعاملني معاملة المرشد والمستشار، ومصدر رفع معنويات لزبوناته، ينظر لك على أنك شخص آخر متجدد، ما يعطي للزبونة نوعاً من التلذّذ النفسي قد لا تجده الزبونة مع صاحبة صالون امرأة مثلها".
"مساحة للعري والتباهي بالجسد"
المعروف أن الحمام الشعبي المغربي له حضور متميز ومهم في جميع مراحل حياة المرأة المغربية، ففي الحمام الشعبي تكتسب مهارات الأساسية للنظافة منذ طفولتها، ويرافقها في جميع مراحلها العمرية، مثلاً عند بلوغها، وليلة عرسها، وأيام نفاسها.
يقول المثل الشعبي المغربي القديم " المرا زينة وزادها نور الحمام"، الذي يعني أن المرأة تزداد إشراقاً وجاذبية بعد خروجها من الحمام، وأنها تكون أكثر نظافة، ما يزيد من شعورها بالراحة والانتعاش.
إذا كانت صالونات الحلاقة مكان لتبادل الأسرار والهموم والمشاكل والتعارف، فإن الحمامات لمرتاديها من المغربيات، تشكل مساحة للعري، والتباهي بالجسد
يوفر الحمام الشعبي الذي ترتاده بعض النساء باستمرار في المغرب، وعلى فترات متقاربة، مساحة للحرية والاحتفاء بالجسد وتملكه، يتبادلن النصائح حول طريقة وضع خلطات شعبية تقليدية وأخرى عصرية، أو الاعتناء بالشعر أو البشرة، ويفتح مكاناً للاسترخاء والخروج إلى العالم بنفسية جديدة، وروح مرحة خاصة بعد أسبوع من العمل والتعب.
تحرص ثريا (34 عاماً)، ربة منزل من الدار البيضاءـ على التردد إلى الحمام كل سبت أو أحد بعد أسبوع من التعب، تقول لرصيف22: "أظن أنه لا يمكن لأي امرأة في المغرب الاستغناء عن الحمام الشعبي، وهذا الفضاء اللامرئي، فهو فرصة للاسترخاء، والعناية بالجسد والروح، لا أخفيكم أن مرحلة "التكسال" أو التدليك هي أهم مرحلة، حيث تكون فيها النساء جالسات يدلكن أجسادهنّ، وفي نفس الوقت يشعرن بنوع من الراحة والاسترخاء، وتبادل أطراف الحديث بحرية في أمورهن الشخصية والخاصة وتبادل الأخبار، حتى أن هذه المرحلة تعتبر فرصة للتباهي فيما بين النساء بالحلي والمجوهرات التي تبرز بشكل واضح على أجسادهن العارية".
إذا كانت صالونات الحلاقة مكاناً لتبادل الأسرار والهموم والمشاكل، وفرصة للتعارف، فإن الحمامات لمرتاديها من المغربيات، تشكل مساحة للعري والتباهي والاهتمام بالجسد، ليس ذلك فقط، ففيه تحرص المرأة على اصطحاب بناتها المقبلات على الزواج لعرضهن بطريقة غير مباشرة على الصديقات والجارات، اعتقاداً منهن أن الأجساد العارية تسمح باكتشاف جمال العازبات، في مناخ تلعب فيه الأمهات دوراً محورياً في اختيار زوجة مستقبلية للابن الرجل.
"كانت والدتي وجدتي يصطحبننا أنا وإخوتي البنات إلى الحمام، حتى أصبح التردد على الحمام مسألة أساسية في الحياة".
تقول رقية (47 عاماً) ربة بيت وأم لثلاث بنات لرصيف22، أنها كانت تحرص على اصطحاب بناتها في فترة مراهقتهنّ لتعليمهنّ مهارات أساسية للنظافة والاستحمام، تماماً مثلما كانت والدتي وجدتي يصطحبننا أنا وإخوتي البنات إلى الحمام، حتى أصبح التردد على الحمام مسألة أساسية في الحياة. حتى أن نساء الحي كنّ يتفقن على يوم في الأسبوع في الصباح، كنا نجتمع في بيت إحدانا، نطلي الحناء، ممزوجة بالورد والريحان والقرنفل على أجسادنا وشعورنا، وفي المساء نذهب إلى الحمام رفقة بناتنا.
الحمام الاسبوعي، تضيف رقية، هو "فرصة لتنظيف الجسد، وتجديد الروح، والمزاج ، وأيضا لفضفضة هموم الحياة، ومتاعبها، والتباهي على بعضنا بكل ما نملكه من حلي وألبسة ومناشف".
يعلق الباحث في علم الاجتماع، علي الشعباني، في حديث لرصيف22، أنه "على مر العقود اعتبرت الحمامات الشعبية في المغرب ثقافة اجتماعية أولاً، لكونه المكان الوحيد الذي يمكن للمرأة التعري فيه دون قيود اجتماعية، ولكونه يشكل فضاء للتعارف وتجاذب أطراف الحديث مع الصديقات والمعارف، هذا بالإضافة لكونه لطالما اعتبر مكاناً مناسباً لخطبة الفتيات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...