"منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، تحوّل اهتمامي من متابعة أخبار سوريا لملاحقة ما يحدث في لبنان لحظة بلحظة، والذي تبين أن له تأثيراً علينا أكثر مما نتوقع"، تقول ناديا الطويل، وهي سيدة ثلاثينية تعمل موظفة في واحدة من شركات القطاع الخاص في العاصمة السورية دمشق.
تتابع ناديا ضاحكة خلال لقاء مع رصيف22: "بكم سعر صرف الليرة اللبنانية على الدولار؟ مفتوح الطريق من سوريا لبيروت أو مسكر؟ الطرقات مقطوعة؟ مثال على أسئلة باتت خبزنا اليومي هنا في سوريا الآن. نشعر أحياناً وكأننا نراقب الوضع في لبنان أكثر من اللبنانيين أنفسهم".
تبرر ناديا هذا الاهتمام الكبير بما تصفه "بالتداعيات الهائلة لانتفاضة لبنان على الاقتصاد السوري"، وهي تداعيات بدأت بالظهور بعد أقل من شهر على بداية الانتفاضة، حيث شهدت قيمة العملة السورية انخفاضاً متسارعاً ووصلت إلى حوالي ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، مقارنة بحوالي ستمائة ليرة في تشرين الأول الفائت، وتبعها تدهور اقتصادي غير مسبوق طال جميع مفاصل الحياة اليومية داخل سوريا، والتي يعتبر لبنان متنفسها الوحيد الآمن طيلة السنوات الفائتة، مع سهولة الوصول إليه مقارنة ببلدان الجوار الأخرى، وهي تركيا والعراق والأردن.
نشعر اليوم بالقلق والخوف من مستقبل مجهول لا وضوح لما يمكن أن يحمله من قرارات وتداعيات جديدة على الوضع في لبنان، وبالتالي في سوريا".
"لم يسبق لنا أن عشنا أياماً صعبة كهذه الأيام. تراجع سعر صرف الليرة وارتفعت كافة الأسعار، من سعر السكر والشاي واللبن إلى أكثر الأمور رفاهية، وأصبحنا مجبرين على تقليص نفقاتنا للحد الأدنى. بالتأكيد للحرب التي نعيشها منذ سنوات الأثر الأكبر، لكن الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت الأصعب دون شك. متى ستحل الأمور وتتشكل الحكومة في لبنان؟"، تتساءل ناديا وهي تحاول إضفاء طابع ساخر على معاناة تبدو وكأنها بلا نهاية.
الليرة السورية في أسوأ أحوالها
منذ العام 2011 بدأ تراجع قيمة الليرة السورية بشكل تدريجي، من 50 ليرة مقابل الدولار في آذار 2011، إلى 100 ليرة نهاية 2012، و210 ليرات نهاية 2014، وصولاً لما يقارب 500 ليرة نهاية 2018.
وفي بداية تشرين الأول الماضي، كان سعر صرف الدولار يتراوح بين 600 و650 ليرة سورية، ليتهاوى بعدها وبتسارع غير مسبوق وتزامناً مع بدء الانتفاضة في لبنان، وصولاً لألف ليرة هذا الأسبوع وفق سعر الأسواق السوداء، في حين بقي السعر الرسمي في مصرف سوريا المركزي ثابتاً على 434 ليرة.
ومن أهم أسباب هذا التدهور، وفق الخبير الاقتصادي السوري محمد حبش، صعوبة حصول التجار والمستوردين في لبنان على ما يكفي حاجتهم من الدولار من المصارف اللبنانية التي قيّدت عمليات السحب وتمويل التجارة، ما زاد الطلب على الدولار من سوريا فارتفع سعره. إضافة لذلك، طالت هذه التأثيرات التجار السوريين ممن يمتلكون حسابات بالدولار الأمريكي في لبنان، خاصة أولئك الذين يستوردون سلعاً لا يمولها مصرف سوريا المركزي بسعره الخاص، فاضطروا لشراء الدولار من السوق السوداء، ما أدى لارتفاع أسعار السلع التي يستوردونها.
ووصل التغير النسبي في سعر صرف الليرة مقابل الدولار الواحد إلى 95.00 بالمئة عندما تخطى الدولار عتبة الألف ليرة، كما يشرح محمد في حديثه لرصيف22، وبالتالي "خسر السوريون 95.00 بالمئة من ثروتهم بعد 2011، وباتوا مضطرين لدفع مبالغ أكبر في سبيل شراء ذات السلع والخدمات التي كانوا يحصلون عليها من قبل".ومع هذا التراجع، ارتفعت أسعار المواد والسلع داخل سوريا بنسبة تتراوح بين 35 و50 بالمئة، وفق تقديرات العديد من العائلات التي تحدثنا إليها، وتحوّلت مواكبة هذا الارتفاع لما يشبه الكابوس اليومي، فما كان يمكن الحصول عليه وفق حسابات متوسط الدخل الشهري الفردي الذي لا يتجاوز مئة دولار أمريكي لم يعد ممكناً، وبدأت معظم العائلات، حتى تلك التي تنتمي للطبقة الوسطى والتي كانت قادرة حتى اليوم على تدبير أمور معيشتها، بتقليص نفقاتها إلى الحد الأدنى.
"ودعنا اللحوم والدجاج ومعظم أنواع الفواكه والكثير من الكماليات منذ زمن بعيد، واليوم نضع خيارات لما يمكننا توديعه أيضاً من قائمة طعامنا التي يبدو بأنها ستقتصر على الخبز والسكر والشاي، وربما بعض أنواع الخضراوات"، هو لسان حال كثير من الأسر السورية اليوم، والتي بات لها عين على الأخبار في سوريا، وأخرى على تطورات الوضع في البلد الجار، أملاً بأن يكون الحل السياسي والاقتصادي هناك مدخلاً لتحسن -وإن كان جزئياً- في الوضع الاقتصادي داخل بلدهم.
"لم يسبق لنا أن عشنا أياماً صعبة كهذه الأيام. بالتأكيد للحرب التي نعيشها منذ سنوات الأثر الأكبر، لكن الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت الأصعب دون شك"... سوريون يتحدثون لرصيف22 عن تأثير ثورة لبنان عليهم
مع اشتداد وتيرة العقوبات الاقتصادية على سوريا وصعوبة التعامل وتحويل الأموال بالعملات الصعبة منها وإليها، لجأ كثير من السوريين لإيداع أموالهم في مختلف المصارف اللبنانية، ووصل إجمالي إيداعات في المصارف اللبنانية إلى نحو 45 مليار دولار
أموالنا في المصارف اللبنانية، والمصارف: ما معنا
خلال السنوات الماضية، ومع اشتداد وتيرة العقوبات الاقتصادية على سوريا وصعوبة التعامل وتحويل الأموال بالعملات الصعبة منها وإليها، لجأ كثير من السوريين لإيداع أموالهم في مختلف المصارف اللبنانية، ووصل إجمالي إيداعات الأفراد ورجال الأعمال والمستثمرين السوريين في المصارف اللبنانية إلى نحو 45 مليار دولار، وفق تقديرات المرصد العمالي السوري للدراسات والبحوث.
وبشكل مشابه لما يعانيه اللبنانيون اليوم من صعوبة الحصول على أموالهم من حساباتهم الشخصية في المصارف اللبنانية، سواء الودائع أو الحسابات الجارية أو حسابات توطين الرواتب الشهرية، أرخت هذه المعاناة ظلالها على المودعين السوريين في لبنان خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، ليضاف ذلك إلى قائمة الصعوبات الاقتصادية التي عكستها انتفاضة لبنان على حياتهم اليومية.
"معنا مصاري بالبنك، بس ما معنا"، يتحدث سامر سعد الدين، وهو موظف في واحدة من وكالات الأمم المتحدة بسوريا عن حاله في الأشهر الثلاثة الأخيرة، حيث يجد صعوبة بالغة في الحصول على راتبه الذي يحوّل بشكل شهري لحسابه في أحد المصارف اللبنانية، مع وضع المصرف حداً للسحوبات الأسبوعية المسموحة، وعدم توافر الدولار بالضرورة حتى عند التوجه لسحب تلك المخصصات الأسبوعية.
وتزداد الصعوبة بالنسبة لسامر مع كونه مقيماً في سوريا، فهو بذلك مضطر للتوجه إلى لبنان بشكل أسبوعي للحصول على جزء بسيط من دخله الشهري، وقد يتمكن في بعض الأحيان من تفويض شخص آخر لسحب المبلغ المتاح، لكنه تفويض لا يُقبل على الدوام من المصرف لحجج متعددة، منها عدم مطابقة التوقيع، أو تجاوز عدد التفويضات الحد اليومي المسموح به.
ولا تتوافر كثير من الطرق البديلة لحل هذه المعضلة، كما يقول سامر في لقاء مع رصيف22، فتقييد السحوبات الأسبوعية قد طال جميع المودعين، والسحب بالليرة اللبنانية والذي طالته أيضاً قيود أقل صرامة، سيتسبب بخسارات كبيرة من قيمة الدخل الشهري مع انخفاض سعر صرفها مقابل الدولار: "جربت أحد الحلول بشكل فردي، بأن عرضت بطاقة الائتمان الخاصة بي على من يرغب من أصدقائي لاستخدامها عبر الإنترنت، ومن ثم إعطائي المبلغ المدفوع بشكل نقدي، لكنه حل غير ناجع مع تقييد استخدام هذه البطاقات أيضاً".
ومع كل هذه الصعوبات المالية يطرح سامر العديد من التساؤلات التي تؤرقه: "هل ستوضع قيود جديدة على عمليات السحب؟ هل سنخسر كل مدخراتنا في المصارف اللبنانية؟ هل سيأتي يوم نعجز فيه حتى عن تأمين مستلزماتنا اليومية، أو ربما نعجز عن تغطية احتياجات طارئة، كنفقات عملية جراحية على سبيل المثال، ونضطر للاستدانة رغم أننا فعلياً نمتلك أرصدة مالية؟ نشعر اليوم بالقلق والخوف من مستقبل مجهول لا وضوح لما يمكن أن يحمله من قرارات وتداعيات جديدة على الوضع في لبنان، وبالتالي في سوريا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 17 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت