نشر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا، تقريره عن إنجازات الاستجابة للأزمة السورية عام 2019، وظهرت في التقرير أرقام مهولة، كحاجة نصف سكان سوريا للمساعدة في الوصول إلى خدمات المياه والإصحاح الأساسية، أو كتقديم المساعدة لأكثر من خمسة ملايين سوري لتأمين غذائهم شهرياً على مدى العام، لكن الرقم الأكثر هيمنة على التقرير كان اقتراب المساعدات الواردة لسوريا من ملياري دولار أمريكي، ما يثير التساؤل الأزلي في كل مناسبة نرى فيها أرقاماً كهذه تمر عبر الحكومة السورية قبل وصولها للمستفيدين: أينها على الأرض؟
فتح جزء من الإصلاحات، التي أطلقها رئيس الدولة السورية بشار الأسد إبان اندلاع الاحتجاجات التي عصفت بالبلاد عام 2011، الباب لجيل جديد من المنظمات غير الحكومية، التي تتجاوز أنشطتها العمل الخيري، وحسب العادة في منظمات القطاع الثالث تاريخياً، هيمنت الجمعيات الخيرية ذات الطابع الديني لفترة ليست قصيرة، بدأت بتفعيل مركزية المرجعية للجمعيات الخاصة بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ممثلةً بمديرياتها في المناطق المختلفة عام 1973، وانتهت قبيل بدء الثورة السورية بأعوام قليلة، مع "احتلال" الأمانة السورية للتنمية صدارة المؤسسات التنموية المعنية بالأطفال واليافعين، والتي عززتها بصرياً بمشروع وردة مسار، الذي أثار ضجة بتصميمه ما بعد الحداثي الملاصق لمركز الانطلاق الأكثر مركزية في دمشق، لتتفوق بذلك "الأمانة" على أسماء عريقة في الحقل التنموي السوري، تبدأ بمنظمة طلائع البعث وتنتهي باتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق المؤسس منذ عام 1957.
كانت الأمانة السورية، التي ارتبط اسمها منذ تأسيسها عام 2007 بالسيدة الأولى أسماء الأسد، محطة ضرورية لفضاء التنمية السوري، إذ أتاحت مدخلاً متأخراً للشعبوية السورية إلى خطاب ما بعد التنمية العالمي، وبدأت بتعريف روادها ومستفيديها بهذا الخطاب تجريبياً، لتنتج مشاريع تنموية شديدة التهجين، بين الموضات التنموية العالمية، وبين ثقافة العمل المجتمعي المحلية التي تمردت على هويتها الدينية للتو، ومازالت، حتى حينها، في طور البحث عن الهوية.
عززت شراكات الأمانة الميسرة مع مؤسسات الدولة السورية من أثرها المفترض على التنمية السورية، لكنها سرعان ما بدأت بالوقوع في عثرات الجهل بأبسط مبادئ التنمية، عندما بدأنا نرى عناوين كـ"التنمية البشرية" تظهر في برامجها التدريبية، أو عندما اقتحم "علم" الطاقة محافل أكاديمية في سوريا، كـعيادات العمل في جامعة دمشق، نتيجة شراكة هذه المساحات مع الأمانة السورية للتنمية.
الأمانة السورية كأداة سياديّة
تبدو الأمانة اليوم أكثر انضباطاً من العشوائية التي بدأت بها، وذلك نتيجة استخدامها كأحد الأدوات العديدة للَجْم الشباب السوري وتحييده سياسياً، عبر الترويج لتعارض التنمية والنشاط السياسي مع بعضهما البعض، الأمر الذي يظهر جلياً بمراجعة سريعة لبرامج الأمانة الخاصة بالتمكين ونشر الوعي، والتي أوقفت جميعاً في العام 2011، إلا أن دورها الحقيقي أصبح أبعد بكثير من الشريحة المستهدفة من قبل، ودخلت فعلياً في وجه العقوبات الدولية على سوريا، كما أضحت شيئاً فشيئاً أداة للحوكمة، وشريكاً لمنظمات التنمية الدولية، ما يمنح قيمة مضافة واحدة وحسب لهذه المنظمات، ألا وهي "الوصول accessibility"، ولعل هذه الشراكة التي أجبرت الحكومة السورية المنظمات الدولية غير الحكومية في سوريا على اعتناقها، مع أحد منظماتها "غير الحكومية" المحلية، كشفت ثغرة في منظومة عمل التنمية الدولية غير الحكومية لا تقل قبحاً عن أي من ممارسات الحكومة الأخرى المحقونة بالعنصرية، الطبقية، أو الطائفية، تحت عنوان التطوير والإصلاح، كما أشارت هيومن رايتس ووتش في تقريرها حول سياسات الحكومة السورية لاستغلال المساعدات الإنسانية وتمويل إعادة الإعمار.
وقفت الأمانة السوريّة للتنميّة في وجه العقوبات الدولية على سوريا، كما أضحت شيئاً فشيئاً أداةً للحوكمة، وشريكاً لمنظمات التنمية الدولية ما يمنح قيمةً مضافةً واحدةً وحسب لهذه المنظمات، ألا وهي "الوصول-accessibility"
لا يسمح النظام السوري بتواجد أي منظمة تنموية غير حكومية في مناطق سيطرته على الإطلاق، فبالنسبة للنظام السوري، حصر قنوات التمويل بالتعامل مع المصرف المركزي يعني أن كافة المخصصات لهذه المنظمات تمر بخزينة الدولة بالقطع الأجنبي، وتخرج منها بالقطع السوري
تعتمد منظومة العمل غير الحكومي التنموي العالمية في معظم سياقاتها على مرجعيات موحدة، ويضع هذه المرجعيات مجموعة من الشركاء الأكاديميين، الباحثين، والعمال في مجال التنمية. هذا الشرح شديد الاقتضاب يعكس بالضرورة دمقرطة عملية تكوين هذه المرجعيات لاختصاصييها، وعندما نأخذ مقياس العمل يبدو جلياً أن التقدمية التي تنقلها وسائل الإعلام في العالم ستنعكس على هذه المرجعيات. بدا هذا واضحاً في الفضيحة التي عصفت بأوكسفام عام 2018، عندما ظهرت تقارير تتحدث عن استغلال جنسي للمستفيدين، قام به موظفون في المنظمة أثناء أحد استجاباتها في هايتي. بعيداً عن السؤال الذي هيمن على التغطية الإعلامية: "هل كانت لتختلف ردة فعل الرأي العام لو حصل ما حصل قبل عقدين من الزمن؟"، أضافت أوكسفام لقائمة قوانينها منعاً باتاً لأي ممارسة جنسية بين المستفيدين والعاملين في مجال التنمية، وهو ما قد يبدو خطوة منطقية للوهلة الأولى، إلى أن ندرك أن قابلية التطبيق شبه معدومة في الكثير من قطاعات عمل أوكسفام، وخصوصاً قطاع المياه الذي قد يصل عدد مستفيديه إلى الملايين في مدينة واحدة، ولا آلية حقيقية -بعيداً عن التبليغ الشخصي- لتطبيق قانون كهذا.
عند إسقاط رد فعل كهذا على عملية تطوير المرجعيات المعتمدة في التنمية غير الحكومية دولياً، تظهر العبارات الرنانة التي تتغنى بالتنمية المتجذرة من المجتمعات المستهدفة، وببناء الشراكات المحلية، وبتمكين المجتمعات المستفيدة، والتي قد تكون ممتازة في جغرافيات لا تعاني من الصراع مثلاً، أو في دول غير أمنية، أو في الدول التي لا تحتاج حقاً إلى التنمية التي تحدد نواظمها هذه المرجعيات بعينها، إلا أنها في الحالة السورية أدت إلى خلق شراكة قلما تسمى بمسماها الحقيقي، بين الحكومة السورية التي تحتاج هذا الوجود الدولي لما يقدمه من القطع الأجنبي والمعلومات من جهة، ولما يحققه على الأرض من جهة، وبين المنظمات الدولية التي تحتاج لهذا "الوصول" في خطابها لمموليها، ولفتح أبواب التمويل الغزير المخصص للجغرافيا السورية، فالعمل في المجال الإنساني يحتاج شراكة مع أحد أربعة شركاء تتبع بشكل أو بآخر لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بينما بلغ التمويل المخصص للأزمة السورية ما يقارب ملياري دولار، ومر كلما أنفق منها في مناطق سيطرة النظام من المصرف المركزي السوري، ليفرج عنه بسعر صرف نشرة هذا المصرف.
عمل إنساني أم جزء من سياسة إعادة الإعمار؟
أعادت ديناميكيات القوة تعريف الغاية من العمل الإنساني في سوريا، ومن المهم هنا التفريق بين تصنيفي العمل الرئيسيين للمنظمات الإنسانية الدولية عموماً، وهما "الاستجابات الطارئة" و"التنمية"، لا يسمح النظام السوري بتواجد أي منظمة تنموية غير حكومية في مناطق سيطرته على الإطلاق، مع العلم بأن هذا التعميم لا يشمل المنظمات التابعة للأمم المتحدة، كونها لا تندرج تحت تصنيف المنظمات غير الحكومية. بالنسبة للنظام السوري، حصر قنوات التمويل بالتعامل مع المصرف المركزي يعني أن كافة المخصصات لهذه المنظمات تمر بخزينة الدولة بالقطع الأجنبي، وتخرج منها بالقطع السوري، بل أبعد من ذلك، فالفارق بين سعر الصرف في المصرف المركزي وسعر السوق الحر بلغ أكثر من أربعين بالمئة في الأيام الأخيرة، قبل تعديل نشرة أسعار الصرف لتشمل تبويباً خاصاً بالمنظمات الدولية يقع في الوسط تقريباً، بين سعر الصرف الحر وذلك الذي تذيعه الدولة.
هذا التباين وصل حداً فكاهياً قبيل أسابيع قليلة، فبعد الاطلاع على مخصصات الدعم التي تقتطعها المنظمة لتغطية أجور العاملين فيها من كل تمويل، وثم الاطلاع على نفقات الدعم التي تخصص للشركاء، وأخذ فارق أسعار الصرف بين المركزي وبين تلك التي يتقاضاها المتعاقدون لتوريد المواد الأولية للمنظمات الدولية بعين الاعتبار، يمكن أن نستنتج أن أقل من عشرين سنتاً من كل دولار يصل فعلياً إلى المستفيدين. الدافع وراء القبول بهذا الإطار العملياتي المضحك لدى المنظمات هو الوصول إلى صناديق التمويل الخاصة بسوريا. فلنقل مثلاً أن صندوقاً للاستجابة لنزوح إدلب الأخير افتتح للتو، على المنظمات الدولية التي تريد حصة من هذا التمويل أن تقترح مساهمة ما في هذه الاستجابة لتستطيع الحصول على هذا التمويل، ومع المنع القائم للمنظمات التنموية في سوريا، لا مصادر تمويل أخرى يمكن للمنظمات غير الحكومية الدولية الوصول إليها. هذه المعادلة تعني تحول التمويل من الوسيلة إلى الغاية للعمل الإنساني في سوريا، وهذا التحول يؤدي بالمنظمات الدولية لإنشاء شراكات محلية تتغاضى عن طبيعة الدولة الأمنية، وتذهب بعيداً في سعيها لإنتاج صورة منمقة لنزاهة العمل المنظماتي المحلي على الورق وحسب.
إضافة إلى كون هذه الأوراق التي تقدمها المنظمات للجهات المانحة لا تعكس بأي شكل من الأشكال واقع القطاع الثالث في سوريا، وإضافة للمخاطر البديهية التي يمكن أن تسببها صورة مغلوطة كهذه للوضع على الأرض في مخيلة الجهات المانحة، يشكل منح سلطة من هذا النوع لمؤسسات تخضع لأمنية الدولة السورية مشاكل من مقياس آخر أكبر من استهداف مستفيد بعينه مثلاً، أو من حرمان مستفيد آخر من خدمات الدولة الاجتماعية كونه مستفيداً من المنظمات الدولية، ليصل إلى تحقيق مكاسب سياسية جمة عبر الانتقائية التي يمارسها النظام في منح موافقاته وتسهيلاته لمناطق دون أخرى، وعبر تحويل عمولة النظام إلى مشاريع إعادة الإعمار التي تعد أكبر ترويج لانتصاره المزعوم. لا تكفي المعلومات التي تطلبها الجهات المانحة عادة للتأكد من نزاهة التدخلات والتزامها الحقيقي بمبدأ "لا ضرر ولا ضرار" الذي تتغنى المنظمات بتعصبها له في كل مناسبة، ولا مصلحة لهذه المنظمات صراحة بالتصريح عن فداحة ضرر بُنى القوى هذه على الأمد البعيد، خصوصاً مع صعوبة تأمين ما يطلبه الممولون سلفاً، من إثباتات وأوراق في دولة تعيش إنكاراً وتعتيماً إعلاميين، بعيدين كل البعد عن المنطق الذي يحكم عمل الجهات المانحة.
المحصلة التي نتجت عن تهجين السياسات الأمنية للدولة السورية والخطاب الأبيض للمنظمات غير الحكومية الدولية، تتجلى بانفصام هذه المنظمات عن رسائلها التي تتبناها قيماً ومحاولات لفهم الجغرافيات التي تعمل بها، ويمكننا أن نرى هذا الانفصام بأبهى حلله في دير الزور التي شهدت بعيد "تطهيرها" موجة افتتاحات لمكاتب المنظمات غير الحكومية الدولية المتنافسة على التمويلات المتاحة لإعادة تأهيل المدينة، والشراكات التي بدأت هذه المنظمات بتأسيسها أو توسيعها لتشمل هذه المدينة، بحثاً عن كنز الوصول وتجنباً لجحيم الموافقات الأمنية. أضحت منظومة العمل الإنساني جزءاً من كابوس التمشيط الأمني الذي يتلو كل انتقال للسلطة في الجغرافيا السورية، ولا يبدو أنها، في السياق السوري على الأقل، تستطيع تجنب تعريفها الجديد مالم تعد النظر في تكوينها البنيوي من جذوره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...