نطلق تعميماً في عنوان هذه المقالة، لأننا أمام إشكالية شديدة التعقيد، لكننا للأسف في العالم العربي ما زلنا في بدايات الصراع، خصوصاً أن الدول العربية تجرّم تهمة المثلية أو الانتماء إلى أشكال مختلفة عن التقسيم التقليديّ، كـما في تونس، المغرب، ليبيا، سوريا، لبنان والسودان...". هذا التجريم يكون إما بالنص الواضح، أو عبر نصوص غامضة توظف تعابير كـ "جنس غير طبيعي، فحشاء..."، كلمات تُسيّس الميول الجنسية وتجرّمها حتى ولو كانت بالتراضي.
نتحدث هنا عن المثلية متجاهلين باقي أطياف الجندرية، تلك المختفية، والتي إن ظهرت للعلن تكون ضمن قضايا الصراع المباشر مع السلطة، كحالات الاعتقال في مصر وتونس على سبيل المثال.
هناك شكل آخر لهذه "الحرب" التي تقودها الدول العربية ضد أي تهديد للتقسيمات التقليدية، واحد من مظاهرها اتهام "الغرب" بتصدير هذه المفاهيم لنا بحجة "الليبرالية"، فنحن، العالم العربي المحافظ والأخلاقي لا يوجد لديـ(نا) هكذا "مظاهر"، ما يعني تحويل الجنسانية إلى خطاب استعماري، في تجاهل تام للهويات المحلية وخصائصها واختلافاتها الدقيقة. ولا نتحدث هنا عن الإعلام الرسمي أو الأكاديميات المحافظة فقط، بل نشير إلى فتح المنصات أمام الأصوات التي تتقنع برأيها لتوزيع الاتهامات، كأن نقرأ مقالاً أو نصّاً بعنوان "من ملكية الجسد إلى تطبيع الشذوذ".
العنف الممارس على مستوى الخطاب والآخر على المستوى القانوني قائم على أساس الخوف، لا فقط بمعناه المفاهيمي، بل أيضاً على مستوى الممارسة. نحن أمام خوف من "المختلف"، ومن "الذات" نفسها ووهمية بنائها، وما سنحاول القيام به هو رصد معالم هذا الخوف على عدة مستويات، كونه حوّل "المختلف" إلى عدوٍّ يستحقّ الشتم والأذية، وفي بعض الأحيان الموت، خصوصاً أن البعض يأخذ الأمر على مستوى شخصي، ويرى في ظهور الفرد المختلف إهانة موجّهة لشخصه.
حوّل الخوف الممارسات الحميمية وأشكال التعبير عن الذات إلى قضايا سياسية
حوّل الخوف الممارسات الحميمية وأشكال التعبير عن الذات إلى قضايا سياسية، تتضح في نص القانون نفسه، ففي قانون العقوبات السوداني "اللواط" هو كل إيلاج في الدبر، مهما كان جنس صاحبه، وقراءة النص وحدها تثير القشعريرة: "يعد مرتكباً جريمة اللواط كل رجل أدخل حشفته أو ما يعادلها في دبر امرأة أو رجل آخر، أو مكن رجلاً آخر من إدخال حشفته أو ما يعادله في دبره".
I. الخوف على الأسرة
الأسرة النووية هي المهيمنة في العالم العربي، بالرغم من وجود أمهات عازبات وآباء عُزّب، إلا أن العلاقات المثلية تهدد نموذج "أب، أم وأطفال"، لاعتقاد ديني وسياسي يقول إن العلاقات المثلية الجدية والملتزمة خالية من الإنجاب، بصورة أدق، غير قادرة على استنساخ شكل الأسرة النووية، تلك التي تقسم فيها الأدوار بوضوح: "أب يعمل، أم في المنزل، أطفال يدرسون"، وتنتقل فيها الثروة بالوراثة، والنسب يحفظه "الدم".
هذا الخوف نراه بشكله المبتذل والخطير في دراسة صادرة في الجزائر ضمن مجلة "علمية" ضمن بحث بعنوان" أثر الزواج المثلي على الاستقرار الأسري"، ووجد البحث أن "الزواج المثلي عبارة عن ممارسات شاذة معاكسة للفطرة الإنسانية... كان لهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الدور البارز في تمكين الشواذ ومنحهم حقوقهم... وتسبب المثلية أمراضاً كالإيدز والقلق والوحدة والاكتئاب".
يروج لاعتقاد ديني وسياسي يقول إن العلاقات المثلية الجدية والملتزمة خالية من الإنجاب أي غير قادرة على استنساخ شكل الأسرة النووية، التي تقسم فيها الأدوار بوضوح: "أب يعمل، أم في المنزل، أطفال يدرسون"، وتنتقل فيها الثروة بالوراثة، والنسب يحفظه "الدم"
II. الخوف على الدور التقليدي (الرجولة- الأنوثة)
ذكرنا سابقاً التهديد الشخصي الذي يشعر به البعض من أطياف الجندر، وعادة ما يتلخص ذلك بكلمة "القرف" أو "ليفعلوا ما يشاؤون سراً، لكن لا يقتربوا مني"، رد الفعل العاطفي الذي يبدو بريئاً، يحرم المختلفين من أحقية التعاطف في الظلم الذي يتعرضون له، كما يرتبط بمفاهيم المناعة الثقافية، تلك التي تفترض شكلاً طبيعياً، وتحوّل المختلف إلى مقرف وواجب الاختفاء أو النبذ.
يستخدم كلا الجنسين تعبير "القرف"، وقد يظن أنه يرتبط بطبيعة الممارسة الجنسية، لكنه أيضاً مستمد من تاريخ تمثيل المختلف، فممارسات الرجولة والأنوثة في العالم العربي واضحة المعالم ومقسمة بصورة واضحة، ويظهر المختلفون دوماً كأشرار، وسخين، يتعرضون للضرب. لنتأمل مثلاً التمثيل الكوميدي للمثليين، وكيف يظهرون بوصفهم ضعفاء، "نعانيع"، يُضربون دوماً، ولا يفكرون إلا بالجنس، مهما كان السياق، كحالة الثنائي الشهير "مجدي ووجدي"، للممثلين عادل كرم وعباس شاهين.
القرف هنا منشؤه أن الشكل والممارسات التقليدية هي "الطبيعية"، وكل ما عداها "وسخ"، بالطبع لا يوجد ما هو طبيعي، وعالم الشهوات لا يعرف حدوداً، لكن توظيف القرف يحول هذا "الآخر" إلى عدو، والتسامح معه خطر بسبب "العدوى" الذي من الممكن أن يسببها لمن حوله.
ومن وجهة نظر أخرى، يتم التغني بالتراث العربي والانفتاح الجنسي وتنوع ما فيه، لكن هل أحد النماذج التي نقرأها في التراث قابلة للتعميم، هل فعلاً الأمر كما نتخيّله، أم أننا أمام حكايات شعبية وقصص بهدف التفكّه والوعظ؟
III. الخوف من الظهور
تميل المؤسسات الرسمية إلى إخفاء المثليين أو تكميم أصواتهم، خوفاً على الأخلاق العامة والأسرة و غيرها من التهم غير المنطقية، ووصل الأمر إلى حد المطالبة بطرد المثليين في مصر، أي نفيهم من الشعب لما يشكلونه من خطر، كما أن الكثير من الدول العربية تمنع ترخيص جمعيات "الميم"، ناهيك أن هذه السياسات عززت الخوف، فمكن يكشف هويته الجندرية يهدد بالعنف الجسدي، وإن لم يحصل، فيفقد عمله، كما نقرأ في تقرير هيومان رايتش واتش عن وصف مثلي من البحرين لعلاقة هويته الجندرية بالمجتمع، فيقول: "إنه عقد اجتماعي: نحن نملك النفط، ستصبح غنياً فاصمت. وإن لم يعجبك الأمر، ارحل. وبالتالي لا تجد تحركات لمجتمع الميم... العالم هو مسرح وعليك أن تلعب دورك في المجتمع".
تميل المؤسسات الرسمية إلى إخفاء المثليين أو تكميم أصواتهم... أي نفيهم من الشعب
هذا الخوف من الظهور يعيق تطور الصراع الهوياتي وامتداده في المجتمع، ويحوله إلى حالات ومشكلات فردية، لأنه وفي حال تم التجمع والاحتشاد صورة المجتمع التقليدية ستنهار، وينكشف عن طيف واسع من الهويات المقموعة في كل الطبقات الاجتماعية، تلك التي تفضل الصمت والربح على المواجهة.
IV. الخوف على الأخلاق الوطنية
أشد المفاهيم غرابة هو الأخلاق الوطنية، أي عندما تتبنى الدولة نموذجاً تحاول فرضه على مواطنيها، و هذا ما نراه بوضوح وبدون خجل في كل من سوريا ومصر
أشد المفاهيم غرابة هو الأخلاق الوطنية، أي عندما تتبنى الدولة نموذجاً تحاول فرضه على مواطنيها، و هذا ما نراه بوضوح وبدون خجل في كل من سوريا ومصر، حيث تتحول الدولة إلى مسؤول عن الضبط الاجتماعي، وتوظف قواها المختلفة بصورة مباشرة (اعتقال، تهديد ، سجن) و غير مباشرة ( وسائل إعلام، مشاهير، رجال سلطة)، للدفاع عن هذه الأخلاق، فمثلاً النظام السوري ضد أخلاق الليبرالية الجديدة الغربية التي تريد تدمير الأسرة السورية وإضاعة الشباب، ذات الأمر في الإمارات العربية المتحدة، التي تخلق نسخة مزيفة من المجتمع لأغراض سياحية، دون أي تمثيل واقعي للهويات المحلية، بل وتجريم للمثلية، كما هو مذكور في قانون العقوبات في دبي.
V. الخوف على الدين
الهجوم الأشد على الطيف الجندري يتمثل بالمؤسسة الدينية والأثر الذي تتركه على الأخلاق الدينية الشعبية، ناهيك عن أن الأديان الرئيسية في المنطقة العربية تحرّم المثلية وتعاقب عليها، وهذا ما تتبناه القوانين الوطنية العربية، يمتد الأمر إلى كل الأشكال التي يراها "الدين" غير مناسبة، تحت حجج الفحشاء والإفساد في الأرض والتشبّه بالنساء أو الرجال، ما يخلق عداوة شخصية بين كل مؤمن حقّ وبين تنويعات الطيف الجنسي.
الهجوم الأشد على الطيف الجندري يتمثل بالمؤسسة الدينية والأثر الذي تتركه على الأخلاق الدينية الشعبية
المثير للاهتمام أن هناك أيضاً خوف على الدين نفسه وانهياره من هذه "الصيحات" الجديدة، وكأن المؤسسة الدينية والنص المقدس سيتلاشيان إن لم تضبط فتحات الأجساد، خصوصاً الآن، في عصر لم تجد الكنيسة الكاثوليكية نفسها إلا مضطرة للاعتراف بأحقية المثليين بممارسة كل نشاطات حياتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...