شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
نزار قباني كتب حكاية المثليّة التي لا تحكى

نزار قباني كتب حكاية المثليّة التي لا تحكى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 19 يونيو 201606:58 م

يوصف نزار قباني (1923/ 1998) بشاعر المرأة، أو شاعر الحب. فقد كرس معظم قصائده للحديث عن النساء من كل الأعمار، واشتهر بجرأته في تصوير العري الجسدي للمرأة. ولم يترك شيئاً مما يخصها لم يكتب عنه، بالإضافة إلى لباسها الشفاف وغير الشفاف، وأدوات زينتها، وجواربها، وكل ما يخطر في البال عن المرأة، حتى عن اليوم الأول لبلوغها.

وحمل ديوانه الأول عنوان: "قالت لي السمراء" (1944)، والثاني: "طفولة نهد” (1948). هكذا توالت دواوين عشقه، وتغنيه بالحب، حتى لتكاد قصائده كلها أن تكون قصيدة واحدة طويلة عن المرأة. مع الإشارة إلى أنه كتب ما يسمى شعراً سياسياً، بعد هزيمة 5 يونيو 1967.

وانقسم حوله النقاد، فبعضهم اعتبره فرادة، والبعض الآخر اعتبره مجرد كاتب أغانٍ، وقسم وضعه بين بين. لكن الأكيد أنه أكثر الشعراء العرب، الحديثين والمعاصرين، اهتماماً بقضايا المرأة الجسدية والنفسية. ودعا لحريتها حسب مفهومه للحرية، وطالبها في شعره أن تستمتع بجسدها، لأن من حقها أن تمارس حريتها كما تشاء. مهما قيل في نزار، فإنه يبقى الشاعر الأكثر جرأة في تصوير المرأة وواقعها، والاضطهاد الذي تتعرض له في الشرق، وفي البلدان العربية خصوصاً.

ولعل أكثر أشعاره جرأة قصيدته التي كتبها عن المثلية عند النساء، لأن ما قاله كان ريادة في هذا الموضوع. خصوصاً أن موضوع الجنس من المحرمات التي لا يجوز الحديث عنها في العلن، لا يدرس في المدارس، ولا يناقش في الصحافة، ولا في السينما أو التلفزيون، ولا في أي مكان سوى الأماكن المغلقة، فكيف بالكتابة عن المثلية والمثليين والمثليات؟ لهذا السبب، لا نعثر على نصوص كثيرة تتطرق لمسألة المثلية، سواء بين الرجال أو النساء، والروايات التي تقاربها تعد على رؤوس الأصابع، فكيف صور نزار قباني المثلية بين النساء؟ هو الذي طاف في الدنيا كديبلوماسي في وزارة الخارجية السورية (1945/ 1966).

"القصيدة الشريرة"

يعنون نزار قصيدته بـ"القصيدة الشريرة". لماذا وضع هذا العنوان لقصيدته عن قصة حب بين امرأتين؟ هل هو مجرد إثارة ولفت انتباه؟ أو أنه تحصّن مسبقاً ضد رد الفعل الذي كان يتوقعه ضدها؟ وما هو معيار الشر الذي يتحدث عنه العنوان؟ أيضاً، كيف يكون في الإبداع، الشعر هنا، فن شرير، وآخر خيّر؟ هل موضوع الفن/القصيدة هو المعيار؟ لا أظن أن نزار كان غافلاً عن ذلك كله، وربما تعمد هذا العنوان، ليؤكد أنه يستطيع الدخول إلى مناطق يعتبرها الناس شراً، ولا يجوز الدخول إليها. وفي الأحوال جميعاً، فإن هذا العنوان دعوة للقارئ لمساءلة القيم السائدة، ومعايير "الشر" والحرام.
جرأة نزار قباني على التغني بقصة حبّ مثلية بين امرأتين لا مثيل لها في الشعر العربي، قديمه وحديثه
"أشذوذٌ.. أختاهُ إذا ما لثم التفّاح التفاحُ" من قصيدة لنزار قباني عن المثلية الجنسية وقصة حبّ النساء...
واللافت أن نزار قباني لم يكتب البتة عن مثلية الرجال، على الرغم من أن العصرين العباسي والأندلسي، أفاضا بالنصوص الشعرية التي تتناول مثلية الذكور، وتسمي الأشياء بأسمائها بلا حرج. ولكن، في الشعر، لم يكتبوا عن المثلية بين النساء، لذا يمكن اعتبار قصيدة نزار هذه، رائدة في ميدانها في العصور العربية جميعاً.

"حكايةُ حبّ... لا تُحكى"

يفتتح نزار قصيدته بتصوير الجو في تلك الليلة، والمطر عاصف في الخارج حتى أن مفاصل الباب تئن. مطرٌ.. مطرٌ.. وصديقتُها معها، ولتشرينَ نواحُ والبابُ تئنُّ مفاصلُهُ شيءٌ بينهما.. يعرفُهُ اثنانِ، أنا والمصباحُ في هذا المدخل، اتكاء على الموروث الشعري العربي منذ الجاهلية، الذي ينص على أن اليوم الماطر مناسب أكثر من غيره لممارسة الحب. ولكن لماذا في شهر تشرين؟

ليست موسيقى القصيدة هي التي فرضت ذلك بالتأكيد، فمعظم شهور السنة مساوية عروضياً لتشرينَ "/0/0/"، مثلها مثل كانون "/0/0/" أو أيلول "/0/0/"، وغيرها من شهور السنة. ثم فصل الخريف ليس ماطراً عاصفاً في البلدان العربية، فهل حصلت الحادثة الموصوفة في بلد غربي؟ هي أسئلة فنية، ولكنها على علاقة مباشرة مع دلالة الموقف. الوقت ليل، بدليل وجود المصباح، وفي هذا الجو تتابع القصيدة "سرّاً" مشهد الحب بين المرأتين. لا أحد يعرف عن هذا اللقاء شيئاً سوى المصباح، وصوت راوي القصيدة. فهل هو صوت شيء من موجودات الغرفة؟ أم أنه شخص يتقمصه الشاعر في القصيدة؟ والأهم، هل هو صوت امرأة أم رجل؟

أياً يكن الجواب، تقدم القصيدة في ذكر وجودهما كشاهدين وحيدين مساحة لقرائها، لمشاركة عالمها، من دون أن يكونوا جزءاً من المشهد. فنبقى مشاهدين حياديين كالمصباح الذي لا يطلق أحكاماً قيمية، أو كصوت راوي المشهد في القصيدة، الذي يتتبع ويشاركنا بانطباعاته دون السماح لأي شيء من خارج الغرفة أن يدخل أو يتدخل في ما يراه. لا أحكام، لا أعراف، لا أفكار مسبقة، ولا حتى غيرة أو لوم أو عتاب.

"وحوارُ نهودٍ أربعة"

في وصف نزار للقاء نتتبع تفاصيل أحداثه من فضاء الغرفة، إلى الحلى والملابس المرمية على الأرض، ومنها، ببطء، للزر الذي يغادر عروته، معلناً اللقاء الجسدي بينهما. الحجرةُ فوضى.. فحُليُّ تُرمى.. وحريرٌ ينزاحُ ويغادرُ زر عروتهُ بفتورٍ، فالليلُ صباحُ تصف القصيدة اليد والنهد والثغر دون أن تسمي أياً منها، وتحجم عن "الإيضاح"، كأنها مارست رقابة على نفسها، ولم تشأ إثارة المزيد من الهجوم ضد القصيدة/الموقف. ثم تقول في وصف علاقتهما: وحكايةُ حبّ.. لا تُحكى في الحبِّ، يموتُ الإيضاحُ وفي وصف المشهد برقة، بأنه حكاية حب "لا تحكى"، تتماهى عبثية التعبير عن مشاعر الحب، مع التحريم الاجتماعي للاعتراف بعلاقات الحب.

وقد يبدو من الغريب أن القصيدة تسمي المرأتين رفيقتين، وليس حبيبتين، وتخاطب إحداهما الأخرى "بأختاه". ما معنى ذلك؟ القصيدة هنا تردد القلق الذي تعيشه المرأتان، خصوصاً أن إحداهن تناشد الأخرى ألا تضطرب، فهل كانت تبكي خائفة أو غير موافقة تماماً على لقائهما؟ يا أختي، لا.. لا تضطربي إنيّ لكِ صدرٌ وجناحُ ترفع القصيدة اللقاء بين المرأتين إلى أعلى درجات المودة والتعاطف والحنو و"الأخوة"، فهما في هذين البيتين، إنسان خائف وآخر يضمه ويَعِدُهُ بأنه سيسانده ويحميه. وهنا في قلب هذا التلاحم بين الاثنتين، تسأل القصيدة على لسان إحداهما السؤال الصعب: أشذوذٌ.. أختاهُ إذا ما لثم التفّاح التفاحُ دون أن تعطي القصيدة جواباً، أو شرحاً، ينهي نزار قصيدته بالبيتين الأولين. وبذلك يختتم المشهد كما بدأ. في غرفة في تشرين، ومطر في الخارج يعيدنا لسرية لقائهما، وربما يذكرنا بأننا خارج هذه العلاقة، وبأننا في الحديث عنها، وأكثر من ذلك، في تقييمها وفي فرض آرائنا عليها، فنحن نتلصص على فضاء ليس من حقنا أن نكون فيه. وبذلك لا نجد تبريراً لإقحام مشاكلنا وقوانيننا ومحرماتنا في علاقة حميمية وشخصية وخاصة إلى أبعد الحدود.

تترك القصيدة المرأتين، كما تتركنا في ختامها، خارج الغرفة. جرأة نزار على التغني بحادثة مثلية بين امرأتين لا مثيل لها في الشعر العربي، قديمه وحديثه. لكنها أيضاً تعبير عن نسق كان دائماً جزءاً من المجتمع العربي، ولو أنه قلما تم التركيز عليه أو التعبير عنه، هو الانفتاح والتنوع وقبول الاختلاف، مع أن النسق الأقوى حضوراً هو التعسف والقمع الاجتماعي والتعصب.

في القصيدة موقف محايد إن لم يكن منفتحاً ومحباً، وهو ما يدور في قلوب وخواطر الكثيرين تجاه علاقات الحب، سواء كانوا مثليين أو مثليات أم لا. اختتم بعنوان القصيدة: "الشريرة"، الذي يضعنا وجهاً لوجه مع التعصب في أفكارنا المسبقة، ويعرّي ممارسة إطلاق الأحكام من أي شرعية.

العنوان دون شك يدعونا للتأمل بمشاكلنا وتعصبنا عند تناول القصيدة وقراءتها، هذه المشاعر التي تصبح هي نفسها الإطار الذي نتعرف من خلاله على قصة لقاء بين امرأتين هو في جوهره وتفاصيله قصة حب، مثله مثل قصة أي عاشقين يلتقيان سراً، بعيداً عن عيون الناس وألسنتهم، وفي منأى عن تعصبهم وآرائهم وثرثراتهم. ألهمت أشعار نزار قباني وكلماته الملايين من معجبيه وقرائه، الذين قبلوا معه نقد السياسيين والتغني بالعشق، وتحدي المحرمات. فهل تكون قصيدته عن المثليين دعوة لأولئك المعجبين، وغيرهم من القراء، لقبول كل أشكال الحب بدون أحكام قيمية مسبقة؟ وهل هي دعوة لإعادة النظر في سلم القيم الأخلاقية التي تتبناها مجتمعاتنا في الموقف من ممارسة الحب، والعلاقة بين المحبين؟

يخفي النص خلفه أكثر مما يظهر، ويثير أسئلة مضمرة أكثر مما يقدم أجوبة. ولعل من أهداف "القصيدة الشريرة" أن تثير القارئ/ـة، وأن تدفعه بقوة إلى التساؤل من جديد حول ما ورثه من أحكام وأفكار في مجال الحب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image