منذ صباح يوم السادس عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر، تنشغل السيدة مريم منصور، أم ميشيل، من قرية عابود وسط الضفة الغربية، بتحضير المواقد والأواني استعداداً لبدء طبخ حلوى "البربارة"، لتكون جاهزة في عصر اليوم، كي تقدّمها إلى أهالي القرية وزوارها، في أهم الأعياد لأهالي القرية وهو عيد "القديسة بربارة".
تضع أم ميشيل (65 عاماً) قدراً كبيراً من القمح المقشّر والمنقوع منذ يوم أمس في القدر، وتنتظره حتى يغلي: "لا يحتاج لوقت طويل لينضج فالنقع ليوم كامل يقلل مدة الطبخ"، قالت في حديث لرصيف22.
بالفعل بعد ساعتين فقط، بدأت المرحلة الثانية من إعداد هذه الحلوى وهي إضافة اللوز فالزبيب. ولا تأخذ "البربارة" هيئتها النهائية قبل إضافة البهارات الخاصة التي تملأ رائحتها المكان، القرفة والشومر واليانسون المطحون، اختلاط هذه الروائح هي هوية البربارة الحقيقية.
تنتظر أم ميشيل بعد إضافة البهارات دقائق لتضيف المكون الأخير، وهو السكر، وخلال ذلك تحدثنا عن ارتباطها بهذه الأكلة التي تشكل هويّة خاصة لهم، أبناء القرية التي عاشت بها هذه القديسة.
وبربارة، بحسب الرواية الدينية، عاشت قبل حوالي 1800 عام في آسيا الصغرى "نكدونيا"، ورغم وثنية والدها، فقد اعتنقت المسيحية ورفضت العودة عنها، فهربت إلى فلسطين، وهناك لحقها والدها وحاول قتلها أكثر من مرة، إلّا أنه لم يستطيع، فهربت إلى التلة المرتفعة في قرية عابود، واختبأت هناك حتى استطاع والدها إيجادها وقتلها في عام 236 للميلاد، في نفس المكان.
ورغم أن كل مسيحيي فلسطين يحتفلون بهذا العيد، إلا أنه في هذه القرية له خصوصيته، فمسيحيو القرية يعتبرون أن القديسة بربارة تنتمي لهم، والمقام الذي عاشت فيه في أعلى التلة المقابلة للقرية، يذكرهم بذلك دوماً.
تقول إم ميشيل إن طوال حياتها كانت البربارة جاهزة في بيت والدها ومن بعده في بيتها خلال يومي العيد، ولكنها لا تبتدع الكثير في طريقة التزيين، فهي تقدّمها كما كانت والدتها وجدتها من قبل، دون مكسرات أو حلوى ملونة.
وتتابع: "كنا نعدّها في البيوت فقط، ونوزعها على جيراننا المسلمين، الذين أصبحوا مع الوقت يقومون بإعدادها أيضاً في العيد، ولكن أجواء العيد لم تكن كما هو الحال في السنوات العشر الأخيرة".
هذا التغير كان بانتقال الكاهن عمانوئيل عواد إلى القرية، خادماً لرعية اللاتين فيها، والذي أخرج هذه الحلوى من بيوت القرية إلى شوارعها وساحاتها لتصبح طقساً جماعياً للقرية وكل فلسطين.
القمح ملاذ بربارة
ولكن لماذا القمح في هذا العيد؟ يجيب على ذلك الكاهن عواد، بينما كان يتفقد النسوة خلال إعداد البربارة: "الرواية تقول إنه عندما هربت ألحقها والدها بجنود ليلقوا القبض عليها، فاختبأت بحقل من سنابل القمح واختفت بينها، دون أن تنحني هذه السنابل أو يظهر أثر لأقدام القديسة، وبقيت بين السنابل لأيام قبل أن تصل لعابود".
بدأت النسوة يجتمعن شيئاً فشيئاً عند الساعة الثانية قبل العصر، وعليهن الإسراع في السكب والتزين الذي يحتاج لوقت أيضاً.
نورة خوري، سيدة في الخمسينيات من عمرها، أنهت عملها في المدرسة التي تعمل بها وأسرعت لتساعد أم ميشيل وباقي النسوة. بينما كانت تزين الأطباق المصفوفة بالحلوى الملونة، قالت إنها أعدت كمية كبيرة من البربارة في منزلها صباحاً، لتحملها ابنتها، التي تعمل في إحدى المختبرات الطبية في رام الله، لزملائها.
تحدثت خوري بفخر عن تزيينها الخاص لحلوى البربارة، ففي العادة، وهو ما قامت به النسوة في القاعة التي كنا فيها، يتم تزين البربارة بطحين القضامة (نوع من المكسرات، ثم الجوز المطحون والحلوى الملونة "الملبّس")، ولكنها هي تزينها بحبوب الرمان والمشمش المجفف.
خلال سكب البربارة، اقترحت خوري عدم سكب كل الكمية التي طُبخت، مشيرة إلى أن البعض لا يحبها باردة، وبتفصيل أكثر، هناك عائلات في القرية تشتهر بأكل البربارة ساخنة، بينما العائلات في الحارة " التحتا" تفضلها باردة، إذن لا قاعدة لأكل البربارة، فهي تؤكل ساخنة وباردة.
عند الساعة الثالثة، كانت مئات الأطباق المزينة والجاهزة للأكل، مصفوفة على الطاولات في القاعة الكبيرة، بانتظار أهالي القرية وزوارها، وذلك بعد انتهاء الصلاة العيد في كنيسة "رقاد العذراء"، أقدم الكنائس الثماني في القرية.
الاحتلال لاحق بربارة أيضاً
في السادس عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر، شاركنا نحن وجميع مسيحيي ومسلمي القرية وزوارها من الخارج، في المسيرة السنوية من قلب البلدة إلى مقام القديسة بربارة، أي الكهف الذي تقول الرواية الدينية التاريخية إنها كانت تختبئ به.
تقدّم المسيرة الكاهن عواد، حاملاً الصليب وأيقونة القديسة "بربارة"، مؤكداً أن هذه المظاهر، من المسيرة إلى أكل البربارة بشكل جماعي وتقديمها لروح القديسة الشهيدة، ليست من التقليد الكنسي.
والتقليد الكنسي الذي يتحدث عنه الكاهن عواد في هذا العيد، يحتفل به وفقاً للتقويم الغربي في الرابع من كانون الأوّل/ ديسمبر، بينما الاحتفال به وفقاً للتقويم الشرقي هو في 17 كانون الأوّل/ ديسمبر، حيث يبدأ العيد مع غروب اليوم السابق، 16 كانون الأوّل/ ديسمبر، بصلاة الاستعداد للعيد، ويكون العيد صباح اليوم الثاني بصلاة العيد والاحتفال به.
يقول الكاهن عواد إنه أراد من مظاهر الاحتفال هذه تحويل هذا العيد إلى يوم وطني للقرية، ومناسبة للتأكيد على انتمائهم كمسيحيين لهذه الأرض والكنائس والقديسين، ورفضاً لكل محاولات الاحتلال تدميرها وفصلها عن القرية.
ففي العام 2002 تعرض المقام الواقع على أعلى التلة لمحاولة تفجير، عندما قام الاحتلال بقصفه وتدمير جزء كبير منه، وهو ما أستدعى سنوات لإعادة ترميمه وفتح الطريق الواصل إليه.
هذا الترميم كان بالكامل، كما يقول الكاهن عواد، بجهود من الكنيسة وأهالي البلدة، وهو ما يطرح غياب الاهتمام الرسمي بهذه المزارات والكنائس وإهمال لقيمتها التاريخية والدينية، كي لا تترك فريسة للاحتلال.
منذ صباح يوم 16 ديسمبر من كل عام، تنشغل نسوة قرية عابود الفلسطينية، بتحضير المواقد والأواني استعداداً لبدء طبخ حلوى "البربارة"، لتكون جاهزة في عصر اليوم، كي تقدّم ‘لى أهالي القرية وزوارها، في أهم الأعياد لأهالي القرية، ألا وهو عيد "القديسة بربارة"
في يوم عيد "القديسة بربارة" يشترك جميع مسيحيي ومسلمي القرية وزوارها من الخارج، في المسيرة السنوية من قلب البلدة إلى مقام القديسة بربارة، أي الكهف الذي تقول الرواية الدينية التاريخية إنها كانت تختبئ به
بربارة في الموروث الشعبي
ورغم ارتباط البربارة بالمسيحية، إلا أن لها نصيبها بالموروث الشعبي الفلسطيني، كما ويعتبره الفلاح الفلسطيني مواعيداً لمواسم الزراعة، كما يقول الباحث بالحكايات والموروث الشعبي الفلسطيني، حمزة عقرباوي، بأنها طقس شعبي مرتبط بالفلاحين في كل فلسطين.
ومن ذلك ما نجده عن برباره القديسة من أهازيج شعبية باللهجة الفلاحية:
بربارة تبربكتي... عند الله تمخترتي
أبوكي هالكافر... عبّاد الحجارة
جاب السيف يذبحكي... صار السيف صناره
جاب الحبل يشنقكي... صار الحبل زنّاره
جاب الجمر يحرقكي... صار الجمر بخوره
هذه الأبيات التي يحفظها كثير من فلاحي فلسطين القدامى، تلخص القصص الشعبية عن حياة القديسة، عندما حاول والدها قتلها، ففي قرية عابود لا يزال الأهالي يتذكرون مكان منتزه القرية، حيث يُعتقد أنها حجارته قد حرقت عندما حاول والد بربارة حرقها.
كما ارتبط موعد هذا العيد بالكثير من الأمثال الشعبية، منها: "في عيد بربارة بتطلع المية من خزوق الفارة"، لكثرة المطر في تلك الفترة، وفي إشارة إلى طول النهار بعد هذا العيد، يقول المثل: "في عيد بربارة بطول النهار غباره".
امتداداً لذلك، يقول عقرباوي: "كثير من القرى الفلسطينية، وحتى تلك التي لا يعيش فيها مسيحيون، تعيش طقوس البربارة، ولكن مع الوقت اختفى الاسم وفقدوا القصة، ولكنهم حافظوا على الطقس والممارسة التي توارثوها أباً عن جد".
يشير عقرباوي إلى أن كل فلاحي فلسطين، في أي مناسبة احتفالية لها بُعد طقسي يعدّون بربارة القمح المطبوخ، مثل السنينة (بروز أول سن لدى الطفل) أو احتفال النسوة بإتمام صيام الأيام الستة من شهر شوال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين