يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
لم يكن يومًا شارع محمد محمود وِجهة سياحية يقصدها الزائرون، كونه لا يضم أيًا من آثار القاهرة القديمة، أو شيئًا ممّا تعتمد عليه مصر في جلب السائحين إليها؛ فلا هو ينتمي إلى العصر الفاطمي المعروف بنقوشِه الإسلامية البديعة، ولا هو تابع للدولة الأيوبية ذات المباني الشاهقة، وبالطبع لا يمتّ بِصِلة إلى العصر الفرعوني ذي التاريخ المشهود على مرّ الزمان. لكن عامين فقط مرّا عليه جعلا منه اسمًا لن ينساه الحالمون بغدٍ أفضل من أبناء جيل ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011، حين شهدت أمتارُ ذلك الشارع على قطرات الدماء التي نزفها رفقاؤهم، ومحاولات الكرّ والفر مع رجال الشرطة.
يتفرع شارع محمد محمود من ميدان التحرير. على ناصيته من جهة اليمين مبنى الجامعة الأمريكية، وعلى اليسار المطعم العالمي الشهير "هارديز". تلك البداية الأرستقراطية للشارع تنتهي -للمفارقة- بخلفية شعبية معظم سكّانها من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وهم القاطنون بمنطقتي "عابدين" و"باب اللوق".
نظرة على تاريخ الشارع
أرض شارع محمد محمود كانت ضمن المجرى الذي تدفقت فيه مياه النيل قرونًا عديدة، وعندما انحسرت مياه النيل في القرنين السادس والسابع الهجريين، ظهرت أرض الشارع وما حولها، وأضحت مستقرًا للفلاحين الذين يزرعونها بعد انتهاء الفيضان، معتمدين على طريقة التلويق (وضع البذور ثم ضغطها بألواح الخشب لتختفي في باطن الأرض الموحلة)، ومن هنا أتى مصطلح "باب اللوق"، الذي تحمله المنطقة المحيطة حتى الآن.
يقول الكاتب حمدي أبو جليل في كتابه "القاهرة... شوارع وحكايات"، إن المنطقة تم إخلاؤها من الفلاحين، "فقد اختارها السلطان الظاهر بيبرس، قاتل السلطان قطز، لإقامة جنود وعائلات التتار الذين انضموا إليه بعد دحر قادتهم في عين جالوت. بيبرس لم يعتقل فلول التتار في أرض الشارع والمنطقة، ولكنّه سمح لهم فقط بالعيش فيها تحت نظره حتى يأمن شرّهم".
وظلّ الشارع يعاني أوضاعًا بائسة على مدى قرون، حتى بدأت بشائر الاهتمام به حين اختار الفرنسيون إبان حملتهم على مصر منطقة قريبة منه لتكون مكانًا لمعهدهم العلمي الذي مازال باقيًا حتى الآن.
تتقدمون بضع خطوات داخل الشارع، وتقتربون من مدرسة "ليسيه الحرية"، لتجدوا أسوارها تحمل صورًا لشهداء أحداث "محمد محمود 1" التي كانت في التاسع عشر من نوفمبر لعام 2011، و"محمد محمود 2"، في نفس الأيام من العام الذي تلاه
ويشير أبو جليل إلى أنه بعد مشاورات طويلة، اختار الخديوي إسماعيل أرضًا من الشارع والمنطقة المحيطة لتحقيق حلمه الأوروبي، وليجعلها قلبًا لعاصمته الحديثة، فأمر بإزالة البِرك والمستنقعات والقاذورات منها، ثمّ شرع في تنظيمها وإعادة تخطيطها وإنارتها بفوانيس الغاز.
من هو محمد محمود؟
جرت العادة أن تحمل الشوارع أسماء أصحاب المناصب الرفيعة الذين تركوا أثرًا في البلد الذي عاشوا فيه، وفي غالب الأحيان يحملون تاريخًا نضاليًا مشرفًا، قد يُختلف عليه فيما بعد، حين يقيّمه التاريخ بنظرة أخرى أكثر تعمقًا. ولكن يظلّ الاسم ثابتًا على واجهة المكان، حتى وإن جرى تغييره بعد ذلك، تجد البعض يعرفونه بسيرته الأولى.
في الرابع من أبريل لعام 1877 ولد محمد محمود باشا لأسرة سياسية عريقة، بمنطقة ساحل سليم بمحافظة أسيوط، والده كان من كبار الإقطاعيين (يملك 1600 فدان)، وكان وكيلًا لمجلس شورى القوانين، وتقول بعض الروايات، إنه كان مرشحًا من قِبل الإنكليز لتولي سلطنة مصر، بعد سقوط العثمانيين؛ لذلك كان يتباهى ولده بمحمد قائلًا: "أنا ابن الذي رفض ملك مصر".
محمد محمود باشا
تلك الخلفية الإقطاعية لمحمد محمود باشا، لم تُثنِه عن الدفاع عن الفقراء، والمطالبة بجلاء المحتلّ البريطاني، حين كان أحد الرجال البارزين في ثورة 1919، عندما اجتمع في منزله الزعماء سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، وأحمد لطفي السيد، ليلة الثامن عشر من سبتمبر لعام 1918، لدراسة موقف مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وبعد أشهر قليلة كان محمد محمود باشا ضمن الوفد المصري المسافر إلى أوروبا لعرض قضية استقلال مصر.
رغم تلك الأحداث الدامية، لم يخلُ الشارع من مظاهر جمالية، تركها الشباب على جدرانه تخليدًا لثورتهم؛ فستجدون في مقدّمته، تحديدًا على سور الجامعة الأمريكية صورة شاب مرسومة بطريقة الغرافيتي، لكن عينه اليسرى مفقوءة، وعن يمينه ويساره الكثير من الشعارات
بعد عشر سنوات من ذلك الاجتماع، ألّف محمد محمود وزارتَه الأولى التي عرفت بـ"اليد القوية"، نظرًا لشدّة قراراته ضد الوفديين، وتعطيله العمل بالدستور، ثمّ في عام 1937 شكّل وزارته الثانية، واحتفظ فيها بوزارة الداخلية، وبعدها انتقل لرئاسة المعارضة في البرلمان، -وفقًا لما جاء في كتاب "القاهرة.. شوارع وحكايات"- إلى أن توفي في الأول من فبراير لعام 1941.
محمد محمود أم عيون الحرية؟!
"مفيش خلاف إن أي واحد بيدخل شارع محمد محمود بيكون مجهّز نفسه كويس: نظارتك معاك.. كمامتك.. كوفية تقيلة حوالين رقبتك.. غطا للرأس تحسبًا للخرطوش (نوع من الطلقات يطلقها الأمن).. واللي غاوي يهاجم مخير وسيلة للدفاع يبقى معاه طوب".
تلك التوجيهات لكيفية دخول شارع محمد محمود، ليس لمن يريد التسكع فيه حاليًا؛ لكنها كانت معلومات هامة يتداولها أبناء يناير، وفقًا لما رواه الكاتب عمرو عز الدين، في كتابه "على البحر ثورة بتتمختر".
أما الآن، فما إن تطأ أقدامُكم شارع محمد محمود، حتى تجدوا لافتة تحمل اسمًا جديدًا للشارع، وهو "عيون الحرية"، الذي أطلقه شباب يناير عليه، بعدما شهد أحداثًا دامية، خلفت إصابات لأكثر من شابّ، كلها تتمثل في فقد إحدى عيونه، جراء رصاصات رجال الشرطة، وذلك عقب عشرات الجولات من الكرّ والفرّ بين الشباب والأمن، خاصة في المرات التي كانت فيها المظاهرات تتجه للتنديد بوزارة الداخلية التي تقع في شارع متفرع بعدة أمتار من "محمد محمود".
أحد المتظاهرين يرفع لافته شارع محمد محمود في أحداث محمد محمود وعليها دماء من شهداء ومصابين
رغم تلك الأحداث الدامية، لم يخلُ الشارع من مظاهر جمالية، تركها الشباب على جدرانه تخليدًا لثورتهم؛ فستجدون في مقدّمته، تحديدًا على سور الجامعة الأمريكية صورة شاب مرسومة بطريقة الغرافيتي، لكن عينه اليسرى مفقوءة، وعن يمينه ويساره الكثير من الشعارات التي كانت متداولة في العامين الأولين للثورة (2011ــ2012)، مثل: "عيش حرية عدالة اجتماعية"، و"وقلناها زمان للمستبد: الحرية جاية لا بد".
تتقدمون بضع خطوات داخل الشارع، وتقتربون من مدرسة "ليسيه الحرية"، لتجدوا أسوارها تحمل صورًا لشهداء أحداث "محمد محمود 1" التي كانت في التاسع عشر من نوفمبر لعام 2011، و"محمد محمود 2"، في نفس الأيام من العام الذي تلاه، حين نزل الثوار لإحياء الذكرى الأوّل فخسروا شهداء آخرين، لذلك كان طبيعيًا أن تجدوا سؤالًا مكتوبًا على أحد جدران الشارع لم يتلقّ الإجابة حتى الآن، وهو: "بأيّ ذنب قُتِلوا؟!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.