يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22 والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
كلّ شيء ينصهر، يتشابك، ويتصارع هنا في شارع "محمّد الخامس" بالرباط. لا تؤتث هذه البقعة الإسفلتية مشهداً يتيماً مكرراً، بل تختزن الكثير من الصور واللقطات المركبة؛ فضاء يسع كلَّ المغاربة على اختلاف أصواتهم وألوانهم وطبقاتهم، بمزيدٍ من الحياة التي تمضي بلا توقف.
"هايد بارك" المغرب
تستقبل الرباط زوّارَها بشعار "عاصمة الأنوار". في الساعات الأولى من الصباح تنطفئ الأنوار، يخرج العمّالُ والمياومون من "جحورهم"، وأقفاصهم الإسمنية باتجاه محطة القطار بشارع محمد الخامس.
أمام المحطة، جلستُ أتأمل العابرين والخارجين منها؛ أشكال وألوان مختلفة، لكنّ الأجساد توحي بأنها في قالب واحد، فتمضي بشكل طبيعي في اتجاه واحد، ومصيرٍ واحد: العمل.
إنه يوم الاثنين؛ هو "لعين" بالنسبة للموظفين والعمال. وجوههم تؤكد ذلك: عابسة، باردة، بملامح مركبة تشي بالحيرة والامتعاض والمزاج السيء.
عندما يضيق الحال، ويشتدّ أكثر، يكون الحلّ بالنسبة إليهم هو الاحتجاج، لذا خُلِقَت ساحة في مواجهة مقرّ البرلمان، أو "هايد بارك المغرب"، ولكن عندما لا يستجيب البرلمان والحكومةُ، ،يكون ردُّ المحتجّين:" عْلِيكْ لَامَانْ لَامَانْ (عَلَيْكَ الأمان)... لا حكومة لا برلمانْ" يصدح صوت المتظاهرين عالياً، الشعارات فضفاضة مثل "الحرية" و"العدالة" و"الكرامة الإنسانية"، لكن "الخبز" هو أُسُّ المطالب.
يمرُّ مواطن عابر من جانبي، ليهمس بأذني قائلاً: "هَادُو أَخُويَا غِيرْ كَايْنَاضْلُو على خبْزتْهُمْ، مَاكَايْنْ لا حرية، لا عدالة لا كرامة" (هؤلاء يناضلون من أجل تحسين معيشتهم، لا توجد لا حرية ولا كرامة).
يتجاهل المارّة الاحتجاجات الفئوية تارة، وتارة أخرى يتفاعلون،لكنهم في الغالب يتّهمونهم بـ"الوصولية" و الانتهازية"، واستعراض خطاب المظلومية في الشارع من أجل كسب تعاطفهم، غير أنّ مشاعر ونظرة "الشفقة" تبقى حاضرة، خصوصاً عندما يُسْحَلُ المتظاهرون، ويتمّ تعنيفهم من قبل قوات الأمن.
لم يصنع هذا الشارع الرباطي روتيناً احتجاجياً فئوياً لكلّ المغاربة، بل خلق حالة أقرب من الثورية إبان ما عرف بـ"الربيع العربي" عام 2011 مع حركة 20 فبراير. كان آنذاك الشارع لا يفتر ولا يملّ من صخب المحتجّين ليل نهار. الشعارات كانت واضحة، والمطالب كانت ثقيلة ومزلزلة، وأيضاً رومانسية. والآن لم يتحقّق منها أيّ شيء، إلا أنّ روح هذه الشعارات ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
وجوه و طبقات
جلس بجانبي شخص خمسيني. سرق تأمّلاتي للكتل البشرية. كان حانقاً بسبب جَالِسٍ عابرٍ "احتلّ" مكانه على الكرسي العمومي لهنيهات وجيزة. شكله يوحي بمخمليّته و برجوازيته (على حدّ تعبير اليساريين). الأمر واضح على المستوى الشكلي: شعر أبيض مصفوف بعناية، ويرتدي تيشيرتاً وسروالاً من ماركة عالمية، وعطر فَوَّاح شبابي.
تَحَدَّثَ إِلَيَّ بكلمات سريعة وغير مفهومة بالشكل الكافي، وكأنه يريد أن يُفْصِحَ عن أسرار غير مسبوقة. ثمّ أعاد كلامه بعد أن شمَّ ما تيسّر من بودرة بنّية أشبه بالكوكايين. لم يكن ينظر حوله، أو يخشى عيون الشرطة أو المتلصصين، بل كان مسترخياً غيرَ مكترثٍ لأحد.
يقول الجالس: "وضعتُ أشيائي في مكاني على هذا الكرسي، ورغم ذلك يأتي شخصٌ كهذا ليحتلّه. مثل هؤلاء الأجلاف لا يصلح معهم إلا "الزرواطة" (العصا) ليكونوا منظّمين... ثمّ يطالبون بالحقوق وبالثروة... اللعنة!".
تأملتُ كلام هذا الشخص الخمسيني،المثقل بالإهانة والعنصرية والتمييز الطبقي تجاه فئة من المغاربة، ثمّ تساءلت: هل كان محقّاً؟ أم أن البودرة فعلت فعلتها؟!
الشارعُ بشكلٍ عام ليس للمخمليّين فقط، أو للمنتمين إلى الطبقات المرفهة اجتماعياً، بل حاضنٌ للطبقات الشعبية والفقيرة أيضاً؛ حتى المتسولون لهم حضور في هذا الفضاء المكاني، ورغم محاولات السلطات المحلية طردهم، إلا أنهم يعودون ويمارسون أشكالاً مختلفة من الاستجداء أو التعاطف؛ منهم من يختلق قصة من خياله عن حاجته لمساعدة للعلاج، أو لمبلغ مالي ليسافرَ إلى قريته، ومنهم من يطلب منكم شراء مناديل بأسلوبٍ لا يخلو من طلب الإحسان.
على الأرصفة يعرض شابٌّ عشريني عضلاته الفنية؛ أغانٍ و مقاطع موسيقية غربية و أخرى مغربية، مع قليل من فنّ "الراب" المتمرد، يحرّكها عزف موسيقي بآلة الغيتار، دون تسوّل أو طلب للإحسان، لكن هؤلاء العازفين ممنوعون في نظر القانون
توجّهت ناحية بناية البريد ذات التصميم الأوروبي. صادفت سيدتين ترتديان جلباباً بألوان محايدة. تحملان ملفاً مغطّى بكيس بلاستيكي. كانتا تلوكان الحديث على سبيل طرد مللِ انتظار المصالح الحكومية، في مدينة لا صوت يعلو فيها فوق صوت البيروقراطية.
بجانب السيدتين، وقف أشخاص يبدو من هيئتهم وملامحهم انتماؤهم لدولِ جنوب الصحراء، زوايا الشارع لا تخلو منهم، إما كمتسوّلين بوضعية غير قانونية، أو كمقيمين لهم وضعهم الاجتماعي مثل عموم المغاربة، الآن يذوبون رويداً رويداً، بقليل من العنصرية وبنظرة مغربية بدأت تتقبل (وإن على مضض) اندماجَهم داخل نسقها.
فنّ الشارع عدوُّ السلطة
كلُّ الأصوات تختلط في الشارع، بدءاً من صياح المحتجين، إلى هديل الحمام الممتزج بصخب السيارات، لكن موسيقى فنّ الشارع جاءت لتكسرَ رتابة هذه الأصوات وتخلق جوّاً حميميّاَ مع المارة.
على الأرصفة يعرض شابٌّ عشريني عضلاته الفنية؛ أغانٍ و مقاطع موسيقية غربية و أخرى مغربية، مع قليل من فنّ "الراب" المتمرد، يحرّكها عزف موسيقي بآلة الغيتار، دون تسوّل أو طلب للإحسان، لكن هؤلاء العازفين ممنوعون في نظر القانون، إذ ينصّ القانون في المغرب على ضرورة توفّر الترخيص المسبق لأيّ فنان يرغب في الأداء الفنّي في الأماكن العامة.
السلطة الحكومية تنظر إليهم بحذر، وتخشى من أيّ فعل يضرّ بالأمن العام أو التجمهر،خصوصاً أن هؤلاء الشباب استطاعوا أن يكسبوا جمهوراً يلامس أفكاره وهمومه اليومية والوجودية، وأن يعبّر عن مشاعره المركّبة.
لم تتوانَ السلطات الادارية والأمنية في سَجن عازِفَيْنِ بالدارالبيضاء خلال السنة الماضية، بسبب خلافٍ وقع إثر مصادرة آلاتهما الموسيقية؛ خطوة كهذه كانت سبباً في إطلاق حملة واسعة على "السوشال ميديا" تحت مسمّى"الفن ليس جريمة"، وزادت من تعاطف الجمهور مع هذا الفنّ، رغم تمرّده على ما هو سائد من أنماط غنائية.
بَصّاتٌ سريعة على سبيل الختم
يحمل شارع محمد الخامس في جُعْبَتِه الكثير من الأماكن والفضاءات، بدايةً من البنايات ذات الطابع الأوروبي التي خلفها الاستعمار الفرنسي، والمبنية بلمسة "أرت ديكو"، إلى المحلات الزجاجية المتموقعة أسفل هذه البنايات، حيث تباع الملابسُ الجاهزة "الكلاس" والغالية نسبياً، ثمّ حديقة البريد، حيث يجتمع المتظاهرون قبيل انطلاق مسيراتهم ووقفاتهم، وهذا دون إغفال مبنى البريد والتلغراف المقابل لمقرّ بنك المغرب.
في وسط الشارع، تتربّع محطة القطار المشهدَ بديكور عتيق يعود للحقبة الاستعمارية الفرنسية. بجوارها "ترام واي" حديثٌ تنافس موسيقى جرسِه الناعمِ صوتَ الأذان الصادر من المسجد، ويتسيد الصورة بصومعة بنية ومتعالية بتصميم قروسطي.
لم يصنع هذا الشارع الرباطي روتيناً احتجاجياً فئوياً لكلّ المغاربة، بل خلق حالة أقرب من الثورية إبان ما عرف بـ"الربيع العربي" عام 2011 مع حركة 20 فبراير
أما بقية الأماكن الفرعية، فتشمل المقاهي والبارات بروائحها وديكوراتها المختلفة، في حين يفرض الفنُّ السابع كلمته بصالة "رونيسونس، وطبعاً لا طعم لهذا الشارع بدون المكتبات الكبرى، وأيضاً الأكشاك المنتشرة هنا وهناك على طول الارصفة.
يأخذ مقرُّ البرلمان حيّزاً مهماً من الشارع بواجهته المهيبة شكلياً. ينتصب أمامه بشياكة عتيقة فندق ومقهى "باليما" (المغلق حالياً بسبب الترميم)، وهو المحتضن التاريخي لنشاطات ونقاشات المثقفين والمناضلين والفنانين والصحفيين.
تتوسط المبنييْن ساحةُ البرلمان. هنا لا يتردّد الحمام في ملءِ الخواء الذي يتركه المتظاهرون، باستعراض تحليقاته الرشيقة أمام الجالسين على الكراسي العمومية، دون كلل ولا ملل، غير آبِهٍ بترهلات الزمن والمكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...