خلال العام الماضي تخرجت الطالبة سناء من إحدى كليات الآداب التابعة لجامعة غزّية حاملةً شهادتها الجامعية وذكريات كثيرة كان من المفترض أن تكون سعيدة، لو لم تتلوث بموقف تحرش لفظي تطور لاحقاً إلى تحرش جسدي ارتكبه بحقها أستاذها الجامعي خلال عامها الدراسي الثاني.
تروي لرصيف22: "كنت أضطر بين وقت وآخر لزيارة مكتب ذاك الأستاذ حتى أسلّم التكليفات والأوراق البحثية، وكان يتعمّد عدم استلام المطلوب في قاعة المحاضرات، ويجبر الطالبات على الذهاب إلى مكتبه، ليستغل الفرصة للتحرش بهنّ".
تذكر أنه أبدى أكثر من مرّة إعجابه بهيئتها وأثنى على طريقة استخدامها لمساحيق التجميل وقال لها حرفياً: "شو بتعملي لتطلعي بكل هالجمال"، مبيّنةً أن شعورها بالخطر منه دفعها للحديث عن الأمر أمام زميلاتها، ففوجئت بأن معظمهن تعرّضن لمواقف مشابهة من نفس الشخص.
يبلغ ذاك الأستاذ من العمر نحو 50 عاماً وهو متزوج، وفقاً للطالبة التي استمر تحرشه اللفظي بها حوالي شهرين، قبل يتطور الأمر لتعيش أول تجربة تحرش جسدي في حياتها. حدث الأمر يوم أصر على قدومها إلى مكتبه ليستفسر منها عن بضعة أمور، وحاول الإمساك بيدها وأخبرها بأنه يرغب بالزواج بها.
حكاية الشابة سناء ليست معزولة، بل تأتي في سياق حالات توصل رصيف22 إلى كثير منها خلال بحثه في تفاصيل موضوع "التحرش في بيئة العمل الفلسطينية" خاصة في قطاع غزّة.
حكايات لا نهاية لها
قصة أخرى عاشتها الشابة رغد، وهي طالبة لا زالت تدرس على مقاعد جامعة أخرى. تروي لرصيف22 أن أستاذاً كان مسؤولاً عن تدريس بعض المواد السلوكية التي تقع ضمن المقررات الجامعية حاول في مناسبات كثيرة التعرض لها، لافتةً إلى أنها كانت تلاحظ نظراته المريبة التي تلاحقها خلال المحاضرات، كما أنه تودد لها بالحديث وتعمّد التواصل معها على فيسبوك لفتح أفق للكلام.
وتتحدث الطالبة في ذات الجامعة، ريهام (20 عاماً)، عن أستاذ حاول تقديم الأموال لها أكثر من مرة بعد أن عرف بمدى سوء وضع أسرتها الاقتصادي، موضحة أنها رفضت كل عروضه المالية، ثم وصل الأمر إلى قوله لها إنه معجب بها وله رغبة في الارتباط بها، وطلب منها أن تزيل الحواجز في الكلام معه، لأنه يطمح إلى تقوية أواصر علاقتهما في الحاضر والمستقبل.
حكاية شبيهة عاشتها الطالبة حنان (22 عاماً). حتى اللحظة، لا تزال تعيش أثر الموقف الذي شهدته قبل عامين، حين زارت أحد موظفي الجامعة في مكتبه، لإنجاز معاملة، فرمقها بنظرات غريبة بمجرد دخولها مكتبه، واتجه نحوها بخطوات هادئة، ورحّب بها بكلمات حميمية متغزلاً بجسدها، ثم تعمّد لمس يدها بشكل غير لائق.
موظفون حكوميون متحرشون
ونقلت إحدى الصحافيات العاملات في قطاع غزّة لرصيف22 أنها تعرّضت للتحرش اللفظي خلال سعيها للحصول على تصريحات من مسؤولين حكوميين وعاملين في مؤسسات حقوقية محلية ومنظمات دولية. وذكرت أن مديراً في إحدى الدوائر الحكومية حاول التودد لها من خلال دعوتها لتناول وجبة الغذاء في مطعم فاخر يقع على شاطئ غزة، خارج أوقات الدوام، بعد أن اتصلت به للحصول على معلومات تخدمها في تقرير صحافي يتعلق بطبيعة عمله.
وروت صحافية أخرى أن ضابطاً في أحد الأجهزة الحكومية حاول الاتصال بها أكثر من مرة في أوقات مسائية، بعد أن زارته في مقر عمله لأداء مهمة تتعلق بإنجاز موادها الإعلامية، منوهةً إلى أنه تمادى ووصل به الحال لإرسال رسائل بعضها خادش للحياء، ما سبب لها بمشاكل عائلية بعد أن لاحظ زوجها شيئاً غريباً يجري، ولكنها رغم كل ذلك لم تجرؤ على تقديم شكوى.
وروت الشابة جميلة (37 عاماً) أن "موظفاً حكومياً تحرش بها لفظياً خلال زياراتها لمكتبه حين كانت تعمل على إنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بطفلتيها في المدرسة"، وقالت لرصيف22: "تحرشه كان من خلال النظرات والكلام. الأمر كان سيئاً جداً من شخص ملتحٍ يدّعي التديّن، وحسب ما عرفت لاحقاً فهو يقدّم مواعظ في مساجد".
تحرش في مؤسسات صحية وأهلية
قبل سنوات عدّة، شاعت بين أبناء غزّة قصة اعتداء أحد الأطباء على إحدى مريضاته في عيادته واستخدامه أساليب طبية تجعل الإنسان عاجزاً عن المقاومة. وقتذاك، توجهت الشابة إلى الشرطة وقدمت شكوى واستطاعت النيابة إثبات الجرم على الطبيب وحوّلته للمحاكمة.
هذه الفضيحة ليست فريدة من نوعها. روت إحدى العاملات في مركز يُعنى بشؤون المرأة في غزة لرصيف22 أنها اصطحبت قبل سنوات إحدى صديقاتها للمستشفى بعد أن عانت من آلام في أنحاء متفرقة من جسدها، مبينةً أنها لاحظت أن أسلوب كشف الطبيب عليها لم يكن لائقاً فقد "كان يتعمد التحسس لا معاينة المرض"، وتضيف: "صفعته بيدي على وجهه وهددته بالحساب القانوني، ما دفعه إلى تبرير فعله وتوسله عدم نقل الأمر للإدارة".
وشهدت إحدى العاملات في مؤسسة مجتمع مدني محلية قبل أعوام على تحرش أحد الموظفين الكبار في مؤسستها بموظفة وروت أنه أنهى عمل الأخيرة بعدما رفضت التجاوب معه، لكنها لم تستطع الإفصاح لذويها عما حصل معها خوفاً من تداعيات الأمر.
في نفس السياق، سردت خريجة سكرتاريا تدعى ن. ع. أن مديراً في مؤسسة حزبية اتصل بها في مساء أحد الأيام، وأخبرها أن لديهم مركزاً شاغراً في قسم الإعلام، وأنها مرشحة جيدة لملئه، فزارت مقر المؤسسة في صبيحة اليوم التالي لكنها تفاجأت بعدم وجود موظفين سواه في المكان، فتسلل الخوف إلى قلبها وشكّت بشيء مريب.
وأكملت أن المدير استقبلها بحفاوة شديدة منذ وقت وصولها، ومد يده ليصافحها، وحين أشارت له بأنها لا تصافح رجالاً "غرباء"، همس لها بصوت منخفض: "الأمور راح تختلف أكيد لقدام"، فعلا صوتها عليه وهددته بأنها ستفضحه فما كان منه إلا أن حاول تهدئتها بالقول إنها مثل ابنته وهو لم يقصد شيئاً سيئاً. خرجت الشابة من المقر مصدومة.
خوف من الإفصاح
توضح مديرة مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة زينب الغنيمي لرصيف22 أن التحرش في بيئة العمل أمر قائم بشكل عام في المؤسسات الفلسطينية، على الرغم من أن الحالات الموثقة قليلة جداً.
استقبلها المدير بحفاوة شديدة منذ وقت وصولها، ومد يده ليصافحها، وحين أشارت له بأنها لا تصافح رجالاً "غرباء"، همس لها بصوت منخفض: "الأمور راح تختلف أكيد لقدام"
بعد أن زارت صحافية ضابطاً في أحد الأجهزة الحكومية لأداء مهمة تتعلق بإنجاز مادة إعلامية، راح يحاول الاتصال بها أكثر من مرة في أوقات مسائية وتمادى ووصل به الحال إلى إرسال رسائل بعضها خادش للحياء
وتُرجع السبب في تلك الندرة إلى عامليْن أولهما عدم وجود قانون ضامن لحقوق المرأة المتحرَّش بها، فالقانون يطلب إثبات التحرش أو الواقعة، وهذا أمر مستحيل وفقاً لحديث الغنيمي؛ والثاني خوف الفتاة سواء كانت طالبة أو موظفة لدى إحدى المؤسسات أو حتّى مراجِعة في دائرة حكومية من عائلتها والعادات والتقاليد المجتمعية التي تحمّلها الذنب غالباً، وتفرض عليها عقوبات قد تصل حد منعها من الخروج من المنزل إذا لم يصل الأمر إلى التعدي عليها من قبل العائلة.
وتشير الغنيمي إلى أن أشكال التحرش الذي تتعرض له النساء الفلسطينيات تتنوع بين الجسدي واللفظي والإلكتروني، وإلى أن بعض الحالات تكون مغلّفة بوعود بالزواج والارتباط، مؤكدة أن التحرش يعتبر نوعاً من أنواع العنف المبني على أساس الجنس وموجَّه ضد المرأة بسبب جنسها.
وفي دراسة أجرتها الباحثة زينة بركات حملت عنوان "التحرش الجنسي"، أشارت إلى أن التحرش يأخذ أشكال متعددة منها التحرش البصري الذي يضم النظرات الشهوانية والتحديق بشكل يسبب الإزعاج والغمز، والتحرش اللفظي الذي تتوزع أشكاله على التعليقات المهينة والتلميحات الإباحية غير المرغوب فيها والتغزل والتعليقات والنكات ذات الإيحاءات الجنسية، والتحرش الجسدي وأشكاله تتضمن اللمسات غير المرغوب فيها، مثل التربيت والقرص والمعانقة والتقبيل والاحتكاك بجسد الآخر وصولاً إلى الاعتداء الجسدي أو محاولة الاعتداء الجسدي.
قانون فضفاض وغياب آليات المحاسبة
يذكر الباحث القانوني عبد الله شرشرة لرصيف22 أن قانون العقوبات الفلسطيني لم يعرج بشكل مباشر على التحرش الجنسي، فهو لا يذكر المصطلح بشكل مباشر، واستخدم مصطلحات مثل "الأفعال المنافية للحياء بالقوة"، وهذا لا يشمل كل أنواع التحرش.
وعن كيفية إثبات "جرم التحرش"، يوضح أن المادة 206 من قانون الإجراءات الجزائية المحلي، ورد فيها أن التحرش يتم إثباته بوسائل متعددة منها، "اعتراف المجرم، أو عبر الشهود، أو تسجيلات الصوت والفيديو المسجلة بواسطة النيابة العامة، بالإضافة إلى المراسلات الإلكترونية التي تحتوي تلميحاً أو تصريحاً".
وتعليقاً على حالات التحرش التي رصدها رصيف22 في مؤسسات حكومية، قال شرشرة "إن هذا السلوك، إذا تبث، يخضع لنوعين من العقوبات، أولها متعلق بقانون الخدمة المدنية الذي يتيح معاقبة الموظف بـ10 عقوبات وظيفية تبدأ من التنبيه وتنتهي بالفصل من الخدمة؛ وثانيها يتم عبر إحالة الموظف للنيابة العامة، وإصدار حكم قضائي ضده".
وشرح أن مدونة قواعد السلوك وأخلاقيات الوظيفة العامة لم تنص بشكل خاص على حظر التحرش الجنسي، كما لم يعتمد ديوان الموظفين العام في قطاع غزة حتى اللحظة سياسة خاصة بحظر التحرش.
وفي ما يتصل بوضع الجامعات وآلية تعاطيها مع حالات التحرش التي قد تصل إليها، ينوه الباحث القانوني إلى أن معظم الجامعات في قطاع غزة لم تعتمد مدونة سلوك للعاملين لديها، وعدد منها لا يمتلك سياسات خاصة بحظر التحرش الجنسي، وبالعادة يتم التعامل مع هذه القضايا وفق لوائح تصدر عن مجالس التأديب في الجامعات، ولجان تحقيق خاصة.
"التحرش مرتبط بالفساد"
في دراسة أعدّها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) حملت عنوان "التحرش الجنسي في أماكن العمل كشكل من أشكال الفساد"، ورد أن العوامل المساعدة على انتشار ظاهرة التحرش في أماكن العمل الفلسطينية، ترجع إلى: غياب الوعي بمفهوم التحرش وأشكاله، والموروث الثقافي الذي يشكل عائقاً أمام الضحية حين تفكر بالإبلاغ عن واقعة التحرش، وكذلك ضعف الوازع الديني والأخلاقي وعد الالتزام بالقيم والمعايير الأخلاقية داخل أماكن العمل.
وظهر في الدارسة التي أعدّتها الباحثة نائلة رزام، أن التحرش ظاهرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفساد واستغلال المنصب والنفوذ بشكل مخالف للقانون من قبل بعض المسؤولين وأرباب العمل، مستغلين ما يتمتعون به من سلطة ونفوذ، خصوصاً في حالات انعدام الرقابة وآليات المساءلة، وغياب البنية التشريعية والقانونية الرادعة.
*استعان الكاتب خلال إعداد هذه المادة بصحافية ومحامية لتسهيل الحصول على الروايات المتعلقة بالتحرش، في ظل بيئة مجتمعية تحجم الفتيات فيها عن الحديث في مثل هذه القضايا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...