لم يخطر على بال الطالبة نورا سليم (15عاماً) التي تقطن حي الرمال في مدينة غزة أن وصولها للصف العاشر الأساسي سيحمل معه، إلى جانب الفرح بالاقتراب من حلم دراسة الطب، معاناة بدأت معالمها تظهر منذ مطلع العام الدراسي الحالي بعدما مُنعت من المتابعة بسبب عدم ارتدائها "الحجاب".
تقول سليم لرصيف22: "تمّ طردي من المدرسة وأُجبرتُ على العودة للبيت لارتداء الحجاب بدعوى أني أضر بالمظهر العام"، موضحةً أن ذلك الأمر ترك لديها حرجاً كبيراً، وصارت تعاني حالةٍ نفسية صعبة كلما تذكرته، خاصة أنها كما زميلات أخريات تلقت نصائح المعلمات بطريقة توحي كأنها "ارتكبت جرماً كبيراً".
انعكاسات سلبية وأضرار نفسية
الطالبة أسمهان (16 عاماً) عاشت قصةً مشابهة. تروي لرصيف22 أنها استفاقت في بداية العام الدراسي مستعدةً بكل شغف للجلوس على مقعدها برفقة زميلاتها في إحدى المدارس في منطقة غرب غزة، لكنها فوجئت بقيودٍ كانت قد واجهتها من قبل كونها "غير محجبة" وملامح جسدها تبدو "أكبر من عمرها"، موضحةً أن المختلف هذه المرة كان صرامة تلك القيود وعدم قبول أي من المعلمات النقاش في تفاصيلها.
شعرت أسمهان بالإهانة من هذا الكلام الذي كان على مسمع 40 طالبة، فلم تستجب، وفي اليوم التالي تغيبت، لتعود إلى المدرسة بعد يومين من دون حجاب برفقة والدتها. عند الباب، كانت تقف معلمة منعتهما من الدخول.
تضيف أسمهان التي رفضت التصريح باسمها كاملاً خوفاً من عقاب مدرساتها: "لدى صعودي للفصل، جاءت إحدى معلمات التربية الإسلامية، وبدأت تُقدم درساً دينياً شرحت خلاله العقاب الذي يُوقعه الله بغير المحجبة يوم القيامة، وشبّهت كذلك الفتيات غير المحجبات بالحلوى المكشوفة"، لافتةً إلى أنّها بعد ذلك وقفت على مقربةً منها، وطلبت إليها عدم دخول المدرسة في اليوم التالي إلا بحجاب.
شعرت أسمهان بالإهانة من هذا الكلام الذي كان على مسمع 40 طالبة، فلم تستجب، وفي اليوم التالي تغيبت، وعادت إلى المدرسة بعد يومين من دون حجاب برفقة والدتها. عند الباب، كانت تقف معلمة منعتهما من الدخول.
بعد سجالٍ طويل، تمكنت الفتاة وأمها من مقابلة مديرة المدرسة، على أمل أن تشرحا لها ما حدث. "أخبرتنا الناظرة أن هناك قراراً بمنع الفتيات المسلمات من دخول المدرسة بدون حجاب، بينما يتم السماح للمسيحيات بذلك"، تقول أسمهان مبيّنة أن كل المحاولات لإقناع المديرة بعدم قانونية ذلك الأمر فشلت، واضطرتا أخيراً للرضوخ لرغبتها، كما تقول نورا.
بدورها، تخبر الشابة إيمان صابر التي درست قبل ثلاثة أعوام في مدرسة "نور الهدى" الثانوية رصيف22 أن الإدارة رفضت دخولها هي وبعض زميلاتها غير المحجبات واللواتي لا يلبسن "اللباس الشرعي" للمدرسة، مشيرةً إلى أنها حاولت التغلب على هذا الأمر بتقديم طلب انتقال لمدرسة أخرى، لكن طلبها قوبل بالرفض من مديرية المنطقة التعليمية، بحجة عدم وجود مكان.
وتلفت إيمان إلى أن موضوع الحجاب المدرسي وفكرة الالتزام بزيٍ موحد يتجددان بين حينٍ وآخر، ويتسببان بأذى نفسي لكثير من الطالبات، وهذا ما ينعكس على تحصيلهن الدراسي، موضحةً أنها في فترة الثانوية كانت تلبس الحجاب وقت المدرسة فحسب، أما في مرحلة الجامعة فالتزمت بالحجاب عن اقتناع من دون فرض.
مشكلة قديمة... والأسباب سياسية
في العام 2015، واجهت الطالبة مرح نشوان المنع من التسجيل في مدرسة "أحمد شوقي للبنات"، غرب مدينة غزة، بقرارٍ من الإدارة بسبب عدم ارتدائها الحجاب. توجه آنذاك والدها المحامي كارم نشوان إلى "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" ورفع شكوى ضد المدرسة، لكن الأمر لم يُجدِ نفعاً وبقيت الفتاة تعاني من التنمر والإهانة.
وقتذاك، علقت مديرة المدرسة: "هذه قوانين مدرستي التي حصلت على المركز الأول في الالتزام، وأريدها أن تبقى كذلك".
وفي العام نفسه والمدرسة عينها، واجهت الطالبة لينا عبد الغني المشكلة ذاتها، وتعرضت لتوبيخٍ حاد خلال الطابور الصباحي، وهذا ما اضطرها لارتداء الحجاب في اليوم التالي.
وتقول لرصيف22 إن معدلها الدراسي تراجع كثيراً بسبب ذلك الموقف، لافتةً إلى أنها قررت السفر خارج البلاد بعد انتهائها من دراسة الثانوية العامة، لعدد من الأسباب كان ذلك السبب أحدها.
في السنوات الأخيرة، مع تنامي نفوذ "حركة حماس" في القطاع، تصاعدت وتيرة انتقاد إدارات المدارس للطالبات غير المحجبات، من خلال نشر عدد من المدارس نصائح وتوجيهات "تحفيزية" على صفحاتها الخاصة على المواقع التواصل الاجتماعي؛ لأجل الدعوة لارتداء الحجاب وبيان محاسنه للفتاة.
مثال على ذلك ما نُشر في نهاية أيلول/ سبتمبر المنصرم على الصفحة التابعة لمدرسة "بلقيس اليمن الثانوية للبنات" والواقعة في حي "تل الإسلام" غرب مدينة غزة، وهو الحي المعروف بوجود نسبة كبيرة من الفتيات غير المحجبات فيه، وتضمن المنشور قصصاً تحفز على ارتداء الحجاب، وتبيّن العفة التي تحصّل عليها الفتاة إذا التزمته، ووصف الفتيات غير الملتزمات به بالفساد الأخلاقي والبُعد عن الدين.
الإدارة رفضت دخولها هي وبعض زميلاتها غير المحجبات واللواتي لا يرتدين اللباس الشرعي إلى المدرسة... إيمان صابر واحدة من طالبات عديدات في غزة يحكين قصصهن مع فرض الحجاب في المدارس وما يواجهنه من "تنمر وإهانة"
مُدرسة اللغة الإنكليزية اتهمتها أنها تلبس "المنديل الشرعي" للتعبير عن الانتماء لـ"حماس"، ولتشجيع الفتيات على تقليدها، وهددتها بالأجهزة الأمنية... في الضفة الغربية، تعاني الطالبات كما في غزة مع الحجاب لكن بشكل مختلف، فللتقييد أسباب أخرى
يشار إلى أن مدارس غزة عاشت منذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007 محاولات مختلفة لإدخالها ضمن نمطٍ معين وتحويل هويتها لتخدم رؤية الحركة الحاكمة، إذ تم بشكلٍ تدريجي منع المدرسين من العمل في مدارس الفتيات، وفي مرحلةٍ لاحقة فُرضت على عدد من المعلمات قيود منعتهن من ممارسة حرياتهن الخاصة باللباس والشكل، وهذا ما أدى لإقدام بعضهن على ترك العمل وتفضيل البقاء في المنزل.
وقبل أربعة أعوام، قدمت المرشدة التربوية أمل أبو عزيمة استقالتها من إحدى المدارس الحكومية، بسبب خلافات بينها وبين إدارة المدرسة التي تعرضت فيها للانتقاد بسبب عدم التزامها ارتداء "الجلباب"، وقالت المعلمة تعليقاً على ذلك: "تأثرت المدراس كثيراً بالفكر الإسلامي المتشدد الذي حاول بعض الأشخاص زرعه لتقييد حرية الطالبات، والأمر صار لا يطاق بتاتاً".
للتقييد أشكالٌ وأسبابٌ أخرى
الحال في الضفة الغربية ليس ببعيدٍ عن قطاع غزة، من ناحية تقييد حرية الفتيات واللباس والشكل، لكن المختلف هناك هو أن من يواجهن المنع والتنمر هن الفتيات ذوات المرجعيات والأفكار الإسلامية واللواتي يلتزمن ارتداء "المنديل" الشرعي أو النقاب خلال الدوام المدرسي.
تقول الطالبة التي تقطن مدينة البيرة إسراء محمود، وهي تدرس في مدرسة "البيرة الثانوية للبنات"، لرصيف22 إنها تعرضت خلال العام الماضي لمضايقاتٍ من بعض المدرسات اللواتي اعترضن على طريقة لبسها الزي المدرسي وطريقة تفكيرها"، مضيفةً أنها عارضتهن كثيراً، ووضعت أكثر من شكوى في صندوق المدرسة، لكن شيئاً لم يتغير حتى هذه اللحظة.
قصةٌ مشابهة عاشتها الفتاة أسيل غازي، ابنة مدينة بيت لحم. تقول لرصيف22 إن مُدرسة اللغة الإنكليزية التي تنتمي تنظيمياً لحركة فتح اتهمتها مرةً بأنّها تلبس "المنديل الشرعي" للتعبير عن الانتماء لـ"حماس"، ولتشجيع الفتيات على تقليدها، لافتةً إلى أنّ المُدرسة أخبرتها في إحدى المرات أن الأجهزة الأمنية قد تستدعيها مستقبلاً إذا استمرت على الحال نفسه.
شعرت أسيل التي تبلغ من العمر 17 عاماً بضيقٍ شديد من ذلك، وأحست برغبةٍ تدفعها نحو ترك الدراسة بسبب تلك التصرفات.
تقول: "لم أتخيل أن أعيش في حياتي كلها موقفاً كهذا، فشكلي وملبسي أنا وحدي المسؤولة عنهما"، مستنكرةً فكرة الربط بين الشكل والانتماء السياسي، التي تعتبر صورة من صور الحزبية الفئوية التي أوجدها الانقسام الفلسطيني.
المبرر هو "الحفاظ على المظهر العام"
وصرّح المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة معتصم الميناوي في أوقاتٍ سابقة قائلاً: "موضوع الحجاب بشكلٍ عام مرتبط بمحاولات الوزارة المُتبعة للحفاظ على الانضباط والمظهر العام للمدارس"، لافتاً إلى أنه لا يوجد أي مسوغ قانوني تعمل من خلاله الوزارة لفرض هذا الأمر.
وشرح أن الوزارة لا تتعمد التدخل في حريات الأشخاص، لا سيما أصحاب الديانات الأخرى، لكنها في الوقت ذاته تقف في وجه أية ممارسة قد تعبر "بصورةٍ سيئة عن المظهر العام للتعليم في غزة"، لافتاً إلى أن الطلبة المخالفين للنظام العام هم من يحاسبون، ويواجهون المنع، وفي رده على سؤال حول ماهية النظام العام المُتبع في الوزارة قال: "هي العادات التي تحكم المجتمع الفلسطيني".
وأشار إلى أن دائرة الشكاوى في الوزارة تلقت خلال الأعوام الماضية حالات لطالبات يعترضن على منعهن من دخول المدرسة من دون حجاب، مستدركاً أنّهم يتابعون هذا الأمر مع إدارات المناطق التعليمية والمدارس، ولجان خاصة بأولياء الأمور تم تشكيلها من قِبل الوزارة.
في سياقٍ متصل، لم ينكر مصدر في وزارة التربية والتعليم في الضفة الغربية وجود حالات الانتهاك التي تحدثت عنها فتيات لرصيف22، لكنّه في الوقت ذاته أكد أن الأمر لا يعدو كونه تصرفات فردية، ولا يمكن تعميمه على نطاقٍ واسع، لا سيما في ظل ما تعيشه مدن الضفة من انفتاح فكري ومعرفي على مختلف المجالات والأصعدة، بحسب قوله.
تجاوزات للقانون
من جهته يشدّد الباحث القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان محمد سرور في حديث لرصيف22 على أن ثمة ممارسات يتعمد عاملون في سلك التعليم تنفيذها بحق الطالبات غير المحجبات، هي تجاوز قانوني وانتهاك حقوقي، لأن المواثيق المحلية والدولية كفلت الحريات الفردية للأشخاص ما دامت لا تضر بالآخرين أو بالمظهر العام.
ويتابع: "المدرسة ملكية عامة، ويحق لكل المنتسبين لها ممارسة حرياتهم على نحو لا يتعارض مع القانون، واللوائح الخاصة بوزارة التربية والتعليم"، منبهاً إلى أنّ المؤسسات الحقوقية عالجت طوال السنوات الماضية شكاوى متعددة وصلت من مواطنين بهذا الصدد.
في ما يتعلق بانتهاكات الضفة الغربية، لفت سرور إلى أن الحريات هي فعلٌ كامل لا يتجزأ على حسب الهوى أو الانتماء السياسي، وكما أن لغير المحجبة حقاً كفله القانون، فالمحجبة لها أيضاً حقٌ كامل مكفول، ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاعتداء عليه، مشيراً إلى أن حالة الحريات العامة في فلسطين تشهد تراجعاً منذ الانقسام الفلسطيني، وتحتكم في أوقاتٍ كثيرة للتجاذبات الحزبية والفئوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت