قبل ما يزيد عن 50 عاماً، في منتصف القرن الماضي، كانت خريطة السواحل السياحية المصرية، تختلف تماماً عن وضعيتها الحالية، ذلك الوقت الذي لم يكن يعرف فيه المصريون مصيفاً إلا "راس البر" و"بلطيم" و"بورسعيد" و"شواطئ الإسكندرية الماريا"، في مرحلة سبقت حقبة القرى السياحية الجديدة في منطقة الساحل الشمالي منتصف الثمانينات، والتي بدأت بمراقيا ومارينا، ثمّ تلتْها موجة جديدة مع مطلع الألفية امتدت إلى منطقة سيدي عبد الرحمن، وشهدت ظهورَ قرى "مراسي" و"هاسيندا" وغيرها.
امتدّ الساحل الشمالي على شواطئ المتوسط ما بين “عروس البحر”، الإسكندرية، وحتى مرسى "مطروح"، مروراً بالعلمين، في ظلّ موجات ما بعد الانفتاح التي شهدها عصر الرئيس المصري أنور السادات، ومن بعده مبارك، والتي نتج عنها البدء في إقامة هذا الشريط من القرى السياحية على سواحل المتوسط غرب الإسكندرية. وظلّ هذا الشريط يمتدّ حتى أوشك على الوصول إلى "مطروح"، بطول يزيد عن 250 كيلومتراً، مزدحماً بالقرى السياحية التي أصبحت تحتضن النخبة الاجتماعية والاقتصادية في شهور الصيف، بعيداً عن أجواء القلب المصري الساخن في القاهرة وما يحيطها.
نتج عن ذلك خروج مجموعة المدن الساحلية القديمة خارج اللعبة السياحية، وهي التي كانت مصايف راقية لأهل الستّينيات، احتضنت النخبة المصرية ومعهم أبناء الطبقة المتوسطة، ومن أبرز تلك الشواطئ التي تحولت في القرن الحادي والعشرين إلى "مصايف الغلابة"، كلٌّ من "بلطيم" و"البرلس" و"رأس البر".
الملتقى يأتي ضمن مشروع "مدن ملوّنة"، بمشاركة عشرات الشباب والأطفال مع الفنانين في تجربة أصبحت منجماً لتبادل الخبرات. وشهد الملتقى خلال السنوات الماضية مشاركة واسعة من علامات وأسماء كبيرة في عالم الفنّ التشكيلي المصري
عودة المدينة القديمة من خلال ملتقى البرلس
لعبت سواحل بلطيم والبرلس دور المواقع السياحية النخبوية في الماضي، عاشت فيها الطبقتين العليا والمتوسطة في مصر أجمل لياليها وإجازاتها، ورسم المصريون على رمالها أجملَ ذكرياتهم، كما تحولت لمواقع تصوير للعديد من الأفلام السينمائية الشهيرة.
"بلطيم" تابعة إدارياً إلى مركز البرلس، في محافظة كفر الشيخ، ويجاورها برج البرلس. بعد قيام ثورة يناير، شهدت المنطقة حالةً فنية خاصة، قادها الفنان التشكيلي عبد الوهاب عبد المحسن، نجحت في إعادة البريق للبرلس الجميلة، بعد أن أوشكت على الذهاب في طيّ النسيان. جاءت عودة المدينة القديمة من خلال "ملتقى البرلس الدولي للرسم على الحوائط"، والذي تأسس منذ 6 سنوات بمشاركة مجموعة من الفنانين الدوليين والمصريين، بالإضافة لطلبة كليات الفنون الجميلة في باقي المدن المصرية، ومجموعة السكان المحليين من أطفال المدارس والأهالي.
وتقوم فكرة الملتقى على تفاعل الفنانين مع الأهالي أثناء عملية الرسم على الحوائط والمراكب، في حالة من المشاركة المجتمعية، يصاحبها حملات نظافة وتوعية للأهالى تدعو للحفاظ على البيئة والفراغ العام، ونجح الملتقى طوال ستّ دورات احتضنتها المدينة في نفس الموعد سنوياً مع بدايات فصل الشتاء، في اكتشاف المواهب وتهذيب السلوك وإشاعة الفرح والبهجة بين الحضور، ووضعهم فى بؤرة الضوء والاهتمام، وهو ما أعاد المصيف القديم إلى النور مرة أخرى.
ثاني أبرز المشاهد الأثرية في المدينة الساحلية، هو "فنار البرلس" الذي يعدّ من أقدم الفنارات في مصر، وهو الوحيد الباقي من مجموعة فنارات أقامها الخديوىّ عباس خلال القرن التاسع عشر
الملتقى يأتي ضمن مشروع "مدن ملوّنة"، بمشاركة عشرات الشباب والأطفال مع الفنانين في تجربة أصبحت منجماً لتبادل الخبرات. وشهد الملتقى خلال السنوات الماضية مشاركة واسعة من علامات وأسماء كبيرة في عالم الفنّ التشكيلي المصري، كان من أبرزهم الفنان الراحل جميل شفيق، الذي كان من أيقونات أيام البرلس السعيدة في سنواتها الثلاث الأولى، ومازال الفنان عمر الفيومي يواظب مع نخبة من التشكيليين المصريين على المشاركة في الفعاليات حتى الآن.
صندوق الأمم المتحدة للسكان، أبدى دعمه للخطوة الرائدة التي أسعدت السكان المحليين والزوار، وقال في تعليقه على نجاح الدورة السادسة خلال الأيام الماضية، أن سحر الحالة الجديدة للبرلس، يكمن في وجود اللوحات والأعمال الفنية بجانب جمال الطبيعة، وهو ما ساعد الصندوق الأممي، أن يستخدم قوة الفنّ لرفع مستوى الوعي بتمكين المرأة، والحاجة إلى تمكين المجتمعات للتصدي إلى كلّ أنواع العنف ضد المرأة، ومن ضمنها الممارسات الضارّة ضد الإناث، وكلّ ذلك وسط أجواء ممتعة يرسم فيها الفنانون من مختلف البلدان على الجدران والقوارب.
دورة الملتقى هذا العام، شهدت المزيد من التوسع، وشارك فيها 40 فناناً تشكيلياً من 18 دولة، واستمرّت لمدة 10 أيام، ونجحت في الكشف عن المزيد من المواهب وسط أطفال البرلس، خلال محاولات هؤلاء الأطفال ابتكار حرفة لها علاقة بحالة البيئة، ولأن مدينة برج البرلس اشتهرت عبر العصور بصناعة المراكب بكلّ أنواعها وأحجامها، وتعتبر مهنة الصيد الأكثر انتشاراً بين سكانها، فإن الفائض الكبير من بقايا الأخشاب داخل الورش، أصبح يجد طريقه للتحوّل إلى هدايا ولوحات يرسمها الأطفال، في أعمال تلقائية، تحقق الإضافة الفنية، وتكون مصدر رزق لصناعها في نفس الوقت، بالإضافة إلى تجميل المدينة بشكل عام، ما ينشر الوعي الفني والتذوّق عبر الحوائط وأخشاب المراكب.
يهتمّ القائمون على الملتقى بمحاور تنمية الثقافة والتراث الشعبى والنهوض بعادات وتقاليد المجتمع، والعمل على تنفيذ مشروع زراعة أسطح المنازل، وهو ما جعل المسؤولين المحليين في البرلس لا يصدّقون ما يحدث، خاصة مع نجاح الملتقى في خلق فرص عمل جديدة، ساعد عليها زيادة الجذب السياحي للمنطقة، بعد أن أصبحت المدينة تحتضن نخبة من كبار الفنانين الدوليين والمصريين والشباب والفتيات من أعضاء مراكز الشباب وكليات الفنون، وهو ما يدفع المدينة لتصبح واحدة من المجتمعات الحضرية الجاذبة للسكّان والسياحة كما كانت قبل عقود.
المدينة الهادئة تضمّ العديد من المشاهد الأثرية الهامة التي تدفع إلى مزيد من الرواج بجوار المراكب والجدران الملونة، من أبرزها "طابية برج البرلس" التي شُيّدت في العصر الأيوبى على شاطئ المتوسط، واشتهرت بين الأهالي بالبرج، ومنذ ذلك الوقت سُمّيت المنطقة تيمّناً بالاسم الذي شيدت به القلعة، قبل أن تتحوّل إلى مدينة.
ويعود تاريخ إنشاء البرلس رسمياً إلى عام 1871م، وعرفت سياحياً لعقود طويلة في بداية القرن الماضي من خلال بحيرة البرلس التي تمتدّ بطول 70 كيلومتراً، ويتراوح عرضها ما بين 6 إلى 17 كيلومتراً، ويضمّ الإقليم تنوعاً بيئياً رائعاً يشمل المستنقعات الملحية والقصبية والسهول الرملية، بالإضافة إلى الكثبان الرملية المرتفعة على سواحل البحيرة؛ كلّ هذا جعل الموقع مكاناً طبيعياً لما يقرب من 135 نوعاً نباتياً برياً ومائياً، كما أن البيئة الرطبة ساعدت عبر السنين على استقبال الطيور المهاجرة في أحضان البرلس.
ثاني أبرز المشاهد الأثرية في المدينة الساحلية، هو "فنار البرلس" الذي يعدّ من أقدم الفنارات في مصر، وهو الوحيد الباقي من مجموعة فنارات أقامها الخديوىّ عباس خلال القرن التاسع عشر، ويصل عمر الفنار لما يزيد عن 150 عاماً، ويبلغ ارتفاعه 55 متراً، ويجاوره على بعد عدّة أمتار "طابية عرابى" التي أقامها صلاح الدين الأيوبي لصدّ الهجمات القادمة من أوروبا، وقام بترميمها الخديوى إسماعيل عام 1882م، ثمّ استخدمها الزعيم المصري "أحمد عرابي" لصدّ هجمات الإنكليز، لتبقى محتفظة باسمها التاريخي نسبة إلى عرابي طوال ما يقرب من 140 عاماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...