الفاعل، ليس في قواعد اللغة -أيًا كانت- فحسب ولكن في الحياة بصورها وأنماطها المختلفة، مرارًا وتكرارًا تجدونه، مثيرًا للإنتباه، لما قد يحدثه؛ محارباً يبحث عن سلام وطمأنينة قلما يجدهما في وطن تخلّى عنه بأنظمته وحكوماته المتعاقبة التي لا همّ لها سوى وضع كلتا يديها في جيوب من هم مثله، فما بالكم إن كان ذلك الفاعل طفلاً.
اصطحبتُ روحي، وكاميرتي الفوتوغرافية العزيزة، للمضيّ قدمًا نحو طريق ريفيّ قديم قابع ما بين غيطان وحقول الطريق الزراعي الواصل ما بين مدينة الفيوم ومدينة إطسا بالقرب من قرية "منشأة بغداد" والمعروفة ما بين العامة بقرية "البرمكي".
صناعة الطوب في الأساس تعود إلى عصر ما قبل الأسرات، ولعلّ خير دليل على ذلك حضارات نقادة والبداري ودير تاسا التي تميزت بصناعة الفخار الأسود وهي أحد أطوار التشكيل بالطّين مثلها مثل صناعة الطوب التي لم تختلف عما كانت عليه في عصر القدماء المصريين
ولا أعرف هل لها علاقة بأحد ما من أسرة البرامكة التي يعود أصلها إلى مدينة بلخ بأفغانستان حاليًا، والتي تزعّم أبناؤها الحراك العباسي في خُراسان أثناء الدعوة لقيام الخلافة العباسية وفي نهاية المطاف نُكل بهم في عهد هارون الرشيد(766-809م)، كما ذُكر في الجزء السادس من كتاب "البدء والتاريخ" للمطهر بن طاهر المقدسي (مكتبة الثقافة الدينية، مصر)، أم أنها مثلها مثل قرى كثيرة بالمنطقة لها من الأسماء ما يرجع بدوره إلى حادثة أو موقعة أو بلد أو شخص له علاقة بحقبة العصر الإسلامي، وما به من دول حكمت سواء تحت راية الخلافة الأموية (662-750م) أو العباسية( 750-1258م) أو العثمانية (1299-1923م) أو باستقلال عنهم.
على مسافة تبعد حوالي 6 كم من مدينة الفيوم، تحتضن الحقول الغربية للقرية أحد المصانع القديمة التقليدية التي يمارس عمّالها صناعة الطوب الأحمر (الطفلي)، رمز العصر، الزاحف في العمران بالخرسانات القاتلة لكلّ ما هو أخضر؛ هذا كان ما رأيتُ طوال تلك السنين التي عشتُها.
وعن البناء بالطّين، فإن العمائر في مصر حتى فترات طويلة استعمل فيها الطوب اللبن وامتدّ ذلك إلى العصور المتأخرة ولعل المنظر المدوّن داخل مقبرة الوزير "رخميرع"، كبير وزراء الملك "تحتمس الثالث" هو خير شاهد وموضّح على تلك الصناعة
من تراب ممزوج بالمياه ومختمر بها إلى طين معجون مصبوب في قوالب ومنشور في حرارة الشمس مصقول في الأفران، يصنع الطوب الأحمر وتبنى به البيوت وتعمر. فصناعة الطوب في الأساس تعود إلى عصر ما قبل الأسرات، ولعلّ خير دليل على ذلك حضارات نقادة والبداري ودير تاسا التي تميزت بصناعة الفخار الأسود وهي أحد أطوار التشكيل بالطّين مثلها مثل صناعة الطوب التي لم تختلف عما كانت عليه في عصر القدماء المصريين بل مازالت كما هي، سواء في عملية التخمير والتكوين أو التصنيع والبناء. (د. رمضان عبده علي. كتاب حضارة مصر القديمة منذ أقدم العصور حتى نهاية عصور الاسرات الوطنية، المجلد الأول، دار الآثار للنشر والتوزيع،2004)
وطمي النيل المترامي على ضفتي النهر كان المادة الخام لتلك الصناعة القديمة المستعملة لصنع الطوب المجفف بحرارة الشمس وعمله لا يستلزم من المهارة والجودة الكثير.
وعن البناء بالطّين، فإن العمائر في مصر حتى فترات طويلة استعمل فيها الطوب اللبن وامتدّ ذلك إلى العصور المتأخرة ولعل المنظر المدوّن داخل مقبرة الوزير "رخميرع"، كبير وزراء الملك "تحتمس الثالث" هو خير شاهد وموضّح على تلك الصناعة؛ فقد صُوّر على جدران المقبرة الواقعة في منطقة مقابر النبلاء بمدينة طيبة القديمة الواقعة بالقرب من مدينة الأقصر الحالية في البرّ الغربي للنيل منظراً لرجلين يجلبان الماء من بركة في أوعية، أحدهما يعجن الطين بقدميه (عملية التخمير والعجن)، بينما الآخر يملأ قالباً خشبياً لصنع الطوب فيه، ويضيف إلى صفوف من الطوب المرصوص ليجفّ، وهو ما يوضّح لنا عملية صناعة الطوب منذ البداية وحتى استعمال الطوب في البناء. (د. زاهي حواس: مقال بعنوان: الفراعنة أول من بنوا بالطين: موقع جريدة الشرق الأوسط: 22 فبراير 2019- العدد رقم: 14331).
وكان الطين يخلط بالتّبن (قشّ القمح المقطع) أو قشر البوص، وتخمر العجينة في أحواض تشكّل بعدها قوالب الطوب في أطر خشبية لترصّ بعدها في الشّمس لتجفّ، وهي نفس الطريقة المستعملة إلى اليوم حتى يدخل الفرن أو تصنع القمائن ليظهر الطوب الأحمر.
وتعود كلمة طوب إلى أصلها الهيروغليفي "چبت"، وتعني عند المصريين (الطوب)، وبعد ذلك عرفت بالقبطية باسم "طووب"، والتي لم تختلف عنها العربية ومنها جاءت كلمة adobe والتي تعني (لبنة من الطين)، أي الطين المجفف تحت الشمس. (د. زاهي حواس: مقال بعنوان: الفراعنة أول من بنوا بالطين: موقع جريدة الشرق الأوسط: 22 فبراير 2019- العدد رقم: 14331)
ولعلّ هرم الملك "سنوسرت الثاني" أو "سيزوستريس الثاني" (1882-1872ق.م) رابع ملوك الأسرة الثانية عشرة، والمعروف بهرم اللاهون، والواقع على بعد 22 كم من مدينة الفيوم، والذي اكتشفه الإنكليزي فلندرز بتري عام 1889 أشهر بناء بالطوب اللبن المكسو بطبقة من الحجر الجيري.
وربّما يعلّل قلّة وجود آثار مبنية بالطوب اللبن بل وندرتها مقارنة بمثيلتها المبنية بالحجر الجيري إلى معتقد مصري قديم في أن الخلود ليس في الحياة الدنيا، وإنما الحياة الأخرى، واكتفى ببناء بيت الملك المعروف في الهيروغليفية بـ"البر عون"، أو البيت الكبير بالحجر والطوب الأحمر اعتقاداً منه بأن ساكنه الإله أو ابن الإله حسب العقيدة المصرية القديمة .
لكن عملية حرق الطوب ظلّت مستمرّة، وقد تغير الحال، وأصبح الأمر مختلفاً عمّا كان عليه، وتوجّه أغلب الراغبين في بناء بيوتهم موجّهين إلى الطوب الأحمر خصوصاً أنه أصبح أحد أساسيات عمليات البناء والتشييد في عمائر اليوم المتوسع فيها خاصة مدن الأغنياء الساحلية منها والتجمعات الخاصة بهم والمعروفة بـ"الكومبوندات".
إن الحياة في مصر -ولا شك في ذلك- مأساة حقيقية تجبر الكثير على تصرّفات لم تكن أبداً في الحسبان؛ القرار واتخاذ الموقف أبناء الضغط المستعر واليأس في مشهد لا متناهٍ ولا علاج له، والأيدي الخشنة التي شكلتها المعاناة وشققتها الشمس والنيران الملتهبة لا تجد مفرّاً ولا مهرباً ممّا قُيّدت به ورُميت فيه.
لا توجد إحصائيات دقيقة يمكن أن يعوّل عليها، في ما يخصّ صناعة الطوب الأحمر، وما يترتّب عليها في حقّ العمالة من إصابات أو وفيات أو انتهاكات أو تجاوزات في مواقع العمل المتعدّدة؛ السلامة والصحة المهنية وإجراءات الحماية المقرّرة بموجب القوانين المنظّمة للعمل غير موجودة بالخدمة، ناهيك عن عدم وجود تنظيمات نقابية قد تساهم بدورها في حماية حقوق العمّال، خاصة الذين هم حسب الأوراق الرسمية أطفال، وبحسب الواقع الفعلي رجال فاعلون مسؤولون عن أسَرٍ هشمها الفقر والعوز والحاجة.
هؤلاء الأطفال وغيرهم من العمالة الكادحة الموجودة في المواقع يعملون فى علاقات عمل لا تعرف عنها القوانين المنظمة أي شيء، سواء كان قانون حماية الطفل رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون 126 لسنة 2008 أو قانون العمل رقم 12 لسنة 2003.
وما بين نقل الطين على يد الطفلة إلى ماكنة صبّ القوالب ورشّ الرّمال والتجفيف بالمنشر، ثمّ سكّها بالأفران وتغيّر لونها إلى اللون الأحمر المعروفة به، يدور هؤلاء الفاعلون بين المراحل في كدّ وتعب متسلحين ببعض الآمال الباحثة عن شعور الراحة المبني على مجهول لم تتركه الأيام لهم يمضي إلى جدوى.
المحصلة النهائية دائماً ما تعود بالسلب عليهم، وتنتهي بحشد الحياة لمفردات وقواعد اللغة لكسرهم لكنّهم مستمرّون، متمسكون بتلابيب أنفسهم للنجاة من هذا الواقع المحبط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...