شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الثورة اللبنانية أعادت للحيّز العام ألقه بوصفه ملكاً للناس لا ملعباً لأهل السلطة

الثورة اللبنانية أعادت للحيّز العام ألقه بوصفه ملكاً للناس لا ملعباً لأهل السلطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 5 نوفمبر 201901:43 م

ثورة اللبنانيين طافحة بالحب. أتاحت للبنانيين حب أنفسهم وأتاحت لهم حب بعضهم بعضاً. ينزل الواحد منهم إلى ساحة الاعتصام بقلب عامر بالحب، ويودّ منذ لحظة وصوله لو يعانق الحشد كله. ليس ثمة تعبير عن الشعور بالحب أفصح من الرقص والغناء في جماعات لم يكن أفرادها قبل هذه الثورة يعرفون بعضهم بعضاً.

ربما كان بعضهم يعرف مواقف بعضهم الآخر، لكنهم بالتأكيد ما كانوا يعرفون أن هؤلاء الذين يلتقون بهم في ساحات الفضاء الافتراضي أو على أرصفة المدن وفي زواريب القرى يملكون مثل هذه القلوب الملأى بالحب والقدرة على التسامح والصفح.

مثل هذا الحب في الثورة ليس قيمة شعرية، إنه سلاح ماضٍ، ومن شأن استخدامه بإفراط، مثلما يحصل في لبنان، أن يمنع الثورة من السقوط في الأفخاخ التي قد تنصبها لنفسها أو ينصبها لها خصومها. فبإشهار الحب على رؤوس الأشهاد يصبح كل عنف مردوداً على أصحابه، وتتحوّل صورة المصرّين على استخدامه إلى عكس ما يريدون أن تكون عليه صورتهم.

مع هذا الفيض من الحب لا يستطيع "الشبيح" أن يفخر بما قام به، ولا تعود القوة، سواء كنّا نتحدث عن القبضات أو السلاح، مصدر فخر لأصحابها، بل تتحول عبئاً عليهم لا يعرفون كيفية التخلص منه.

والأرجح أن أحداً في لبنان والعالم اليوم لا يريد أن يوضع في موضع حاملي العصي الذين هاجموا المتظاهرين في ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، لكن أياً كان مستعد لأن يقف مكان الفتاة التي رفعت يديها عالياً في مواجهة عصي المعتدين.

نجحت ثورة اللبنانيين أيضاً في بث الحب للأمكنة. طرابلس بعد الثورة هي غير طرابلس قبلها، والنبطية وصور وبيروت والهرمل لم تعد هي نفسها. حوّلها الحب المتبادل إلى مدن مرحبة، فلم تعد تخشى الآخر ولم يعد أهلها يتهيبون زيارة المدن الأخرى البعيدة والإقامة فيها، لأن الترحيب المتبادل بين الناس حوّل المدن من غيتوات أهلية إلى مدن حقيقية، لكنها على خلاف مدن العالم اليوم، لا تولد عدوانية ناجمة عن ضغط القوانين والقواعد التي تسنها السلطات والجماعات.

"الحب الطافح في الثورة اللبنانية ليس قيمة شعرية، إنه سلاح ماضٍ، ومن شأن استخدامه بإفراط أن يمنع الثورة من السقوط في الأفخاخ التي قد تنصبها لنفسها أو ينصبها لها خصومها"
"نجحت ثورة اللبنانيين في بث الحب للأمكنة. طرابلس بعد الثورة هي غير طرابلس قبلها، والنبطية وصور وبيروت والهرمل لم تعد هي نفسها. حوّلها الحب المتبادل إلى مدن مرحّبة، فلم تعد تخشى الآخر ولم يعد أهلها يتهيبون زيارة المدن الأخرى البعيدة والإقامة فيها"

ساحة النور في طرابلس صارت ساحة الناس جميعاً، لبنانيين وغير لبنانيين، وهي ساحة أهل صور وصيدا والنبطية مثلما هي ساحة أهل عكار وطرابلس وزغرتا، من دون تمييز وتفريق.

ما صنعته هذه الثورة في علاقة اللبناني بالمكان أعادت للحيّز العام رونقه الآفل وجعلته مرة أخرى مساحة مشتركة تتسع لكل الناس، ولا تضيق مساحتها بالأعداد الغفيرة ولا يضيق سكانها بانعدام المسافات الآمنة بين الأفراد. لم تعد الزحمة منتجة للغضب والإحباط، وأصبحت مع هذه الثورة مرغوبة ومطلوبة ويبعث اشتدادها على البهجة والطمأنينة.

التحوّل الذي طرأ على المدن والقرى اللبنانية فاجأ أهلها أيضاً. فبعدما كانت طرابلس مدينة قصية يصعب على اللبنانيين وغير اللبنانيين زيارتها، لأنها تفتقد إلى مألوفهم في المدن والقرى التي يعيشون فيها، بات المفارق فيها والغريب محل تقدير يحث اللبنانيين على السكن إليه ومعاينته والاختلاط به.

وهذا التحوّل في واقع الأمر هو حدث جلل. فمن بين أهم أسباب سيادة التطرف العنيف في العقود الأخيرة في العالم كله، يتصدر الخوف من الآخر والتوجس منه المقام الأول، بوصفه ما يحث الجماعات المنطوية على نفسها وقيمها على اتخاذ موقف دفاعي، لا يرحب بالغريب ولا يدفعها إلى اكتشاف الآخر، أكان جماعات أم أمكنة على امتداد العالم كله. وهذا تحديداً ما لاحظه زيغمونت باومان في السلوك الأوروبي حيال المهاجرين، وحيال السياحة في دولهم في الوقت نفسه. فحين يصبح الخوف هو المحرك الأول لسلوك الجماعات حيال الجماعات الأخرى يتحوّل العنف، بكل ضروبه، وسيلة أولى لحماية النفس والجماعة على حد سواء.

الحب العميم الذي نجحت الثورة اللبنانية في بثه بين اللبنانيين المقيمين والمنتشرين على حد سواء، أعاد إصلاح علاقتهم المتوترة مع المكان العام. فاللبنانيون الذين اختبروا عقوداً من الانقسام الأهلي-الجغرافي، صنعوا حدوداً صلبة بين أحيازهم الخاصة والحيّز العام، والعلاقة التي كانت سائدة مع الأحياز العامة كانت تتسم على الدوام بالتوتر واللامبالاة، لأن اللبناني كان مجبراً طوال هذه العقود على تأمين كل مقومات عيشه بين أفراد مختلفين عنه ويتوجس خيفة منهم، في أضيق حيز ممكن. ومع الوقت تحوّلت بيوت اللبنانيين وشققهم إلى دول بالغة الصغر، ففيها كانوا يبنون مصادر عيشهم من تأمين التيار الكهربائي إلى تأمين المياه إلى التعليم والرعاية الصحية من دون أي معين لهم من قبل القائمين على الأمر في البلاد، إلا إذا كانوا على استعداد لإراقة ماء وجوههم على أبواب المتنفذين. ومنذ انتفاضتهم على سياسة تغريبهم عن أمكنتهم وهم يعيدون اكتشاف هذه الأمكنة وإيلائها عنايتهم الفائقة، ما جعلها بحق أحيازاً عامة، ترحّب بكل ما هو مختلف وكل ما كان غريباً من قبل.

لهذه الثورة فضائل كثيرة، قد يمر وقت طويل قبل أن نتبيّنها فضيلة فضيلة. لكن ما أنجزته حتى اللحظة يتعدى كل ما كان مأمولاً منها ويتجاوزه. في العادة لا تستمر الثورات حارة وصاخبة وقتاً طويلاً. فالتعب يحل بسرعة حتى على المحتفلين المبتهجين.

لكن حلول التعب، في أي وقت، لا يلغي واقع أن اللبنانيين خلال هذه الأسابيع القليلة أقاموا في ما بينهم علاقات يصعب أن تتفكك، وتدخلوا في مناقشات يصعب أن تذهب هدراً، ونجحوا في تمتين أواصر اتصالهم ببعض على نحو لم يعد يمكن لأي سلطة مهما بلغ عتوها أن تقطّعها.

والحال، لم يعد ثمة خوف على لبنان من مشاريع سلطوية تملك أسلحة وجنوداً، فاللبنانيون باتوا يعرفون منذ اندلاع الثورة كيف يمكنهم تعطيل كل سلاح ونبذ كل تدخل سلطوي ومنع أي كان من إعادة أمكنتهم العامة إلى مسارح للبلطجية والمحتلين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image