بخلاف الثورات التي اندلعت في المنطقة خلال الأعوام الماضية، لا تحتاج الثورة التي تجتاح لبنان إلى شعارات دقيقة وخطاب سياسي مركز. فهي في أصل نشأتها واندلاعها تكشف عن وجهتها الواضحة في التنصل من السياسة ودهاقنتها. كما لو أن الشعب اللبناني برمته يعلن بوضوح أن المسارات السياسية المتعاقبة التي توالت فصولها السيئة الذكر عليه، منذ الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فشلت فشلاً ذريعاً.
وليس غريباً أن تصدر أحكام من المتظاهرين والناشطين في هذا الحراك الثوري تفيد بأن يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019 هو يوم انتهاء الحرب الأهلية المستمرة، باردة وساخنة، منذ أكثر من أربعة عقود.
هذه الثورة بهذا المعنى تريد كنس السياسة وليس السياسيين فقط. لهذا هي لا تحتاج إلى شعارات وبرامج عمل. لقد أدت وظيفتها الكاملة منذ اليوم الأول، وثبتته في الساعات التي تلت على نحو لا يقبل الجدل. والسياسات التي يُراد كنسها تشمل كل القوى والأحزاب الحاكمة أو التي تسنى لها الحكم في وقت من الأوقات.
والأرجح أن أمين عام حزب الله حسن نصر الله هو أول من تنبه إلى هذا الإنجاز الذي حققته الثورة، حين دعا القوى السياسية المشاركة في السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى عدم القفز من السفينة، تحت طائلة المحاسبة التي خبر اللبنانيون جيداً مؤداها في سياسات حزب الله.
قد لا يكون حزب الله الوحيد الذي أدرك مآلات هذه الثورة وما حققته حتى الآن. لكن إدراك القوى السياسية الأخرى، مهما بلغ حجم تمثيلها في السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا يشعرها بقوة التهديد نفسه الذي يشعر به حزب الله. فكل هذه القوى، بتفاوت لا يخفى على العارفين بالسياسة اللبنانية، لا تمثل الحكم الفعلي في لبنان، المتمثل بحزب الله وحده من دون شريك، وهي لا تعدو عن كونها مجرد واجهة له، يأمل من خلال مشاركتها الصورية في السلطة أن تؤمن لمشروعه السياسي استقراراً اجتماعياً، من جهة أولى، ويطمح، في أن تتمكن من معالجة الأزمات التي تسببت بها سياساته خلال السنوات الأخيرة، وإنقاذ البلد من الاضمحلال، والتفتت بالمعنى الحرفي للتفتت.
مع انطلاقة هذه الثورة، وجد حزب الله نفسه أمام حائط مسدود. والناظر إلى مقدمات اندلاعها يدرك جيداً أن البلد يهترئ كل يوم أكثر مما كان يتوقعه أحد. ولا يمكن للسلطة الحاكمة ولا للمؤسسات الخاصة أن تنقذ القليل الذي تبقى من صورة الدولة وخيالها: عجز تام أمام تأمين التيار الكهربائي، وعجز أكبر من الذي سبقه أمام تأمين مياه الشفة أو مكافحة تلوث البحر والأنهار، وعجز أمام مشكلة تراكم النفايات التي باتت كمثيلتيها السابقتين مزمنة، وجاءت حرائق الخريف لتتوج غرق البلد في أزمة لا سبل للخروج منها.
مع ذلك، لم تتغيّر سياسة حزب الله القاضية بتحميل البلد الصغير عبء سياسات إمبراطورية لا قبل له بحملها، من احتلال أراضٍ في سوريا، إلى تهديد دول عربية برعاياها ودبلوماسييها، إلى التدخل في دول أخرى بمقاتليه وخبراء متفجراته.
والحديث عن الأزمة الاقتصادية في البلد واحتمال انهيار الاقتصاد برمته، لا يستقيم من دون ذكر هذه الوقائع بوصفها المانع الحقيقي من تحقيق استقرار اجتماعي وسياسي هو أكثر من حيوي لأي نمو أو طفرة اقتصادية.
"الثورة اللبنانية تريد كنس السياسة وليس السياسيين فقط. لهذا هي لا تحتاج إلى شعارات وبرامج عمل. لقد أدت وظيفتها الكاملة منذ اليوم الأول، وثبتته في الساعات التي تلت على نحو لا يقبل الجدل"
"ليس غريباً أن تصدر أحكام من المتظاهرين والناشطين في الحراك الثوري اللبناني تفيد بأن يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019 هو يوم انتهاء الحرب الأهلية المستمرة، باردة وساخنة، منذ أكثر من أربعة عقود"
تشديد نصر الله على منع الشركاء من القفز من السفينة الغارقة ينطوي على إيمان لديه، وقد صرح به علناً، بأن التغلب على المصاعب التي يواجهها لبنان اجتماعياً واقتصادياً ممكن من خلال محاربة الهدر والفساد، وهذا أمل ساذج ولا يصمد أمام أي تحليل معمق للأزمة.
لكن هذا الإيمان الساذج لا يخفي الرعب من حدوث الانهيار. ففي هذه الحال، يصير الكلام عن سياسات حزب الله الحربية التي تتجاوز الحدود غير ذي فحوى على الإطلاق. ولو حصل الانهيار، والأرجح أنه حصل فعلاً، فإن حزب الله سيجد نفسه عارياً تماماً ومن دون ظهير داخلي أو خارجي، في مواجهة خصوم مقتدرين. فالحروب لا تكسب بصلابة المقاتلين فقط.
والحق أن الطائفة الشيعية التي التفّت بمجملها حول حزب الله في السنوات الأخيرة، لم تلتفّ حوله لأن المقاومة صادقة وإنْ وعدت وفت كما يقول نصر الله، بل لأن مكانة حزب الله في البلد مكنّت أبناء هذه الطائفة من ترسيخ الانتماء إليه بوصفهم صناع سياسته واتجاهاته العامة.
ولكن حين تصبح الهيمنة على البلد ومقدراته غير مفيدة للمهيمنين أنفسهم، فإن الانفضاض عن الحزب سيقع لا محالة. وهذا عين ما يعبّر عنه المتظاهرون في الجنوب والبقاع من الذين تسنى لهم الحديث عن أسباب تظاهرهم.
الثورة القائمة في لبنان أوضحت للقاصي والداني أن المشروع الذي أجبر حزب الله البلد على تبنيه، فشل فشلاً ذريعاً في تأمين استقرار اجتماعي للناس، ولجمهور المقاومة بالدرجة الأولى.
والحال، فإن هذا المشروع يواجه اليوم حائطاً أصم، لأن انحلال الحاضنة الشعبية، والتوق العارم للهجرة من البلد لا يعني غير أمر واحد ألا وهو أن مقاومة حزب الله، إن استمر في غلوائه وتعاميه عن الحقائق، سترفع أعلامها قريباً جداً على أرض خراب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...