شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"بيحسدوني لما بضحك"... أخطر أشكال الاكتئاب قد يختبئ وراء ابتسامة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 4 أكتوبر 201906:54 م

ليس كل من يبتسم سعيد، فهناك ابتسامة تخفي خلفها ألف دمعة...

هناك الكثير من الأشخاص الذين نصادفهم في حياتنا اليومية وتكون السعادة بادية على وجوههم، لنتفاجأ بعدها بمعرفة أنهم حاولوا وضع حدّ لحياتهم، نتيجة تخبطهم المستمر مع الأفكار السوداوية وظروف الحياة الصعبة التي مرّوا بها.

وفي معظم حالات الانتحار غالباً ما نسمع أمّاً ثكلى تبكي ابنها وتقول: "كان يضجّ حياةً وفرحاً وسعادةً ولم نكن نعلم أن هناك أمراً يزعجه..."، أو تودع ابنتها التي توفيت بظروف غامضة وهي تقول: "لم تفارق الابتسامة وجهها، رغم أنها كانت تحمل على عاتقها هموم العائلة كلها، إلا أنها كانت تبدو قوية وقادرة على كل شيء...".

في الآونة الأخيرة أصبح مصطلح "الاكتئاب المبتسم" (smiling depression) منتشراً بشكل متزايد، وهو الحالة التي يبدو خلالها الشخص المعني سعيداً، في حين أنه يعاني في الحقيقة من أعراض اكتئاب داخلية يحاول إخفاءها عن الجميع وذلك لعدّة أسباب، من بينها الخجل والخوف من الأحكام التي قد يطلقها المجتمع عليه.

آلية دفاع

في العادة يرتبط الاكتئاب بالحزن والخمول واليأس، إذ إننا غالباً ما نعتبر الشخص المصاب بالاكتئاب هو المرء الذي يهمل شكله الخارجي وحاجاته الأساسية، كالطعام والشراب، ويترك واجباته بحيث أنه يقضي يومه في السرير من دون القدرة على النهوض أو إتمام أي عمل ولو كان بسيطاً، إلا أن هناك بعض الأشخاص القادرين على إخفاء جميع الأعراض المصاحبة للاكتئاب بنجاح لا مثيل له، من خلال وضع قناع مزيّف يخفي وراءه نوبات الحزن والهلع وتدني احترام الذات والأرق، وعدة مشاكل جسدية ونفسية ترهق كاهلهم، وقد تدفعهم للتفكير بالانتحار.

ليس كل من يبتسم سعيد، فهناك ابتسامة تخفي خلفها ألف دمعة

في الواقع يحاول البعض التحامل على أوجاعه النفسية والجسدية وإيهام الجميع أن حياته تسير على خير ما يرام وبالطريقة التي يتمناها، فيتصنع الابتسامة والفرح في حين أن الحزن يعصر قلبه، وهي حالة تُعرف بـ"الاكتئاب المبتسم"، رغم أن هذا المصطلح ليس تقنياً ولم يدخل بعد في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) التابع للجمعية الأميركية للأطباء النفسيين، أما أقرب تسمية علمية لهذه الحالة فهي "الاكتئاب غير النمطي" Atypical depression، حيث تتمكن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يعانون من المزاج السيء وفقدان المتعة في ممارسة الأنشطة من إخفاء حالتهم من خلال الابتسامة.

هناك بعض الأشخاص القادرين على إخفاء جميع الأعراض المصاحبة للاكتئاب بنجاح لا مثيل له، من خلال وضع قناع مزيّف يخفي وراءه نوبات الحزن والهلع وتدني احترام الذات والأرق، وعدة مشاكل جسدية ونفسية ترهق كاهلهم، وقد تدفعهم للتفكير بالانتحار

هذه الظاهرة تبدو شائعة كثيراً، بحيث يعاني شخص واحد من بين كل عشرة أشخاص من الاكتئاب المتعارف عليه، في حين أن هناك ما بين 15% و 40% من هؤلاء الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب غير نمطي، واللافت أن هذا النوع من الاكتئاب غالباً ما يبدأ في وقت مبكر ويمكن أن يستمر لفترة طويلة، ومن الصعب تحديده نظراً لنجاح الفرد في إخفاء كل أعراض الاكتئاب وراء مظاهر الفرح: "إن الأشخاص المصابين بالاكتئاب المبتسم غالباً ما يخفون الأعراض التي يعانون منها. يمكنهم الاستيقاظ كل يوم، ارتداء ملابسهم، الذهاب إلى العمل والاستمرار في التفاعل مع الآخرين بطريقة تتناقض مع شعورهم الداخلي"، وفق ما قالته هايدي ماكنزي، الأخصائية في علم النفس في بيتسبيرغ لموقع Women’s Health.

وبدوره يوضح موقع سيكولوجي توداي أن الابتسامة التي يتصنّعها أصحاب "الاكتئاب المبتسم" هي بمثابة "آلية دفاع" لإخفاء مشاعرهم الحقيقية عن المحيطين بهم، وذلك نتيجة الموروثات الاجتماعية التي رسّخت في أذهانهم فكرة أن التعبير عن المشاعر ما هو إلا دليل ضعف، فيرفضون رفضاً قاطعاً أن يلعبوا دور "الضحية" أو أن يثيروا شفقة أحد.

من الصعب تحديد الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب المبتسم، لكن هذا النوع من الاكتئاب هو الأكثر شيوعاً لدى الأشخاص الذين يعانون من المزاج المتقلب، وقد يرتبط ذلك بأنهم أكثر عرضة لتوقع الفشل وقضاء وقت عصيب في التغلب على بعض المواقف المحرجة أو المهينة، ويميلون إلى التفكير في المواقف السلبية التي حدثت في السابق، كما أن "الاكتئاب المبتسم" شائع أكثر لدى الرجال الذين تسيطر عليهم العقلية الذكورية، والتي تعتبر أن "الرجل الحقيقي لا يبكي ولا يعبّر عن مشاعره علناً"، ما يفسر السبب في تراجع نسبة الرجال الذين يطلبون المساعدة لحل مشاكلهم واضطراباتهم النفسية مقارنة بالنساء .

قناع مزيّف

"لا تحكموا على الكتاب من غلافه"، هذه المقولة يمكن أن تنطبق على بعض الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب من دون أن يكون ذلك ظاهراً للعيان.  

في الحقيقة لا يختبر الأفراد أعراض الاكتئاب بالطريقة نفسها، فالبعض لا يدرك حتى أنه مصاب بهذه الحالة، بخاصة إذا كان يلاحظ أنه ينجح في إتمام مهامه اليومية على أكمل وجه، في حين أن الابتسامة لا تفارق ثغره طوال اليوم.

الابتسامة التي يتصنّعها أصحاب "الاكتئاب المبتسم" هي بمثابة "آلية دفاع" لإخفاء مشاعرهم الحقيقية عن المحيطين بهم، وذلك نتيجة الموروثات الاجتماعية التي رسّخت في أذهانهم فكرة أن التعبير عن المشاعر ما هو إلا دليل ضعف، فيرفضون رفضاً قاطعاً أن يلعبوا دور "الضحية" أو أن يثيروا شفقة أحد

وعليه قد يكون من الصعب للغاية التعرف على الأشخاص الذين يعانون من "الاكتئاب المبتسم"، إذ يبدو الشخص أمام الجميع أنه ليس لديه أي سبب للشعور بالحزن واليأس، بحيث يكون له وظيفة وشقة وشريك وحتى أطفال، كما أنه لا يعيش عزلة اجتماعية، بحيث أنه يبتسم عندما يقابل الآخرين وينجح في إجراء محادثات ممتعة معهم.

بمعنى آخر، يقوم أصحاب "الاكتئاب المبتسم" بوضع قناع للعالم الخارجي بحيث أنهم يجيدون إقناع الجميع بأنهم يعيشون حياة طبيعية ومليئة بالنشاطات، سواء كانت اجتماعية أم على صعيد الرياضة والفن...أما من الداخل فإنهم يشعرون باليأس والإحباط، حتى أنه في بعض الأحيان قد تتملكهم أفكار حول إنهاء كل شيء ووضع حدّ لحياتهم، والسبب وراء هذه الأفكار السوداوية يعود إلى أن القوة التي يتمتعون بها، أو بالأحرى يتظاهرون بها، لمواصلة حياتهم اليومية يمكن أن تجعلهم عرضة لتنفيذ الخطط الانتحارية.

وعلى الرغم من أن الأشخاص المصابين بـ "الاكتئاب الضاحك" وضعوا "وجهاً سعيداً" أمام العالم الخارجي إلا أنهم يعيشون في دوامة حقيقية، فعلى سبيل المثال فإنهم قد يتلقون دفعة قوية لروحهم المعنوية من خلال رسالة نصية يتلهفون لها من أحد الأشخاص، أو أن تتم الإشادة بهم في العمل لكي يشعروا بالتحسن، قبل أن تراودهم أفكار اليأس والإحباط من جديد.

وتشمل الأعراض الأخرى لـ"الاكتئاب المبتسم": الإفراط في تناول الطعام وعدم الاكتراث لزيادة الوزن، الشعور بثقل في الذراعين والساقين وسهولة التأثر بالنقد، واللافت أن الأشخاص الذين يعانون من هذا النوع من الاكتئاب، هم أكثر عرضة للشعور بالاكتئاب في فترة المساء، وبالحاجة إلى النوم لفترة أطول من المعتاد.

الشعور بالذنب

قد يكون من الصعب تحديد الأسباب التي تدفع البعض إلى الإصابة بظاهرة "الاكتئاب المبتسم"، ولكن من الممكن أن تنبع الحالة المزاجية المنخفضة من مجموعة من العوامل، على غرار مشاكل العمل، انهيار العلاقات العاطفية والشعور كما لو أن الحياة لم يعد لها أي غرض أو معنى.

وفي حين أنه من المهم الحصول على المساعدة للتخلص من "الاكتئاب المبتسم" إلا أن الأشخاص الذين يعانون من هذه الحالة قد لا يعتقدون أن لديهم مشكلة في المقام الأول، بخاصة في حال كانوا يواصلون القيام بمهامهم وروتين حياتهم اليومية، هذا وقد يشعرون بالذنب ويقنعون أنفسهم بأنه ليس لديهم أي شيء لكي يحزنوا عليه، وبالتالي فإنهم يتكتمون عن مشاكلهم، وينتهي بهم الأمر إلى الشعور بالخجل من التعبير عن مشاعرهم نتيجة الوصمة المرتبطة بالمرض النفسي وبالصورة التقليدية المصاحبة للاكتئاب، والتي تعتبر أن الأشخاص الذين لديهم عائلة ووظيفة ومنزل... يجب ألا يشعروا بالاكتئاب، وهذا النوع من التفكير يشكل عائقاً حقيقياً أمام العلاج.

ما الحل؟

في البداية لا بدّ من الاعتراف بأن المرض النفسي لا يفرق بين شخص وآخر، إذ يمكن أن يطال الجميع دون استثناء، كما أنه يجب الاعتراف بأن "الاكتئاب المبتسم" هي حالة موجودة بالفعل وشديدة الخطورة، إذ إنه عندما نتوقف عن إيجاد تفسير منطقي لمشاكلنا على اعتبار أنها ليست جدية بما فيه الكفاية، فعندها نبدأ في إحداث تغيير حقيقي، وبالنسبة للبعض فإن مجرد الاعتراف بالمشكلة هي خطوة كافية لتغيير الأمور، لكونها تضعهم على طريق طلب المساعدة والتحرر من قيود الاكتئاب التي تعيقهم.

ومن ناحية أخرى، اتضح أن التأمل والنشاط البدني لهما فوائد صحية عقلية هائلة، فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة روتجرز في الولايات المتحدة الأميركية، أن الأشخاص الذين قاموا بالتأمل والنشاط البدني مرتين في الأسبوع، واجهوا انخفاضاً بنسبة 40% في مستويات الاكتئاب لديهم، وذلك بعد مرور 8 أسابيع فقط من الدراسة.

هذا ويعتبر العلاج السلوكي المعرفي، وتعلم كيفية تغيير أنماط التفكير والسلوك، خياراً آخر للأشخاص الذين يعانون من "الاكتئاب المبتسم".

أما الأهم من كل ذلك فهو إيجاد معنى للحياة التي نعيشها، وفي هذا الصدد كان عالم الأعصاب النمساوي فيكتور فرانكل، قد أكد أن "حجر الزاوية للصحة العقلية الجيدة هو وجود هدف في الحياة"، موضحاً بأن هذا لا يعني بأن نسعى لنكون في حالة خالية من التوتر والمسؤولية والتحديات، بل أن نسعى لتحقيق شيء في الحياة، عن طريق صرف الانتباه عن أنفسنا والتركيز مثلاً على احتياجات الآخرين.

لا شك أن الحياة تحمل الكثير من الأمور التي تجعلكم تبتسمون، ولكن هل فكرتم يوماً أن الشخص الذي يبتسم في وجهكم قد لا يبتسم لأنه سعيد بل لأنه يريد أن يعيد الأمل لشخص فقده، أو لأنه فقد الأمل وينتظر بهدوء أن يمرّ قطار العمر، أو أنه يبتسم ببساطة لكي ينسى ذكرياته الأليمة والأحداث المأساوية التي شاهدها...

ففي بعض الأحيان نحسد الآخرين على ابتساماتهم ورنّات ضحكاتهم العالية، ويخال لنا أنهم يحلّقون "فوق الغيوم" من شدّة السعادة، في حين أنهم في الحقيقة يعيشون في جحيم وتكويهم الأوجاع مع كل مطلع شمس، ومن يسمع أغنية سلطان الطرب جورج وسوف "يحسدوني لما بضحك" يفهم فوراً جوهر "الإكتئاب المبتسم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image