بين الإنسان والحيوان علاقة وثيقة بدأت بالصراع حول البقاء ثم الاستئناس حتى وصلت إلى أعلى مرتبة لها مع نشوء الحضارات، وظهور الديانات القديمة التي رفعت من شأن الحيوان إلى درجة التقديس والتعبد.
وأبرز مثال على ذلك ما تزخر به جدران المعابد الفرعونية، التي اتخذت العديد من الحيوانات رموزاً دينية لها، وبعد اندثار تلك الحضارة، بقيت الخرافات المتعلقة بالحيوانات عالقة في ثقافة بعض المصريين حتى الآن، خاصة في الأرياف والصعيد.
"اذبح قطتك يوم دخلتك"
يحظى القط بين سائر الحيوانات بمكانة خاصة عند المصريين القدماء، فهو من الفصيلة الأعلى مرتبة على الإطلاق، واعتبروه رمزاً للإله باستيت ابنة معبود الشمس رع، وحددوا يوماً للاحتفال بهذه الإلهة يُسمَّى بـ"عيد السُكر"، حيث يجتمع قدماء المصريون ويحتسون الجعة (البيرة) ويقضون ليلتهم في الرقص والغناء بحسب ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت.
أما المصريون الآن فيتعاملون مع القط بحذر ورهبة، نتيجة للقصص الخرافية الشائعة المرتبطة بهذا الحيوان، خاصة في الأرياف والصعيد، منهم من يعتقد بأن القط الأسود شيطان متجسد، ومنهم من يؤمن بأن القط بلا ذيل توأم إنسان، حتى أنهم اختلفوا فى عدد أرواحه، فالأسطورة المصرية وكذلك المثل الإنجليزى يؤكدان أن للقط تسعة أرواح، والبعض الآخر يظن أنهم سبعة أرواح، ويعتبرون الأشخاص الذين يتمتعون بقوة الجسد لهم "سبعة أرواح زي القطط".
تلك الرهبة التي تحيط القط لن تحميه من عريس جنوبي (صعيدي) قرر أن يستجيب لنصائح العجائز بقريته: "ادبح لها القطة.. عشان تشوف العين الحمرا"، أي قم بذبح قط أمامها لتخاف منه.
ويحكى أن للقصة جذور لبنانية أو مشرقية، حيث تبدأ بزوج يعانى من غلظة طباع زوجته فلجأ إلى صديقه للاستشارة، فاقترح عليه الصديق أن يذبح أمامها قطة، فهذا ما فعله فى ليلة دخلته حين سحب قطته وذبحها أمام الزوجة، حيث انتابها الفزع، وظلت مطيعة لزوجها "بقية العمر"، وعلى الفور نفذ الصديق النصيحة. غير أن الزوجة العنيدة اتنزعت منه القط، وهى تذكره بضعفه وقلة حيلته.. وعندما عاد لصديقه أوضح الصديق: اذبحها في الليلة الأولى.
وشاع هذا الطقس عند الرجل الجنوبي، خاصة قبل دخول التكنولوجيا والانترنت، فهو يعيش في مجتمع شديد الذكورية وعليه أن يثبت لعروسه الصغيرة بأنه قادر على العراك مع أكثر الكائنات رعباً ودموية، والفتاة المترقبة للحدث تجلس على سرير الزفاف وتتابع المعركة الدائرة وتفهم الدرس جيداً: إن صدر منها خطأ ستري العين الحمراء. وسيكون مصيرها كمصير القط المذبوح.
تقول منى علي، اسم مستعار، (35 عاماً) وتعمل بشركة خاصة بالاستيراد والتصدير، تسكن في العاصمة القاهرة، لرصيف22 أنه في شبابها كانت ولعة بـ"الروحانيات"، وأن أحد أصدقائها عندما مات، وحزنت عليه كثيرا، رأت في غرفتها قطة سوداء تتنقل في المنزل، وأخبرها أحد أصدقائها أنها روح ميت فارقت الحياة تواً.
"الزوج الصعيدي يخشي من تمرد زوجته وهو عار عند أهل الجنوب، مما يدفعه إلى ذبح القط، هذا ما تقوله القصة التي تحولت إلى عبرة، وهذا ما يسعى إليه"
"المرأة التي تشعر بالضيق، وتظن أنها محسودة هي في الأصل قد تكون مصابة بالاكتئاب، ولكن طريقة تفكيرها ستجرها إلى العرافات والدجل"
ابن عرس ضحية الحالم بالذهب
ابن عرس في بيئته الطبيعية يلقب بصاحب القلب الشجاع، ويعرف بقدرته الفائقة على الصيد والقتال. كما أنه يعرف بمناعة ضد السموم تجعل من الثعابين والأفاعي وجبة شهية وسهلة ومفضلة له. وبين المصريين يلقب بـ"النمس" فهو المتحايل على الجميع.
وتنتشر في مصر ما يُعرف بـ"العِرسة المصرية"، وهي فصيلة من فصائل ابن عرس، كائنات ليلية تتغذى على القوارض والطيور الصغيرة وعلى بعضها البعض.
وقد وصفها كمال الدين الدميري بكتابه "حياة الحيوان الكبرى" أنه "الحيوان المسمي بالدلق، وإنما اختلف لونه ووبره بحسب البلاد، وفى طبعه أن يسرق ما وجد من فضة أو ذهب".
وهو ما أشار إليه أيضاً زكريا ابن محمد القزوينى فى كتابه "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" حيث عرفه بأنه عدو الفأرة يدخل جحرها ويخرجها، ويحب الحلي والجواهر ،ويسرقها، ويعادي التمساح والحية.
"ابن عرس عدو الفأرة، يدخل جحرها، ويخرجها، ويحب الجواهر، ويسرقها، ويعادي التمساح والحية".
ويبدو أن هذا الاعتقاد لا يزال يتسرب حتى اليوم في قرى مصر، فالبعض خاصة من كبار السن لايزال يؤمن بأن اصطياد عِرسة حية ثم وضعها في "برطمان"، وإحكام غلقها، ودفنها تحت البيت أثناء تأسيسه وسيلة فعالة لجلب الخير والرزق لأصحاب البيت.
تقول فاطمة الزهراء، 78 سنة، لرصيف22 بأنها قبل أن تبني بيت العائلة حرصت أن تدفن ابن عرس حياً.
توضح فاطمة رأيها: "كلنا نعرف أن العرسة تأكل الذهب كما تمتص دماء الكتاكيت، بالتأكيد حين تموت وتتحلل، سيخرج هذا الذهب ليكون كنزا لأصحاب هذا البيت".
وبسؤالها عن الكنز المزعوم بعد كل تلك السنوات؟ تجيب فاطمة: "لن يظهر إلا بعد أن يتهدم البيت من تلقاء نفسه"، تضيف مؤكدة قناعتها "بفضل تلك العِرسة ينعم البيت كله بالخير وراحة البال أما الذهب فسيأتى فى وقته".
"البرص نفخ النار على إبراهيم"
البرص أو (الوزغة) من الزواحف التي قد تكون سامة أو غير سامة، ومنها ما يعيش في الصحاري، ومنها ما يعيش بين البشر، وهي من الكائنات التي اختصها بعض فقهاء الإسلام بمعاملة قاسية، ويتداولون أكثر من حديث نبوي يحرض على قتلها، وذلك لأن البرص كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، بحسب رواية مذكورة في "صحيح البخاري".
وجاء في كتاب "صحيح مسلم" حديث يقول: (من قتل وزغة في أول ضربة، فله مائة حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية له كذا وكذا، حسنة ومن قتلها في الثالثة له كذا وكذا حسنة).
ولكن من عادات البعض في مصر الخوف الزائد من الزواحف، والبرص من الكائنات التي شاع عنها بأنها تبث في الملح سمها القاتل، وكذلك في الملوخية، وغالباً ما يكون الصدام بين البرص والآمهات في المطبخ، لذلك فالآمهات يجدن أنفسهن غير قادرات على المواجهة والقتال. عوضاً عن ذلك تلجأ إلى الهتاف الشهير (صاحب البيت اسمه محمد) كإعلان أن من يسكن هنا مسلم ولا يجوز إيذاؤه وعليه فليرحل بسلام.
يعلّق محمد فتحي، إمام وخطيب مسجد الرحمة في حي في القاهرة، وموظف بوزارة الأوقاف على الجانب الديني الإسلامي المرتبط بالهتاف أمام البرص، قائلا: "تلك بدعة بلا شك، فالحديث النبوي الشريف حثنا على قتل هذا الزاحف الضار على الفور، ولا يوجد في كتب السير أو الفقيه ما يشير إلى تلك المقولة".
وأشار فتحي لرصيف22 أن هذه البدعة ترجع إلى عهد الدولة الفاطمية، موضحاً أن "السُنة الإسلامية" تعرضت في تلك الحقبة إلى التنكيل والبُعد التام عن الدين الصحيح.
الخرافة "حل بسيط لمشكلة معقدة"
يرى إبراهيم السيد، أخصائي الطب النفسي والباحث في علم الجدل السلوكي،أن الخرافة حل بسيط وقاطع لمشاكل معقدة ومستعصية عن الفهم.
ويوضح السيد أن الخرافة تقدم قصة يستوعبها العقل البشري ويصدقها فتدفعه إلى التطبيق الفعلي لها وذلك لخوفه من المجهول أو أن تكون وسيلة لتحقيق منفعة.، ويضيف أن "الزوج الصعيدي يخشي من تمرد زوجته وهو عار عند أهل الجنوب، مما يدفعه إلى ذبح القط، هذا ما تقوله القصة التي تحولت إلى عبرة، وهذا ما يسعى إليه".
ويضرب السيد مثلا آخر بالمرأة التي تهتف باسم محمد حين تصادف برصاُ، هنا تقوم بالحماية، وتحصن نفسها من المواجهة، وهي مؤمنة بأنها رفعت سلاح لا يمكن مقاومته.
يقول السيد لرصيف22: "هنا تقدم الخرافة حلولاً وهمية وغير فعالة ولكن إيمان أصحابها بها يجعل منها طقس مقدس".
"الخرافة تقدم حلولا وهمية وغير فعالة، والإيمان يجعلها طقساً مقدساً"
ويحذر السيد من انتشار تلك الخرافات، ويراها العدو الخفي للعلم، فهي تسوق العقل إلى تفكير غير منطقي، وقد تجره إلى مصائب كبري، فالمرأة التي تشعر بالضيق وتظن أنها محسودة هي في الأصل قد تكون مصابة بالاكتئاب، ولكن طريقة تفكيرها ستجرها إلى العرافات والدجل، مما يجعل مرضها يتفاقم.
يضيف السيد: "كذلك من يبحث عن الذهب في أحشاء ابن عرس انصرف عقله عن الكنوز الحقيقية الموجودة فوق الأرض والتي تأتي بالعمل والعلم".
لا بد أن ننتصر للعلم في مقابل الخرافة، فالعلم يضع المسئولية في حيازة الإنسان، وعلى الإنسان أن يعمل ويتعلم كي يحل مشاكله وينتصر على مخاوفه، وأن يدرك أنه لا قوة غيبية تتحكم في مصائره، إنما هي أوهام مات عليها أجداده. يختم السيد حديثه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون