لم تكن صدفة، ولم يكن محض شيء عابر؛ الأمر أعمق من ذلك بكثير. شيء محتوم قادني إلى "حُميثرة"، ذلك الوادي الباسط ذراعيه حول الجبل المسمّى باسمه، والمحتمي بضريح أبي الحسن الشاذلي، قطب الأقطاب، والكهف الأمن للطلّاب في صحراء "عيذاب" الواقعة في مثلث حلايب وشلاتين، على ساحل البحر الأحمر في أقصى الجنوب الشرقيّ لمصر، والذي يزوره الآلاف المؤلفة من أهل صعيدها.
رحلة شاقّة للغاية؛ سعيًا لتحقيق أهدافها تَطلّب مني الأمر الكثير من الصبر والتأمل لفهمِها واستكشاف كلِّ ما يدور حولها من حكايات وروايات زخر بها التاريخ الشعبي بين أهل مصر.
فما بين الطرق الممهّدة والترابية عشتُ لحظات عظيمة كنتُ فيها من حين لآخر أخرج رأسي من نافذة السيّارات التي تنقّلتُ بها، لا من أجل استنشاق الهواء، ولكن من أجل النظر إلى سماء صافية مليئة بالنجوم وأجرام سماوية لم أرَ مثلها من قبل طوال حياتي.
على مسافة تبعد عن القاهرة ما يزيد عن 900 كم تقريبًا، وعلى بعد 23 كم شمال مدينة حلايب تقع عيذاب التي تعرف أيضاً باسم "عيداب"، ويقال إن عيذاب هو اسم نوع من الأعشاب باللغة البجاوية المنسوبة إلى قبائل "البجا" التي سكنت المنطقة، وهو ينمو بكثرة فيها.
على مسافة تبعد عن القاهرة ما يزيد عن 900 كم تقريبًا، وعلى بعد 23 كم شمال مدينة حلايب تقع عيذاب، ويقال إن عيذاب هو اسم نوع من الأعشاب باللغة البجاوية المنسوبة إلى قبائل "البجا" التي سكنت المنطقة، وهو ينمو بكثرة فيها
بدأت عيذاب كنقطة لتلبية احتياجات عمّال المناجم في الصحراء الشرقية، ثمّ صارت ميناءً رئيسياً ومحطاً للسُّفن القادمة من الهند وشرق أفريقيا وجنوب الجزيرة العربية واليمن، ثمّ أصبح الميناء الأول والوحيد لنقل الحجيج لمدة أربعة قرون تقريبًا، من القرن العاشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي، بعد انقطاع الطريق البرّي من ناحية الشام خلال الحروب الصليبية. وقد وُجدت بها مقابر كثيرة لا تتناسب وحجم المدينة، وهذا يشير إلى كثرة عدد ضحايا الصِّعاب التي كان يواجهها الحجيج خلال موسم الحجّ وزيارتهم لها.
وقد حدّد الأثريون موقع ميناء عيذاب فى الصحراء الشرقية جنوب قرية "أبو رماد" الواقعة جنوب محافظة البحر الأحمر، وظلّ الميناء نقطةَ وصول رئيسية إلى أن بدأ الخراب يضرب المدينة بسبب نضوب مناجم وادي العلاقي من الذهب في عهد الناصر محمد بن قلاوون، وأيضاً ثورات قبائل العرب البدو والبجاة، ثمّ تخريبها على يد السلطان الأشرف برسباي عام 1426م.، عقابًا لأهلها عمّا حدث منهم من نهب للقافلة التي كانت تحمل السلع والأقوات إلى مكة. (د. مديحة الشرقاوي، برسباي وسياساته الداخلية والخارجية، الدار الثقافية للنشر، القاهرة 2007.)
هذا إلى جانب ظهور ميناء سواكن بالسودان وزيادة نشاطه ممّا أضعفه، وزاد الطّينَ بلّة اكتشافُ طريق رأس الرجاء الصّالح، الذي ساهم في تلاشي حركته وإنهائها خصوصاً مع تحوّل طريق الحجّ إلى مساره البري القديم على يد السلطان الظاهر بيبرس.
والحقّ أن المشقّة التي يتكبّدها هؤلاء الزائرون أصعبُ بكثير من مشقّة الحجّ في منطقة يقول عنها الكاتب جمال الغيطاني أنها: "من أعمق أماكن العالم صمتاً؛ صمت لم يخدشه صوت مخلوق معظم الوقت
على حافة الصمت وأثناء رحلتي لاحظتُ أنّ جغرافيا صحراء عيذاب تتّسم بكثرة الجبال والتِّلال الصخرية بنّية اللّون وكذلك الوردية منها، والمليئة بالممرّات والدروب التي لا يعرفها إلا دليل خبير، اضطرّته الظروف للعيش في الصحراء مثل العرب البدو.
هذا إلى جانب أشجار الطلح أبرز المعالم النباتية المنثورة بينها، وكذلك أشجار البشام التي تكافح بهما الصحراءُ حرارةَ الشمس الكبيرة.
ومع شرودي بالنّظر في الأفق جذب عينيّ سعفُ النخيل والراياتُ الخضراء التي تزيّن السيّارات المحملة بأهل الصعيد وغيره من الذين استعدّوا للوفود، وشدّوا الرحال، راغبين ومحبّين، لزيارة لضريح أبي الحسن الشاذلي، القطب الصوفيّ، الذي لاقى ربّه وهو في طريقه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، والذي يقع في عمق صحراء عيذاب.
ويؤمن البعض أن من سعى لزيارة ضريحِه سبعَ مرّات، فكأنه حجّ مرّة؛ لذلك وجدتُ البعضَ فوقَ جبل حميثرة يمارسون عادة الحجارة السبع، والتي يضعونها فوق بعضها تأكيدًا على العودة إليه مرّة أخرى.
والحقّ أن المشقّة التي يتكبّدها هؤلاء الزائرون أصعبُ بكثير من مشقّة الحجّ في منطقة يقول عنها الكاتب جمال الغيطاني أنها: "من أعمق أماكن العالم صمتاً؛ صمت لم يخدشه صوت مخلوق معظم الوقت. دائمًا ما تقع أضرحة الأولياء والصالحين عند الحدود الفاصلة، عند مداخل المدن، عند المرتفعات المطلة على القرى والوديان."
وفي حميثرة وعلى بعد 250كم تقريبًا غرب مدينة مرسى علم، رأيتُ أموراُ عدّة؛ خلق عظيم كان لِقرى صعيد مصر نصيب الأسد منهم، ومع بعض المحافظات الآخرى زاد العدد عن العشرين ألف نسمة تقريباً، ما بين صغير وكبير؛ نساء ورجال غلبت عليهم مغبة الطريق ومشقته يرتحل المحبّ فيهم كلّ عام قاصدًا ضريح القطب الصوفي المغاربي الكبير أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف، المنتهي نسبه إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الزاهد الذي تنسب له الطريقة الشاذلية لحضور احتفالات مولده والليلة الختامية.
ولد أبو الحسن الشاذلي عام 1196م. بقبيلة الأخماس الغمارية، وتتلمذ عند نشأته على يد الإمام عبد السلام بن مشيش، والذي كان له كبير الأثر في حياته العلمية والصوفية، ثم ارتحل إلى تونس، وسلك طريقَ التصوف واتّجه من قرية شاذلة -التي انتسب إليها- إلى الإسكندرية في مصر، حيث أقام وتزوّج وانتشر صيته فيها على أنه من أقطاب الصوفية في العالم بعد تأسيس مدرسته الشاذلية الصوفية. (مأمون غريب، أبو الحسن الشاذلي (حياته.. تصوفه .. تلاميذه وأوراده)، دار غريب، القاهرة.)
ووفق ما ذُكر في كتاب "لطائف المنن"، للعارف بالله ابن عطاء السكندري، قد صاهره أبو العبّاس المرسي أبرز أتباعه، والذي قال له أبو الحسن: "يا أبا العباس ما صحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت". وعاصره العزّ ابن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء وشيخ الإسلام.
وذكر ابن بطوطة في رحلته (تُحفة النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) أن أبا الحسن الشاذلى كان يحجّ كلّ سنة. فلمّا كان فى آخر سنة له قبل وفاته، طلب من خادمه قبل التوجّه إلى الحجّ: "اصطحبْ فأساً وقُفة وحنوطاً. فقال له: لماذا؟ قال: فى حميثرة سوفَ ترى. فلمّا بلغ جبل حميثرة، اغتسل الشيخ وصلّى ركعتين، فقبض الله روحه في آخر سجدة، ودفن هناك.
ومع اقتراب الليلة الكبيرة لمولده وتزامنًا مع وقفة الحجيج على جبل عرفات بمكة، صعدتُ جبل حميثرة مع الصاعدين من مريدي وأتباع الطريقة الشاذلية ومحبّي أبي الحسن الشاذلي الطامعين في كرم الله وشفاعته ببركة آل البيت وبركته والأولياء الصالحين غير عابئين بهمّ الطعام والشراب، لأن ضيوف الإمام كِرامٌ، وكلّ حاجاتهم على الله قضاؤها. ورغم خوفي من المرتفعات إلا أنني نظرتُ وبتمعّن في كلّ تلك الأحوال التي تجري في الوادي وفي الوجوه التي أتت.
الشاهد في الأمر أنني لم أرَ أنوارَ مكة تلك التي كتب الكثيرُ عنها وعن رؤيتها من فوق جبل حميثرة؛ فكلُّ ما رأيتُه كان الجبال والتِّلال الصخرية التي تلفّ الوادي من كلّ مكان، وغروب عذب للشّمس كان كالماءِ البارد على صدري.
وعند النزول من حميثرة، توجّهتُ إلى ساحة ومقام السيدة زكية بنت عبد المطلب بدوي ساكنة الوادي، والتي نذرت نفسَها لخدمة ضريح أبي الحسن الشاذلي حتى وافتها المنية عام 1982م. حيث هامت الأرواح في مجالات العلا مع صوت المنشد الشيخ منتصر الدشناوي الذي صال وجال مع المنشد الشيخ رجب الإسناوي، والذي بدورِه ملأ ساحة الأشراف المقابلة لها بكلمات المديح والوله والتولّه الذي ذهبت به العقول المجذوبة حبّاً في حضرة وذكرٍ لم أشهد مثلهما منذ سنوات عدة.
معهما حاولت التقاط أنفاسي في إحدى الخِيَمِ التابعة لأبناء قبيلة العبابدة القادمين من مدينة شلاتين، والذين تعود أصولهم إلى الشعوب القديمة التي عاشت بين البحر الأحمر والنيل والمشتغلين في الرعي والتجارة.
جلست مع كوب الشاي الساخن غير عابئ بالساعات العشر التي استغرقها الطريق ذهاباً وسيستغرقها عودة بي بعد مغامرة فزتُ فيها باللذّات.
الصور في المقال محاولة توثيق صغيرة لصحراء عيذاب ووادي حميثرة، وجبله الرابض أمام ضريح أبي الحسن الشاذلي، أثناء الاحتفال بمولدِه في حُميثرة بالبحر الأحمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...