على مسافة ليست بالبعيدة من وسط المدينة بالقاهرة، المكتظّة بالمساجد والمآذن والقباب وفي حيّ الخليفة بمنطقة السيدة زينب (أم العواجز ورئيسة الديوان)، ما أن تقع عين الشاهد على أول مئذنة حلزونية تُرفع في سماء مصر لثالث المساجد الجامعة التي أُنشئت في عاصمتها، حتى يتيقّن المرءُ من مدى دقّة وبراعة المهندس الذي كان وراء بناء هذا الصّرح العبقريّ الذي ظلّ شاهدًا على ما في القاهرة منذ صار على قمة "يشكر بن جديلة" الصخرية، أحد أطراف جبل المقطم وحتى لحظته.
مسحورًا سرتُ كما لو كنت مندوهًا من شيء ما، مشدوهًا بما رأيت، جذبتني تلك الإبرة السماوية كمغناطيس نحوها. ما أن وقعت عيناي عليها حتى حاولت فكّ طلاسم ما خفي عليّ من تاريخ لم أعرفه حول البناء الحاوي لها، والذي نظرًا لما يمثّله من قيمة كبيرة، استُخدم كوجهة لتزيين العملة المصرية فئة الخمس جنيهات، وأصبحت صورة الجامع على أحد جوانبها.
قيل إن أحمد بن طولون (835م.-884م.) حين أمر ببناء الجامع، طلب من المهندس سعيد بن كاتب الفرغاني القبطي الذي تولّى عمارة مقياس النيل في جزيرة منيل الروضة عام 864م. أن يشيد له مسجدًا جامعًا لا تأتي عليه النيران، أو تهدّمه مياه الفيضان، فإن احترقت مصر بقى، وإن غرقت أيضًا.
رغم أن مسجد عمرو بن العاص هو أوّل المساجد الجامعة، ولا يزال موجوداً إلا أن مسجد ابن طولون يُعدّ أقدم مساجد مصر القائمة حتى الآن لاحتفاظه بحالته الأصلية مقارنة بمسجد عمرو بن العاص الذي توالت عليه الإصلاحات التي غيرت من معالمه، ومسجد العسكر الثاني
فأتمّ الفرغاني البناء بالطوب الأحمر عام 877م. على مساحة إجمالية تقدر بحوالي 6.5 فدان بمدينة القطائع وعلى الرغم من تقليدية تخطيط البناء المكوّن من صحن أوسط مكشوف يحيط به أربعة إيوانات أكبرها إيوان القبلة إلا أنه دون غيره من العمائر الإسلامية ينفرد بمئذنة فريدة من نوعها تكاد أن تكون هي وسابقتها في المسجد الجامع بسامراء العراق الذي أمر ببنائه الخليفة العباسي المتوكل على الله (822م.-861م.) على هذا الشكل في وقتنا الحالي.
ورغم أن مسجد عمرو بن العاص هو أوّل المساجد الجامعة، ولا يزال موجوداً إلا أن مسجد ابن طولون يُعدّ أقدم مساجد مصر القائمة حتى الآن لاحتفاظه بحالته الأصلية مقارنة بمسجد عمرو بن العاص الذي توالت عليه الإصلاحات التي غيرت من معالمه، ومسجد العسكر الثاني الذي اندثر وزال مع زوال مدينة العسكر التي حلّ محلّها حيّ "المدبح" الحالي الواقع في منطقة السيدة زينب.
حتى كتابة هذه السطور مازلت منبهرًا بعد أن تطلّعتُ إلى زيارة الجامع لمجرّد اكتشاف رؤيتِه، وأنا صغير على عملة الخمسة جنيه الورقية التي حصلت عليها كعيدية لمشاهدة فيلم البرنس (1984)، والذي للصدفة كان مُستخدماً كـlocation لتصوير أحداث الفيلم نفسه
ويُعتبر -جامع ابن طولون- من المساجد المعدودة المعلّقة، فيصعد إلى أبوابه بدرجات دائرية الشكل، متدرجة، تهدف هي وسورُه الخارجيّ الذي يضاهي بارتفاعه حوائط المسجد إلى عزل المصلّي عن العالم الخارجي وتهيئته نفسيًا للخشوع وتحقيق الطمأنينة أثناء الصلاة والعبادة.
يجاور جامع ابن طولون من الجهة الغربية لسورِه مسجدَ ومدرسة الأمير سيف الدين صرغتمش الناصري، أحد مماليك السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، والواقع في شارع الصليبة بحيّ السيدة زينب، بينما يلاصقه من الجهة الشرقية بيت الكريتلية وسبيل ومنزل محمد بن الحاج سالم الجزار المجموع بهما حاليًا متحف "جاير اندرسون".
وعرف الجامع في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بـ"الجامع الفوقاني"، تمييزاً له بمكانه المرتفع الذي شُيّد عليه عن "الجامع السُّفلاني"، وهو جامع عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط.
ويبلغ عدد أبوابه 21 باباً، يقابلها نفس العدد في الزيادات، وسبب تعدّد الأبواب كان لتسهيلِ الوصول إلى المساكن والأسواق التي كانت حول الجامع.
حتى كتابة هذه السطور مازلت منبهرًا بعد أن تطلعت إلى زيارته، لمجرّد اكتشاف رؤيتِه وأنا صغير على عملة الخمسة جنيه الورقية التي حصلت عليها كعيدية في أحد الأعياد لدخول إحدى دور العرض السينمائية بمدينتي في تسعينيات القرن الماضي لمشاهدة فيلم البرنس (1984) للمخرج فاضل صالح، والذي للصدفة كان يستخدمه كـlocation لتصوير أحداث الفيلم نفسه
والشبابيك من الجص المفرغ، حُلّيت بزخارف متنوعة، ويختلف أشكالها تبعاً للعهد الذي أُضيفت فيه، ويتوسط جدار القبلة المحراب الكبير الذي لم يبق من معالمه الأصلية سوى تجويفه والأعمدة الرُّخامية التي تكتنفه، وبجانب المحراب منبر أمر بصُنعِه السلطان المملوكي، لاجين (1296م-1299م)، وحلّ محل المنبر الأصلي، وهو مصنوع من الخشب المجمع على هيئة أشكال هندسية.
رُمّم الجامع على مراحل وعهود مختلفة آخرها محاولات الترميم في عام 2005 حين قامت وزارة الثقافة المصرية بترميم زخارفه وإفتتاحه كواحدٍ من بين 38 مسجداً تمّ ترميمها ضمن مشروع القاهرة التاريخي.
الشاهد في الأمر أنني حتى كتابة هذه السطور مازلت منبهرًا بعد أن تطلعت إلى زيارته لمجرّد اكتشاف رؤيتِه وأنا صغير على عملة الخمسة جنيه الورقية التي حصلت عليها كعيدية في أحد الأعياد لدخول إحدى دور العرض السينمائية بمدينتي في تسعينيات القرن الماضي لمشاهدة فيلم البرنس (1984) للمخرج فاضل صالح، والذي للصدفة كان يستخدمه كـlocation لتصوير أحداث الفيلم نفسه.
الصور في هذا المقال، محاولةُ توثيق صغيرة لمسجد ابن طولون الجامع الواقع بميدان ابن طولون بحيّ الخليفة بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...