شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مقام

مقام "أبو طاقة" العلوي في سوريا وقدرات "الطاقة" العجائبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الثلاثاء 12 يوليو 201604:28 م

إذا كنت سورياً متهماً بقضيةٍ ما، وتريد إثبات براءتك، يمكنك أن تعرض على المحكمة أخذك وباقي المتهمين، وصاحب الدعوى، إلى مقام "أبو طاقة". لا تقلق، المحكمة الصغيرة، الشعبية، غير الرسمية، تلك، سيؤخذ بحكمها بشرط موافقة جميع الأطراف على الاحتكام إليها. قد ينقذك أبو طاقة أو يهلكك. قد تولد من طاقته أو تموت.

يغنى الشريط الجبلي السوري، الواصل بين مدن الداخل في وسط سوريا، كحماة وحمص، ومدن الساحل غرباً، بثقافة الطائفة العلوية. أهالي هذه الجبال ينتمون بشكل عام، إذا ما نحّينا "وادي النصارى" جانباً، إلى الطائفة العلوية. وعلى الرغم من انتقالهم بشكل شبه جماعي منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، إلى دمشق والمدن الساحلية وتمركزهم فيها، فإن قراهم تلك ما زالت مأهولة، وما زال للمزارات والصروح التي تعبر عن ثقافتهم، وتحفظ تاريخهم، من يقوم عليها ويحفظها.

ويعدّ مزار "أبو طاقة" أحد تلك الصروح التي تعبّر بشكل أو بآخر عن أسطورة دينية قديمة، لا تزال منتشرة بين الناس، إذ يؤمن البعض بها، ويكذبها البعض الآخر، حتى من أبناء الطائفة أنفسهم. فهي ليست من أساسات المذهب العلوي.

يقع مزار الشيخ يوسف بن عفيف الدين، من آل جعفر بن أبي طالب، المعروف شعبياً بلقب "أبي طاقة" في قرية "ربعو"، شرق مدينة مصياف في ريف حماة. وهو أحد أولياء الطائفة العلوية، وتوفي عام 450 للهجرة. وتقول الرواية الشائعة إن هذا المزار الديني بُني على إثر رؤيا لأحد زعماء الطائفة الإسماعيلية من عائلة علي الأيوبي في مصياف. وقد كان الأخير يعاني مرضاً عضالاً، فأتاه الشيخ يوسف في منامه قائلاً: "شيّد فوق مقامي قبّة، تبرأ من دائك".

وهكذا كان، وصار مقام "أبو طاقة" مقاماً دينياً يقصده أبناء الطائفة العلوية بدايةً، ثم الكثيرون من السوريين من الطوائف الأخرى، وذلك بعد أن اشتهرت "طاقته" بقدرتها على كشف الكاذبين مهما حاولوا إخفاء كذبهم. وقد توالى على خدمة المقام شيوخ الطائفة الإسماعيلية بدايةً، ثم شيوخٌ من الطائفة العلوية يتم تعيينهم بإجماع شيوخ العشائر الإثنتي عشرة، وبشكلٍ سري طبعاً.

أما الطاقة التي يأخذ المقام اسمه منها، فهي عبارة عن كوّة في جدار القبة الجنوبي، بطول 32 سم وعرض 23 سم. ويأتي إليها الناس من جميع أنحاء سوريا للفصل القاطع في قضية ما، نزاع أو سرقة أو حتى جريمة قتل. فيقسم المتهم أمام صاحب الحق على كتاب دينه، بغض النظر عن مذهبه، ثم يُدخل جسده في فتحة الطاقة المتصلة بداخل المقام.

وبحسب الاعتقاد الشائع، فإن كان صادقاً يتمكن من الخروج من فتحة الطاقة المطلة على خارج المقام مهما كان جسده ضخماً، أما إذا كان كاذباً فإن الطاقة ستضيق عليه وتحجزه مهما كان جسده نحيلاً، ولن يتمكن من الخروج إلى أن يقول الحقيقة.

عند التجوال في المناطق الجبلية وفي الساحل السوري، تسمع آلاف القصص عن اتخاذ الكثير من القضاة السوريين من شهادة أبي طاقة، شهادةً صادقة، صحيحة، مثبتة، في قضايا مهمة، منها جرائم القتل. وتسمع قصصاً عن أن القاضي لا يطلق حكماً ثابتاً غير قابل للطعن أو الاستئناف إلا بعد قيام الشرطة بأخذ المتهم وصاحب الدعوى إلى المزار ليقسما أمام حشدٍ من الناس، هم أهل القرية والقائمون على خدمة المزار، فتكون كلمة الفصل للطاقة.

ويحدث أن توافق المحكمة على احتكام المتخاصمين إلى "أبو طاقة" بعد موافقة جميع الأطراف كنوع من تسوية بين الطرفين. ولا يوجد أي نص في القوانين السورية، يقبل الاحتكام إلى مقام "أبو طاقة" أو مقامات مشابهة لكي يصدر القاضي حكمه النهائي. ويقول أحد المحامين، وهو من الحقوقيين العاملين في مجال محاكم الجزاء السورية، إن "قبول القضاة بأخذ المتهمين إلى أبي طاقة هو عرف محلي خارج القانون الوضعي، وإذا تم الاعتماد على شهادة أبي طاقة وحدها، يعتبر ذلك خروجاً عن القانون، يعاقَب القاضي عليه".

عار ديني واجتماعي

يعمل رامي (إسم مستعار)، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، في أحد مطاعم مدينة طرطوس، وهو من أبناء إحدى قرى ريف طرطوس، ذات الأغلبية العلوية. رامي شاب مؤمن، أخذ صفوف الدين السرية في سن المراهقة، والتزمها، وأكّد أن "الذهاب إلى الطاقة هو عارٌ اجتماعي بحت، حتى لو ثبتت براءتك في ما بعد. فأبناء الطائفة في الشريط الجبلي من مصياف وحتى الساحل يعرف بعضهم بعضاً بشكلٍ أو بآخر، وإذا رآك أحدهم ذاهباً إلى المقام، فسيصل الخبر إلى قريتك على أنك متهم، وهذا ما سيؤدي إلى انتشار شائعات عنك تستمر فترة طويلة".

روى رامي قصة كان شاهداً عليها في مكان عمله ليشرح سطوة الطاقة على الناس، وقدرتها على إثارة الرعب في نفوسهم، وحضهم على الاعتراف بالحقيقة حتى قبل أن يذهبوا إلى الطاقة. فعندما سرق أحد زملائه العاملين في المطعم نفسه جهازه الخليوي، لم يقدم صاحب العمل شكوى إلى الشرطة، ولم يضطر حتى إلى أخذ العاملين إلى "أبو طاقة"، بل هددهم به فقط، فما كان من السارق إلا أن أعاد الهاتف إلى مكانه دون أن يراه أحد.

الدكتور سامر، طبيب نفساني في التاسعة والعشرين من عمره، من أبناء طرطوس المثقفين، رأى أن "الأمر ليس له علاقة بأساطير الدين فقط، لكن بأثر العامل النفسي الجماعي على الناس، حتى على المتعلمين منهم. والمعتقدات الشائعة تولّد خوفاً جماعياً من أبي طاقة، وهذا يؤدي إلى نجاح طاقته".

على موقع يوتيوب، هناك مشاهدات مسجلة للطاقة، ولعبور المتهمين منها. في بعضها ينتهي التسجيل بخروج المتهم، وهذا يعني أن الطاقة حكمت ببراءته. وفي بعضها الآخر، لا ينجح المحتكم إليها، إذا كان ضخم البنية، في الخروج منها فيضطر إذ ذاك إلى طلب المساعدة ليتمكن من العودة إلى داخل المقام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image