إذا كنت حيّاً ترزق في مصر و"فاتك قطار الزواج"، ما يعادل 25 سنة للفتاة و30 سنة للشاب، فأنت محاصر بهذه الاتهامات والأحكام: إمّا أنك شاب "هلاس" تعشق اللعب ببنات الناس وقضاء الوقت "على كيفك" دون أي قيود أو ارتباطات، أو أنك "شاب فاشل"، غير قادر على تحمّل المسؤولية، بينما في حال كونك فتاة فأنتِ، بحسب نفس الشخوص، تقعين ضحية أحكام أيضاً: إمّا لعوب تعشقين جلب الرجال إلى حديقتك الخلفيّة للتسلية بهم فرحاً بكثرتهم، أو أنكِ لا تملكين من الجمال أو المال ما يمكن أن يُغري أحد بأن يطلبك لتشاركيه حياته.
هنا وبمرور الأيام، ستسمع الكثير من الأحاديث حول من فاتهم "قطار الزواج" وأصبحوا عرضةً للقيل والقال، فهذا هو العهد دائماً، طالما انطبقت عليك المواصفات وتخطيت السنَّ الذي تراه أغلب الأُسر مناسباً للزواج فأنت ضحية لتصنيفات بالية… صحيح أنك كأي إنسان عاقل وواعي، قد ترى في "فوات القطار" هذا أمراً تحمد الله عليه ليلاً نهاراً لأسباب تتنوّع وتتعدد دوماً، إلّا أن الآخرين لن يفوّتوا الفرصة لاتهامك، ولو بنظرة تفصح عما يجول بالصدور والعقول.
الفتيات هن الضحايا الأكثر عرضة لتلك الاتهامات والأحكام، حيث ترى أغلب الأسر في مصر أن "البنت مسيرها لبيتها"
تعودنا في السابق أن تكون الفتيات هن الضحايا الأكثر عرضة لتلك الاتهامات والأحكام، وما زلن، حيث ترى أغلب الأسر في مصر أن "البنت مسيرها لبيتها"، وبالتالي فلا حاجة للتعليم أو تحقيق الذات أو الاجتهاد أو الطموح، وطالما النتيجة معروفة وطالما أنها ستدفن كلّ ما حققته وكلّ ما كانت ستسعى لتحقيقه تحت تلال مسؤولية البيت والزوج والأطفال، فلا داعي من الأساس لأي جهد سوى إتمام المهمّة بنجاح وتغيير الخانة في البطاقة الشخصيّة من آنسة إلى متزوجة، وطبعا كلّما مرّ الوقت كلّما بدأت الأم في لعب دور محبب للبعض، ألا وهو "الزنّ" والإلحاح في طلب الزواج، وعند هذه المرحلة تبدأ الأم يومياً قبل الأكل وبعده، في تعديد أسماء من أسعدهن الحظ ولحقن بقطار الزواج، وماذا سنقول للناس؟ وكيف سينظرون إلينا وفي بيتنا فتاة لم تتزوج؟ وقد تصعق حالياً وأنت تعرف أن عدداً كبيراً من الأمهات الآن بات يمارس نفس الدور مع الذكور مع اختلاف الأسماء بالطبع، فالحاضر هنا سيكون ذكراً أيضاً حتى تستقيم المقارنة.
أمام هذا الزنّ، وفي ظلّ ارتفاع معدلات ما يسمّى خطأ بـ"العنوسة"، وجد القلق والتوتر والخوف من التأخّر في الزواج، طريقه إلى بعض الشباب من الجنسين، فاندفعوا أو دُفِعوا إلى القبول بأوّل من يطرق الباب، دون التريّث في اختيار شريك الحياة أو اعتماد معايير الاختيار الصحيحة التي تقوم على التفاهم والتناسب بين الطرفين، الأمر الذى يصل بأغلبهم في النهاية إلى محاكم الأسرة لطلب الخلع، أو إلى باب المأذون لفضّ شراكة أجهضت بفعل فاعل. كذلك يجد البعض ملاذاً آمناً في الزواج ممن يكبره سناً، وتفيد دراسات أن المتعة الجنسيّة من الأسباب التي تدفع الشاب إلى الزواج بمن تكبره، حيث يرى فيها امرأة ناضجة على المستوى الجسدي والروحي والفكري، أما الفتيات فيهربن إلى من يكبرهن سناً، لتعويض الحرمان أو ربما كنوع من الاعتراض وتحميل الأهل مسؤولية زواج فاشل.
في ظلّ ارتفاع معدلات ما يسمّى خطأ بـ"العنوسة"، وجد القلق من التأخّر في الزواج طريقه إلى البعض، فاندفعوا أو دُفِعوا إلى القبول بأوّل من يطرق الباب، دون التريّث في اختيار شريك الحياة أو اعتماد معايير الاختيار التي تقوم على التفاهم والتناسب بين الطرفين
إذا تأخرت في الزواج فأنت إنسان "تعاني خللاً ما" حسب المعايير المجتمعية، رغم أن الدلائل تشير دوماً إلى أن هناك الكثير من الإيجابيات للزواج في سن كبير، أهمها نضوج الزوجين، وهو ما يقلّل من المشاكل التي يمكن أن تشتعل بينهما
تدلّ المقدمات دوماً على النتائج، وبما أن الزواج لم يقم في مهده على توافق وحب وترابط وتفاهم، فالنتيجة المنطقيّة هي شهادة الطلاق، التي ننسخ منها يومياً الآلاف، حيث أكّد تقرير لمركز معلومات رئاسة الوزراء، خلال عام 2018، أن حالات الطلاق وصلت إلى مليون حالة بواقع حالة واحدة كل دقيقتَين ونصف، فيما وصلت نسبة "العنوسة" إلى 15 مليون حالة، وقُدّر عدد المطلقات بأكثر من 5.6 مليون على يد مأذون، ونتج عن ذلك تشريد ما يقرب من 7 ملايين طفل.
الخلاصة هنا أنك طالما تأخرت في الزواج فأنت إنسان "غير طبيعي" و"تعاني خللاً ما" حسب المعايير المجتمعية، رغم أن الدلائل تشير دوماً إلى أن هناك الكثير من الإيجابيات للزواج في سن كبير، أهمها نضوج الزوجين، وهو ما يقلّل من المشاكل التي يمكن أن تشتعل بينهما، كما أن خوض التجارب الكثيرة قبل الزواج يتيح الفرصة للاختيار الجيد وبالتالي تفادي الطلاق المبكر، إلى جانب عدم الوقوع في فخ الخيانة، وتربية الأبناء بشكل جيد وواع… فالرجل والمرأة وقتها سيكونان على مستوى الوعي والنضج المطلوب، كما سيكونان قادرين على التعامل الإيجابي مع التغيرات الجذرية التي تفاجئ الطرفين، بعد الانتقال من العزوبية إلى الحياة الزوجية، ستكون الفتاة أيضاً مع زواجها في سن كبير، مهيئة على أكمل وجه لخوض غمار الحياة الأسرية والتربوية، جسمياً ونفسياً، بالإضافة إلى زيادة قابلية الإنجاب وأداء مهام الأمومة، وبالتالي القدرة على ممارسة التربية السويّة للأبناء. فيما سيكون الشاب أكثر استقراراً ووعياً بفضل تجاوز فترة الطيش والتهوّر والاستهتار، ويصبح أكثر قابلية لتحمّل المسؤولية ومواجهة أعباء الحياة ومشاكلها، خصوصاً في ظلّ صعوبات اقتصادية، يختار البعض الهروب من قفص الزوجية خوفاً من تحميل نفسه أي منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...