يولد الذكر في مجتمعنا ومعه "الـ package المقدّس” (الصفقة المقدّسة)، المطلوب منه/ منكَ هو الحصول على شهادة جامعيّة من كليات ”القمّة“، من ثم الالتحاق بوظيفة ذات وجاهة اجتماعيّة، بغض النظر عن الراتب الذي تقدّمه الوظيفة، ثم المسارعة بالزواج، كل هذا يحدث ربما في عامين بعد الانتهاء من الدراسة، أو أقل.
ترتفع نسب الطلاق في مصر، بالتزامن مع ارتفاع نسب الإنجاب، مما يشير ذلك إلى علاقة طرديّة بين الأمريْن، نتيجة للـ "الـ package المقدّس“. تحوّل هذا الـ "package المقدّس" إلى الهدف الأساسيّ للحياة؛ بداية من اختيار الكليّة، حيث من العيب أن تختار الكليّة التي تريد الدراسة فيها حقًا، أو تلك المناسبة لميولك، وذلك لأن المجتمع، وقبل الحكومة، قسّم الكليّات حسب مجموع الثانويّة العامّة، وبالتالي أصبحت كليات "القمّة" من أهم أدوات التفاخر الاجتماعيّ، وأصبح الالتحاق بكليّة الطّب أو الهندسة، بمثابة حدث استثنائيّ يدعو للفخر في الأوساط العائليّة.
"النهاردة فرحي يا جدعان"
بعد الدراسة، نلتحق فورًا بالوظيفة، وهنا يحدث الأمر العجيب: يوم عمل واحد في هذه الوظيفة نعتبره واحة استقرار، بلا علاقة لمهارة العمل أو القدرة على الاستمرار أو حتى معرفة سيرورة العمل ذاتها حتى يكون متأكد - الرجل - من ضمان بقائه على خارطة سوق العمل، ومن الصعب، والاستحالة أحيانًا، أن نجد شابًا يستفسر حول دفع مكان عمله للضرائب أو التأمينات أو تصريحات مزاولة المهنة سوية أمام الحكومة من عدمه.
بعد مرور يوميْن على مزاولة المهنة (والمبالغة ضروريّة)، يبدأ الرجل بالبحث عن العروس، رغم أن الراتب لا يكفي لنفقات الزواج، هذا معروف، ولكن وفقًا لبروتوكول تحقيق الإنجازات، لا انجازاته عادة، بل انجازات الأهل، عليه أن يجد عروسًا.. كي يتحدثوا عن هذا الإنجاز في جلسات الأمجاد العائليّة، رغم أنهم هم بدورهم من سيدفع معظم مصاريف الزواج من أجل إنجاز "عرس القرن".
في حديثنا عن النفقات، من المهم الإشارة إلى أنه عادة راتب الوظيفة الجديدة للعريس الجديد لا يكفي للحياة الزوجيّة، وكما هو معروف، يتكفل الأهل بذلك أيضًا، سواء بدعم ماديّ مباشر أو استضافة العريس الذهبيّ وعروسته في بيت العائلة مدة أسبوع أو سنة مثلًا.
ترتفع نسب الطلاق في مصر، بالتزامن مع ارتفاع نسب الإنجاب، مما يشير ذلك إلى علاقة طرديّة بين الأمريْن، نتيجة للـ "الـ package المقدّس“.
في حديثنا عن النفقات، من المهم الإشارة إلى أنه عادة راتب الوظيفة الجديدة للعريس الجديد لا يكفي للحياة الزوجيّة، وكما هو معروف، يتكفل الأهل بذلك أيضًا، سواء بدعم ماديّ مباشر أو استضافة العريس الذهبيّ وعروسته في بيت العائلة مدة أسبوع أو سنة مثلًا.
"تم الفرح على خير"، ومن المفترض في مثل هذا السياق، الماديّ أقصد، أن يتروّى العروسان قبل التهوّر بالإنجاب، ولكن نظرًا لأن الإنجاب هو بمثابة شهادة الصلاحيّة الجنسيّة للذكر، فإن فكرة تأجيل الإنجاب غير مطروحة أبدًا، بل مصيبة أحيانًا.
التهوّر بإنجاب الأطفال
"تم الفرح على خير"، ومن المفترض في مثل هذا السياق، الماديّ أقصد، أن يتروّى العروسان قبل التهوّر بالإنجاب، ولكن نظرًا لأن الإنجاب هو بمثابة شهادة الصلاحيّة الجنسيّة للذكر، فإن فكرة تأجيل الإنجاب غير مطروحة أبدًا، بل مصيبة أحيانًا.
عادة، يقدّم هذا الـ ”package المقدّس“ معه ثلاثة أطفال، قبل أن يستيقظ من سباته أحد الشريكيْن، وعادة يكون المتذمّر هو الرجل الذي يشارك تذمره في الغرف المغلقة مع أصدقائه، ليكتشف أنه آخر من وصل إلى الصّف، حيث سبقوه زملائه بالتذمر من قبل. ولو دخلت الغرفة المغلقة، ستجد صدى شتيمة "أبو الجواز ع اليوم اللي تجوّزت فيه" يصطدم في الحيطان كلّها. وتتواصل السمفونيّة بالحديث عن المرتاحين في الحياة لأنهم لم يتزوجوا باكرًا، وعن فرص العمل التي ضاعت بسبب صعوبة المغامرة المهنيّة في ظلّ وجود زوجة وأبناء وبنات، وعن الأسرة التي تلتهم الوقت ولم يعد هنالك وقتًا "للمسكين" بأن يحسّن مهاراته الحياتيّة.
جلسات الأصدقاء قبل وبعد الزّواج
أقارن بين جلساتي مع أصدقاء اليوم وتلك التي كانت قبل عشر سنوات، مع فارق العمر والاهتمامات بالطبع، من الحديث عن آخر ألبومات عمرو دياب وشاكيرا ومشاوير السينما، وهموم اليوم، من ضبط زميلة صحافيّة لزوجها وهو يخونها مع زميلته في العمل، وزميلة أخرى يعرقل زوجها سيرورة عملها لأنه يغار من نجاحها! صديقة أخرى أم لثلاثة أطفال، أنجبتهن ضمن تعاليم الـ ”package المقدّس“ وتريد الطلاق من زوجها، لكن عدم قدرة زوجها على دفع نفقات الطلاق، جعلتها ترضى بالانفصال عنه وهما ما زالا تحت سقف واحد، وغيرها من القصص الناتجة عن التسرّع في قرارات مصيريّة، سيواصل دفع فواتيرها العديد من البشر.
إنّ المبهر في الأمر، أن من جرب وندم - إنّ صحّ التعبير - لا يسرد قصصه علنًا، إلا أمام من يمرّ بتجربة شبيهة. لماذا؟ لأن البروتوكول الشعبيّ أيضًا ينصّ على أنّ الرجل معصوم عن الخطأ. فالرجل في مجتمعنا يشتكي الرئيس والحكومة وإسرائيل التي تتآمر على رجولته، والنساء الذين يتحرشون به بملابسهن! وهو يا عيني، لا يُخطئ.
مجتمع مسؤول عن الطلاق ويعيبه
بالعودة إلى الطلاق، حيث من الجدير بالإشارة أن من يقدر على الطلاق، من الأزواج، ومعهم أبناء وبنات، حتى لو أنجبا طفلًا واحدًا، سيواجهون العديد من المشاكل الماديّة والاجتماعيّة وسط مجتمع يرى الطلاق عيبًا، خاصّة على النساء، كما وأنه لا يوجد في قاموسنا ما يُسمى بـ "الطلاق الهادئ"، بل من المفترض أن يكون أحد الطرفيْن مجرمًا بحق الآخر، والآخر حمل وديع في المعادلة، حيث يحشد كل منهما سلاحه كي يُظهر أنه المنتصر.
لا من قوانين لشيء، لكن عندما تتكرر ظاهرة اجتماعيّة وتزداد، من المهمّ طرح السؤال حول مسبباتها، لا لأنها تقع في خانة "الصّح أو الخطأ"، بل من أجل التقليل من عدد الضحايا غير المذنبين في واقع يزداد صعوبة بشكل عامّ، ويزيد صعوبته هذا الـ ”package المقدّس“، الذي ينتج عنه كوارث تُرجمت اليوم في مجتمعنا المصريّ إلى أرقام مروعة عن زيادة سكانيّة خرجت عن السيطرة، كما وارتفاع نسب الطلاق. الطلاق أمرٌ لا عيب فيه، لكن العيب هو أن المجتمع بأساسه غير مؤهل للتعامل معه أو قبوله، والأسوأ، إنه سيعيب المرأة المطلقة تحديدًا، طوال حياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...