"أردت أن أسافر إليك في القدس حتى أطمئنَّ وأهدّئ من روعك، توجّهت بطلبٍ إلى الحاكم العسكري بعد ظهر يوم الأربعاء لكي أحصل على تصريحٍ لدخول القدس، لكن طلبي رُفض، لطالما حلمت بأن أشرب معك الشاي في المساء (...) أؤكّد لك مرّة أخرى أنني معك، وأنك لست وحدك. ربما ستعانين بسببي، ولكنني أقف إلى جوارك".
كان هذا جزءاً من خطابٍ أرسله الشاعر الفلسطيني محمود درويش، إلى حبيبته اليهودية تامارا (ريتا)، في الخمسينيات، يعبّر فيها عن غضبه من رفض الحاكم العسكري الإسرائيلي، السماح له بالدخول إلى القدس لمقابلتها.
كانت معاناة درويش في حبّه البعيد، الحبّ الذي يفصل بينه حدود وأزمات اقتصاديّة وسياسيّة وحروب ونزاعات، جسّدها في جملته الشعريّة الشهيرة التي غنّاها مارسيل خليفة "بين ريتا وعيوني بندقية"، لم تكن هذه يوماً معاناة درويش وحده، ولكنها كانت معاناة كثيرين ممن وقع حظّهم في علاقةٍ عاطفيّةٍ عابرةٍ للحدود، وأحياناً القارّات.
وبين مصر وفلسطينيي غزّة، والمغرب والجزائر، ولبنان والكويت، كانت هذه الشهادات التي وثّقت علاقاتٍ عاطفيّةً بعيدةً، وقفت بين طرفيها الحروب والنزاعات وحتى المشكلات التاريخيّة.
الحدود ليست تراباً
يحكي الشاب المغربي، صفوان نافع، 29 عاماً، مدوّن وباحث، عن أزمته الدائمة والمستمرّة في العلاقة العاطفيّة التي تجمعه بصديقته الجزائريّة الوهرانيّة، والذي يعجز عن لقائها منذ حوالي عامين، بسبب قرارٍ سياسي في الأساس.
يقول صفوان: "التقيت بصديقتي في إحدى رحلات العمل منذ 3 سنوات تقريباً، هي جزائريّة تقيم في وهران، وأنا مغربي أقيم في مدينةٍ حدوديّةٍ قريبةٍ من المغرب، ساعات قليلة فقط تفصلنا عن اللقاء، ولكن بسبب قرارات سياسيّة، لا نستطيع اللقاء".
ويتطلب السفر من المغرب إلى الجزائر تأشيرة سفرٍ مسبقة، كما أن الحدود البريّة مغلقةٌ تماماً بين البلدين منذ تفجيرات مراكش 1994، والتي اتهمت فيها الحكومةُ المغربيّة نظيرتَها الجزائريّة بالضلوع فيها، بينما ترفض الجزائر الاتهامات وتعتبرها تجاوزاً بحقِّ الحكومة الجزائريّة لذلك ترفض فتح الحدود إلّا بشروط.
يعتبر صفوان قرار العبور المتبادل بين المغرب والجزائر بدون تأشيرة سفر، لن يساعده في أزمته، ويقول: "بدلاً من قيادة سيارةٍ لمسافة ساعتين أو 3 ساعات فقط، سيكون عليَّ الانتقال من مدينتي لأقرب مدينةٍ فيها مطار، مسافة 10 ساعات بالقطار، وشراء تذكرة طيران غالية السعر، والنزول في مطار الجزائر العاصمة واستقلال القطار لمسافة 12 ساعة تقريباً حتى أصل إليها، كل ذلك يزيد من الأزمة، تكلفة ماليّة عالية جداً تقف في النصف بيننا"
"صديقتي تحمل وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهذا كابوس، أي أنك من المستحيل أن تحصل على تأشيرة دخول كثيرة بوثيقة سفر... تحديدا الفلسطينية منها"
وعن علاقتهما حالياً، يحكي صفوان: "نكتفي الآن بالهاتف وتطبيقات مكالمات الفيديو عبر الإنترنت، وننتظر أيَّ جديدٍ قد يساعدنا في حلِّ المشكلة، سواء رحلات عمل تجمعنا مجدّداً، تقلّل من التكاليف، خاصّة في ظلِّ الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي تمرُّ بها المغرب والجزائر على حدٍّ سواء، وعدم استقرار نظام عمله".
هنا غزة من القاهرة
قصّةٌ أخرى بطلها شاب مصري تجمعه علاقةٌ عاطفيّة بصديقته الفلسطينيّة المقيمة في قطاع غزّة المحاصر، التي أصبحت زوجته بعد محاولات استمرّت سنوات، لم يكن يستطيع مقابلتها ولا يُسمح لها بالعبور من المنفذ الوحيد للقطاع، معبر رفح الدولي، نتيجة سياساتٍ جديدةٍ تنتهجها مصر تجاه القطاع، بسبب الأوضاع الأمنيّة في سيناء منذ سنوات.
وتُعتبر شبه جزيرة سيناء مسرحاً للعمليات الإرهابيّة للجماعات المسلّحة التي تستهدف قوات الجيش والشرطة المصريّة، في ما يؤثّر كلّه على حركة العبور البرّي بين مصر وغزة.
ويروي محمود عمران (اسم مستعار)، 32 سنة، يعمل في مجال الإعلام، قصّة زواجه بعد سنوات من المحاولات والطلبات والتمنّي.
يقول عمران: "كانت زوجتي قبل زواجها تعمل في إحدى منظّمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة في قطاع غزّة، لأكثر من عامين حاولنا الحصول على تصاريح للسفر من القاهرة، ولكن كانت الطلبات يتمّ رفضها دائماً، دون ذكر أيِّ أسبابٍ حتى".
ويُكمل الشاب: "في بداية الأمر حاولنا التحايل على الأمر، بأن نلتقي في الأردن، فهي تعمل في الأمم المتحدة ويسهل عبورها للأردن عبر السماح بدخولها الضفّة الغربيّة، ولا يتطلّب السفر للأردن تأشيرةً مسبقة للمصريين، وبالفعل كنا نلتقي بهذه الطريقة".
"ولكن بعد مدّة أصبح الأمر مرهق ماديّاً ونفسيّاً، نريد أن نتزوّج، وتنتقل الفتاة للعيش في القاهرة، حتى قرّرنا الزواج عن طريق الوكيل، بأن وكّلت شخصاً لإتمام إجراءات الزواج، وحدث ذلك بالفعل"، يحكي عمران.
ويضيف الشاب: "بعد إتمام الزواج وتحرير العقد وتوثيقه في السفارة الفلسطينيّة في مصر، وعبر تدخّلٍ من المنظمة التي تعمل فيها الفتاة، استطعنا الحصول على موافقةٍ واستثناءٍ لكي تعبر إلى مصر عبر معبر رفح، وبالفعل وبعد معاناةٍ لسنوات، تزوّجنا ونعيش حاليّاً في القاهرة".
مسافة: سفر وأموال، وفروق توقيت
قصّة أخرى بطلها شاب كويتي، يعيش في أمريكا للدراسة، تعرّف على صديقته المقيمة في إحدى رحلاته إلى بيروت، التقيا في إحدى كافيهات شارع الحمرا ء بوسط العاصمة، ظلّا سويّاً لأيامٍ حتى انتهت رحلته، ولكن بدأ معها رحلةٌ جديدة.
الشاب الكويتي الذي رفض ذكر اسمه، يبلغ 29 عاماً ويدرس الماجستير في إحدى جامعات غرب أمريكا، يحكي عن معاناةٍ جديدةٍ في علاقته بصديقته، ليس فقط تكاليف السفر الطائلة من لبنان إلى أمريكا، ولا حتى المسافة الكبيرة بين البلدين، ولكن حتى فروق التوقيت ليست في صفّهما.
يقول الشاب: "ليس بمقدورنا اللقاء بسهولة، نحن في بلدين يفصل بينهما آلاف الأميال، وأنا أعمل إلى جانب الدراسة، ليس كما يتصوّر البعض عن الشباب الخليجي أن بمقدوره فعل كلِّ شيء، ولديه ما يكفي من الأموال للسفر والانتقال في أيِّ وقت".
"لطالما حلمت بأن أشرب معك الشاي في المساء (...) أؤكّد لك مرّة أخرى أنني معك، وأنك لست وحدك. ربما ستعانين بسببي، ولكنني أقف إلى جوارك"
ويضيف: "فروق التوقيت بيننا كبيرة، في الوقت الذي أكون فيه متاحاً تكون هي غير متاحة، أنا نائم وهي تدرس، أنا أعمل وهي نائمة، وهكذا، وكلّما فكّرنا في السفر واللقاء في دولةٍ قريبةٍ في المنتصف، نجد أزماتٍ متعلّقةً بتأشيرة سفرها، ما يعيق الأمر ويزيده تعقيداً".
"الفتاة تحمل وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهذا كابوس، أي أنك من المستحيل أن تحصل على تأشيرة دخول الدول بوثيقة سفر، دول قليلة جداً التي تسمح بعبور حاملي وثائق السفر، وتحديداً الفلسطينيّة منها، وكلُّ محاولات الحصول على تأشيرةٍ أوروبيّة، فشلت في النهاية".
ساعدت التكنولوجيا والانترنت بشكل أو أخر في استمرار هذه العلاقات البعيدة، ومنحت قبلة الحياة لعلاقات كادت أنت تنتهي لو كانت في عصور سابقة.
بعض من تحدثوا إلى "رصيف 22" حكوا قصصهم عن العلاقات العاطفية البعيدة، أكدوا أن بعض التطبيقات والإنترنت، ساعدت كثيرا، نعم لا يستطيعون اللقاء، ولكنهم تمكنوا عبر تلك الوسائل من أن يتحدثوا معا، ويتناقشوا حول "أزمتهم"، بل ويطوروا لغتهم الحميمية في تبادل المشاعر والأفكار والخيال.
قديماً، كانت أشهر العلاقات البعيدة، تلك التي جمعت بين الشاعر والكاتب جبران خليل جبران، مع الكاتبة والروائيّة مي زيادة، العلاقة العاطفيّة التي استمرّت 20 عاماً، لم يلتق فيها جبران بمي ولو مرّة واحدة، اكتفيا بالرسائل البريدية المتبادلة.
يقول جبران لـ مي في رسالته العاشرة بتاريخ 26 فبراير 1923:
تقولين لي أنك تخافين الحبّ
لماذا تخافينه يا صغيرتي؟
أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مدّ البحر؟
أتخافين طلوع الفجر؟
أتخافين مجيء الربيع؟
لما يا ترى تخافين الحبّ؟
أقول يا مي أن في الإرادة الحصول،
فلا تخافي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...