تشكّلت "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" مع بداية الحرب (1982)، من ذويهم. تعمل حتى الآن، ضمن تحالفات وطنية ودولية عدة (جمعيات إنسانية، حقوقية والصليب الأحمر) من أجل تحميل الدولة مسؤولياتها كاملة تجاههم، فردًا فردًا، احترامهم ككيانات حقة، لها أجسادها وفكرها وروحها، وعدم السماح بالتعامل معهم كأرقام منسية. رأيتها ذلك الصباح تمامًا، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، على طرف حي "بدارو" البيروتي. مشرقة كالعادة، باسمة الثغر وعينين اللوز الواسعة كما كل مرة، تسير حرًّة، منطلقة، كأن قدماها بالكاد تطآ الأرض. بالقدر الذي أعرف به وداد عن قرب، أسمح لنفسي أن أتخيل أنها ألطف من أن تدوس حتى على زفت الطرقات: هي باليرينا الشوارع والساحات، ترقص بصندل رياضي صيفًا وحذاء دكتور مارتن شتاءً، هذا النوع الذي نتفق على حبّه، كما نتفق على حب أشياء بسيطة أخرى، نحن اللتان، إذا اجتمعنا، نعود لعمر الـ 18 سنة… أو أقل. "ووووه": صرخت لها من على الرصيف المقابل بحماسة تفلت مني عند اللقاء صدفة بمن أحب. فرحت بي. اقتربت نحوي. سبقتني، خجلتني. كانت كل واحدة تركض باتجاه، هي نحو "المجلس" وأنا إلى المكتب. توقفنا، سرقنا لحظات من الزمن اللاهث. حدثتها عن موعد معها كنت قد أجلته منذ أكثر شهر لظروف حياتية. أخبرتني أنها ذاهبة الآن إلى البرلمان اللبناني لتعرف ماذا سيحصل في هذا النهار المعقودة خلاله جلسة للنواب… ثم اتفقنا على قعدة قريبة، الأسبوع التالي، أسبوعًا قد قررت أن تخصصه لنفسها والراحة. لم يخطر ببالي أن ذلك الصباح هو افتتاحية ليوم تاريخي في النضال المدني، فيه أُقرّ، أخيرًا، قانون المفقودين والمخفيين قسرًا خلال الحرب، متضمنًا المادة 37 المُطالبة بمعاقبة المسؤولين. ووداد (حاف) الصديقة، هي أيضًا "وداد حلواني" رئيسة لجنة الأهالي، زوجة عدنان المخطوف العتيق، ربة أربع عقود من ألم فراق يعود في موسم ذكراه كل عام، ربة تعب وشقاء لم يهزما الوعي بحق معرفة مصير عدنان ورجال آخرين، وأطفال، ونساء غُيبوا غدرًا وعنوًة فقط لأنهم سلميون في خضم صراع شرس، ربة أرق وقلق على أب أولادها وأباء وأمهات وفلذات أكباد خرجوا ولم يعودوا، فعُلقت وآرائهم، على عتبات البيوت، أسئلة عن الصحة والسلامة، الموت والحياة، السجن والتعذيب… والذاكرة.
لم يخطر ببالي أن ذلك الصباح هو افتتاحية ليوم تاريخي في النضال المدني، فيه أُقرّ، أخيرًا، قانون المفقودين والمخفيين قسرًا خلال الحرب، متضمنًا المادة 37 المُطالبة بمعاقبة المسؤولين.
وداد (حاف) الصديقة، هي أيضًا "وداد حلواني" رئيسة لجنة الأهالي، زوجة عدنان المخطوف العتيق، ربة أربع عقود من ألم فراق يعود في موسم ذكراه كل عام، ربة تعب وشقاء لم يهزما الوعي بحق معرفة مصير عدنان ورجال آخرين
أتعلّم منك أن الحبّ الأصيل غير مربوط بشخص، غير مشروط بزمان ولا مكان. هو حب للحق والعدالة والإنسان خارج كل العلب والإسقاطاتقد يكون أكثر شيء أكرهه في العالم هنّ "المعلمات" بالصيغة التقليدية الخانفة، وأعتقد أن لدى وداد الشعور نفسه، مع العلم أننا، نحن الاثنتان، خريجتا كلية التربية. … وإنما، عزيزتي "ودادو"، أتعلّم منك أن الحبّ الأصيل غير مربوط بشخص، غير مشروط بزمان ولا مكان. هو حب للحق والعدالة والإنسان خارج كل العلب والإسقاطات، إرادة تغفو من أجل أن ترتاح وتفيق من جديد، أقوى هذه المرة. روح تبقى شابة ما دامت قادرة على التمرد. ولبطة مواطنة عادية، امرأة غير عادية، عندما صفعها صبي أمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...