بعد ندبٍ مطوّل على المسرح السوري، يبدأ الممثّل المعتزل في مونودراما "آخر الرايات" (نص وتمثيل وإخراج تمام العواني، أبريل 2019) برفع صور لأسماء هامّةٍ في تاريخ المسرح السوري، كسعد الله ونوس وفوّاز الساجر وفرحان بلبل وغيرهم، ممن يرى فيهم قدوةً، متباكياً على الأمجاد التي ولّت، مكرّماً أعمالهم ببديهيّةٍ تُخيف المرء من التشكيك بأيّ منهم، رغم احترام إنجازاتهم، أو طرح تساؤلٍ حول سبب استعراض وفرض أهمية من مضى بلهجة الواثق من عدم قدوم أيٍّ بعدهم، ما يذكّرني باللوحات المتنقّلة في كافة الفضاءات والتمجيد المفروغ منه لكلِّ القامات حدَّ التأليه، واتهام كلِّ من يحاول توجيه انتقادٍ أو رأي ما حول أحدها.
كما يحاول الرجل المنعزل بين النفايات أمام حاجز عسكري في مونودراما "أنا الذيب" (اقتباس زهير عقلة، تمثيل وإخراج تاج الدين ضيف الله، أبريل 2019) أن يسأل الجندي الميت مقطوع الرأس، والذي اتضح أنه أخوه بميلودراميّةٍ باكية: "أنت اللي كان حامل البارودة أو يلي كان هربان من البارودة؟" ليضعه في خانة الثنائيات بين أبيض وأسود لا مزيج بينهما، بين ظالمٍ ومظلومٍ، عدوٍّ وصديق، ويردّد في موقعٍ آخر: "الله، يا الله، اليوم عيد، وأخيراً رح تاكل خبز، مو حيالله خبز، خبز طري وتازة متل الطالع من الفرن"، ليكرّس صورة المواطن الفقير الذي يعرف مكانته، الراضي والفَرِح بأيّة نعمة تُسبغ عليه، وكأن الرضا يتركّز بلقمة العيش التي بات تأمينها صعباً على الكثيرين.
لمَ المونودراما؟
لطالما تردّد سؤال "لمَ المونودراما؟" بين الكثيرين، لكنه نشأ لديَّ بعد أن أصبحت كلُّ مشاهداتي في مسرح القباني حكراً عليها، وهو الشكل الأسهل لدعم الشباب أو لاستعراض النجوم وتحريك برود المحترفين، فلا فرق ثابتة في المسرح السوري ولا ريبرتوار يُستأنس به، إلّا أن المونودراما وحدها هي المزدهرة كمّاً، وبعروضٍ متواترة، وكأن خشبة القباني تنسخ عرضاً بعد آخر، وباستطاعتها اختزان وتوليد كمٍّ لا يحصى من الصرخات والخيالات المتوالية.
ليس ذلك حكراً على المونودراما فحسب، ولكنني أجدها المثال الفجَّ الأوضح للتناقض الكامن بين السلطة وممارساتها ودعايتها في آن، بين ادّعاء تشجيع الاختلاف، وبين الممارسة الفجّة بكلِّ الأشكال لتوحيد الخطاب: المونودراما كمنبرٍ للفرد، وكاختزالٍ للأفراد.
المونودراما فنُّ الممثل الواحد، يجسّد ذاته في صراعاتها الداخليّة والخارجيّة، فيعالج موضوعاتٍ مختلفةً مثل الذاكرة وغيابها، الوحدة، الطموح وغيابه، أو الحبِّ وغيرها من موضوعات إنسانيّة. وقد يجسّد شخصيةً خياليّةً أو سحريّة تعبّر عن فكرة. يعتمد الممثل في المونودراما نتيجة غياب الحوار مع ممثلين آخرين، على وسائلَ خطابيّةٍ متعدّدة، مثل السرد لكشف الحوادث، الروي كمنبرٍ تواصلي مع الجمهور، التداعي لكشف الانفعالات والتفاعل مع الحوادث، التشخيص الذي يساعده على استحضار شخصيّاتٍ أخرى سواه، والتعبير عن آراء وحوارات سابقة عبر التنقّل المتناوب بينه وبين الشخصية المُسْتَحْضَرة، الارتجال والحوارات مع المتخيّل حيث تتضافر الوسائل الخطابيّة مع الأدائيّة مع السينوغرافيا والأغراض، لأجل الانتقال إلى مستوياتٍ عدّة من الخيال والمشتهى، الصورة التي نرغبها لأنفسنا، الذوات المتعدّدة وكافة التقمّصات التي يمكن أن نتبنّاها، كما يتجلّى ضمن المونودراما مناخٌ فانتازي وصوفي، وتستعير من أنماط الأداء المرتبطة بأدوارٍ شهيرةٍ أسطوريّة، كالساحرة ورجل الكهف والرموز الحيوانيّة، ما أدّى إلى ازدهار هذا النوع الفنّي في ظلِّ المذاهب الفنيّة سليلة الرومانسيّة وفوق الواقعيّة من سرياليّة وتعبيريّة، لأنها دراما هذيانات الفرد، الحوار الداخلي من خلال مكبّر الصوت، أو الخيالات الداخليّة مصوّرة، وبالتالي إعلاء للذاتيّة، في أشدّ الصور الخياليّة التي نستطيع من خلالها تسريب أيّة صورة نريد تسريبها للإنسان.
صورٌ منمّطةٌ مرغوبٌ فيها يتمُّ تكريسها على الخشبة السوريّة الآن هنا، اختزالٌ وتبسيطٌ لمعاناة الإنسان، وإقصاءٌ للمختلف، في دراما تعتمد على الذاتي وعلى الإنسان المتفرّد، لإعلاء حقِّ الاختلاف وكون الفرد ذاتاً لا تشبه غيرها. وهنا لست في صدد الحديث عن غياب الممثّل الجيّد المتمكّن لأسباب عدة، قد تتجلّى في كونه مخرجاً لعرضه رغم موهبته واستعداداته، ولا عن الديكور الذي يتجسّد بأغراضٍ وتكويناتٍ فجّة لا متجانسة، ولا عن الاستسهال في تكوين النصِّ المرتجل أو المكتوب، وغياب المَنطَقة (إحدى المهام الدراماتورجيّة) الواضح في أغلب هذه النصوص التي يحكمها التشتّت والتعارض، دون أن تكون الموضوعة هي تناقضات الذات، بل أتحدّث عن الاستسهال في تمويل هذه العروض التي لا تحتاج إلى ميزانيّةٍ كبيرة، كعروض الهواة أيضاً، فلنتحدّث عن سوريا عبر مقاربتها بقريةٍ وحبيبين، يتحكّم بمصيرهم صراع عائلات القرية وإحاطتها برجل دينٍ وتاجرٍ مبتز، وهيّا عبر المونودراما التي قد توحي للوهلة الأولى بإعلاء شأن الذاتيّة والاختلاف، لنختزل الأفراد في هيئةٍ واحدةٍ، ونعيد تشكيلهم لنجبرهم على وعي جمعي مشترك موحّد، كما الإعلام، وكما كافّة أشكال الفنون المدعومة.
وهكذا تتحوّل المونودراما إلى تنميطٍ آخر يوجّه تلك الفردانيّة في المسار الرومانسي المتباكي على أمجاد الماضي، المعتزّ بها، والمتعاطف مع ذاته إلى درجة التحنيط وعدم الرغبة في المضي قدماً، والمتعاطف مع أخيه الذي يشبهه في ذلك، فلا صدامات محبّبة، ولا اختلافات توسّع الرؤية.
صورٌ منمّطةٌ مرغوبٌ فيها يتمُّ تكريسها على الخشبة السوريّة الآن هنا، اختزالٌ وتبسيطٌ لمعاناة الإنسان، وإقصاءٌ للمختلف، في دراما تعتمد على الذاتي وعلى الإنسان المتفرّد، لإعلاء حقِّ الاختلاف وكون الفرد ذاتاً لا تشبه غيرها.
تتحوّل المونودراما إلى تنميطٍ آخر يوجّه تلك الفردانيّة في المسار الرومانسي المتباكي على أمجاد الماضي، المعتزّ بها، والمتعاطف مع ذاته إلى درجة التحنيط وعدم الرغبة في المضي قدماً.
يتحوّل المسرح السوري في كثير من الأحيان إلى منبرٍ آخر يوازي طرح إعلامنا في أحاديته، فهو قصص مجتزأة تعبّر عن خطاب المخرج لا الشخصيّة، تلغي، بشكلٍ أو بآخر، السياق العام لكافّة المشكلات، وتصبح تعبيراً تفريغيّاً عن الذات.
مونودراما المخرج لا الشخصيّة
ليس ذلك حكراً على المونودراما فحسب، ولكنني أجدها المثال الفجَّ الأوضح للتناقض الكامن بين السلطة وممارساتها ودعايتها في آن، بين ادّعاء تشجيع الاختلاف، وبين الممارسة الفجّة بكلِّ الأشكال لتوحيد الخطاب: المونودراما كمنبرٍ للفرد، وكاختزالٍ للأفراد. فحين نراقب شخصاً واحداً فقط على الخشبة، قد ينتابنا شعورٌ بالتعرّي في أكثر الحالات إيهاماً بالصدق أو البوح أو حتى الاعتراف: فردٌ وحيدٌ أمامنا، وقد ينتابنا إحساس بملكيّته للخشبة وكأنها منبر للتعبير عن الذات، فنستمع إليه ونحاول فهمه، أيشبهنا أم يختلف عنا، أم أنه موجّه يحمل رسالةً ما يحاول إشباعنا بها، وحين نعطيه تلك المصداقية لكونه ذات مثلنا تخاطبنا، وتعترف لنا، فينشأ لدينا زهو الشهود على عري واعتراف ما، فنحن من يتفهّم ومن يصفح، ونتحاور مع ذاتنا في آن، لكنه سيتمكّن من خداعنا وإيهامنا حين يعبّر عن ذاتٍ واحدةٍ مرغوبٍ بها، عن صورةٍ معيّنة، دون أيّة محاولةٍ للكسر أو المواجهة. فربما تكون المونودراما سليلةً لأشكال التعبير العلني عبر التاريخ كالخطابة، وتشبه أصوات المواطنين السوريين الملتقطين من قبل منابر الإعلام السوري، معبّرين عن شكرهم وتذمّرهم بتوجيهٍ واقتضاب، حيث يعير الإعلامُ الميكروفون للمواطن كي يعيش المونودراما الخاصّة به للحظات مراقبة، كما أنها تتحوّل إلى شكلٍ مائعٍ ومتفجّرٍ لخطب المسؤولين والوجوه البارزة في دفاعهم عن ذات السلطة وتعبيرهم عن خططهم وعِبَرِهم.
أركّز على المسرح السوري الحالي، وهو فنٌّ مهجورٌ كما السينما السوريّة، بجمهورٍ محدودٍ مقارنةً مع جماهير الدراما التلفزيونيّة التي تستحوذ على التمويل الأضخم من قبل شركات الإنتاج، وبتشجيعٍ أقلّ مترافقٍ مع خطبٍ واعظةٍ حول أهميّتهما وواجب دعمهما، وإنتاجٍ باهتٍ في معظم الأحيان، ليتحوّل المسرح في كثير من الأحيان إلى منبرٍ آخر يوازي طرح إعلامنا في أحاديته، فهو قصص مجتزأة تعبّر عن خطاب المخرج لا الشخصيّة، تلغي، بشكلٍ أو بآخر، السياق العام لكافّة المشكلات، وتصبح تعبيراً تفريغيّاً عن الذات، يعتمد نصوصاً مرتجلة، ليتحوّل البَوْحُ على الخشبة إلى اعترافٍ مخلّصٍ ومريح، يعتمد على تمثّلنا فيه وصفحنا له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...